سير وأعلام

عبدالعزيز المانع: عالم راسخ من بلادي

عبدالعزيز المانع: عالم راسخ من بلادي

هذا الكلام لا يُلقى جزافًا؛ ذلك أن تسابق الجوائز المرموقة إلى تكريمه وعلى رأسها جائزة الملك فيصل عام (1430=2009م) ليست من المجاملة في شيء، وأن حرص المؤسسات الثقافية والدوريات المتخصصة على وجوده قريبًا منها عضوًا ومشاركًا ومناقشًا ومحكمًا لم يأت لإرضاء أحد، كما أن استضافته من جامعات وملتقيات عربية وعالمية للمحاضرة فيها بصفة الأستاذية لم يكن يومًا من الدهر منحة كرماء وحسب، ثمّ إن تخصيص جامعة عريقة مثل جامعة الملك سعود أحد كراسيها البحثية والعلمية باسم: “كرسي الدكتور عبد العزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها” إلى جوار أسماء الملوك والأمراء والأثرياء ليشير بجلاء إلى ما نرمي إليه.

لذا فليس بكثير أن يقال عن عالم اللغة العربية، والخبير بإرثها العظيم، والمتذوق لآدابها الجميلة، الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع المولود في شقراء عام (1362=1943م) إنه عالم راسخ من بلادنا التي انبعث منها نور خالد، فحفظ النور المبين لغتنا متماسكة حية متطورة، وأكرم الله فئامًا من عباده فشاركوا في هذا الشرف السامي تعليمًا وتأليفًا وتحقيقًا، وصدًا للعوادي والأباطيل، بعمل منهجي، بعيد عن الأضواء؛ بيد أنه ينشر من الآثار ما له خصيصة البقاء، والعبق، والتوارث من جيل لآخر.

كما أن إسهامات عالِمنا وأحد أشياخ العربية في عصرنا تبدو شاهد صدق على ما يستحقه من ثناء؛ فله أجيال من الطلبة بمختلف المراحل الجامعية، وأنواع من الجهود العلمية إبان عمله الجامعي في جامعتي أم القرى ثمّ الملك سعود وهي الأطول مدة، أو في مشاركاته المنبرية المحلية والدولية خلال أربعة عقود وأزيد. ويتلو ذلك تحقيقات، وتآليف، وأبحاث، ومراجعات، وإشراف على رسائل علمية، والوقوف بهمة شاب على عتبة الثلاثين لا بعجز شيخ تجاوز السبعين خلف الكرسي الجامعي وندواته ومطبوعاته وبرامجه، مع الحرص على حضور الكرسي المثمر في أيّ محفل فيه للعلم مكان أو للكتاب سوق، وإقامة برامج تدريبية في تحقيق المخطوطات، وتنمية الكفاءة النحوية، وفي مجال اللغة والإبداع، وكتابة البحوث العلمية، وتحرير الأساليب الأدبية، والتصحيح الإملائي، والله يمد في عمره وعافيته على خير وأجر وسعادة.

دع عنك هذا؛ فلربما يتشارك بعض العلماء والخبراء والأساتذة مع أ.د.المانع بهذه الخلال، لكني أجزم أن هذه المنجزات الكبيرة نادرة الاجتماع مع سمت نفيس يضاف للعلم والفهم، فهو غير كَلِف باللقب العلمي إن كُتب أو ترك، أو إن نُودي به أو بدون، وليس هذا فحسب بل حين طلب إليه ظهور إعلامي أبى وتمنّع المانع بحجة أنه تزاور عن وهج الصورة في شبابه وأول عمره؛ ولن يقبِل عليها في عشر السبعين؛ ولكأنه يقول لهم: مالي ولكم، فالوقت كله للعلم وما يدور حوله، وهو سلوك يوافق تعامله مع الإطراء الذي يسمعه من الآخرين عنه إذ يراه -بلا تصنّع- مبالغة؛ وتلك صفة عزيزة، ولا يمكن الوثوق بهذا التواضع المعتاد إلّا بوجود دلائل أخرى، وهي ظاهرة في أستاذنا ومسلكه الجاد المنزوي عن أيّ بهرجة، البعيد عن أيّ انتهاك لقداسة العلم، أو مساس بحماه.

ثمّ إنه مع مقامه العلمي وقيمته المعنوية؛ لم يجد حرجًا في نفسه أن يستقبل بالرضا والشكر رسالة من صاحبه عالم اللغة الكبير البروفيسور أبو أوس الشمسان، وفيها تصويبات على كتاب البروفيسور المانع الأثير على نفسه “على خطى المتنبي”؛ الذى قضى معه سنوات عددًا سفرًا وحضرًا، وجمع فيه علوم البلدان واللغة والشعر والتاريخ، ولم يكتف بقبول الرسالة، ولا بشكر صاحبها، ولا بإضافتها في طبعة لاحقة أو التصويب دون إشارة، وإنما نشرها أمام الناس في الجزيرة الثقافية؛ وكأنه يمنح لطلاب العلّم درسًا عمليًا في كيفية التعامل مع النقد العلمي! وفوق ذلك كله اعترف المانع بأنه يرجع لأبي أوس في مسائل لغوية كثيرة، وما أثقل اعتراف المتعاصرين والأقران بفضل بعضهم إلّا إذا كانت النفوس كبارًا كما يقول المتنبي الذي دخل المانع في ضيافته كما فعل غيره من العلماء والمحققين منذ بزغ نجم أبي الطيب.

ولأن عالمنا بهذه المكانة؛ فقد تلقى المجتمع العلمي كتبه المؤلفة أو المحققة بقبول لافت، وتفاعل طيب، وحرص يشابه لهفة الضمآن إلى الماء البارد، مثلما يمكن رصده في التعاطي مع كتابه عن المتنبي، وترجمة بعض تحقيقاته إلى لغات أجنبية مثل الإيطالية، والرجوع إليها ضمن المؤلفات الرزينة والأطروحات الجامعية العليا. ومن لطيف أعماله المحققة أن حفظ أحدها وفاء الزوجات بعد رحيل الأزواج عندما نشر أ.د.عبدالعزيز كتابًا لابن مرزبان عنوانه “من توفي عنها زوجها فأظهرت الغموم وباحت بالمكتوم”، ومع أنه رثاء حزين، وشعر بكائي، إلّا أنه في منتهى الجمال كما يقول العالم المحقق.

ومما يلفت النظر في سيرة البروفيسور المانع تلك البركة التي يُحمد الله المنعم عليها، فمع عكوفه العلمي، لم ينقطع عن المجتمع؛ فله مشاركات في الندوات والأندية الأدبية والمراكز الثقافية، ومقالات تنشر في مطبوعات وصحف ومجلات ودوريات، وسفر محلي ودولي، وعضويات قريبة وبعيدة، ولعل سر هذه البركات يكمن بعد توفيق الله بسماعه نصيحة المشرف عليه عقب نيله الدكتوراة بأن يتوجه للمكتبة من فوره ويبحث دون انتظار كي لا يفتر وهو ما فعله؛ فوجد كما يخبرنا أن “الكتابة والتحقيق والبحث عن المخطوطات ليس بالأمر اليسير السهل فهو متعب ولكنه ممتع”، وما أحرى هذه الكلمة بأن تُروى وتُنسب لقائلها؛ فالكتابة والتأليف عمل له نصيب من التعب والإرهاق، وفيه متعة تمحو هاتيك المشاق والعوائق بلا مثنوية، وتحفز صاحبها على نفع الآخرين ولو على حساب وقته وصحته.

إن بلدة شقراء الرائعة، وإقليم الوشم العزيز؛ لأحد مكامن العلم والتجارة منذ زمن متقادم عندما كانت منطقة في صحراء نجد تقع على طريق القوافل، وكم أنجبت من علماء وأسر علمية عريقة منها أسرة المانع التي ينتمي لها عالمنا. والحمدلله أن أصبحت شقراء والوشم أحد مكونات بلادنا السعودية المتواصلة مع العالم شرقه وغربه باعتزاز وثقة ومشاركة فاعلة؛ حتى وقف أستاذنا في يوم تسلمه الجائزة أمام هيبة الملك، وأبهة المكان، ليفهم عنه كل من يسمع أو يقرأ ولو بعد حين، أنه بذل الوسع واستفرغ الجهد في عمله المضني، ويعلن أن “نشر هذ التراث محققاً تحقيقاً علمياً، وطبعه، وتهيئته للدارسين والباحثين يُعد الوسيلة الوحيدة للتواصل معه، ومن دون ذلك تنقطع صلتنا بعلومنا المعرفية على اختلافها من فقه، وأدب، ولغة، وتاريخ، وعلوم طبيعية”.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

ليلة الأربعاء 25 من شهرِ ذي القعدة عام 1444

14 من شهر يونيو عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)