عام

ناصر الرشيد: مهندس العطاء الشامل!

ناصر الرشيد
Print Friendly, PDF & Email

ناصر الرشيد: مهندس العطاء الشامل!

للشريعة الإسلامية مقاصد على رأسها ضرورات خمس جديرة بالحفظ والتقديم؛ وهي على الترتيب: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. ومن التوفيق الرباني للمرء أن يلهمه فيصبح ممن شارك في خدمة هذه المقاصد والكليات الكبرى للناس كافة، المعاصر منهم والآتي بعد زمن، سواء القريب فيهم أو البعيد، وفي الإحسان للبعيد حكمة؛ لعلها أن تزيل الغشاوة عن عيونهم، والران عن قلوبهم، أو تقيم الحجة عليهم، أو نكسب مواقفهم، أو نسلم من شرورهم على الأقل، ولو أسلموا لغنموا وغنمنا، ولو اعتدلوا معنا لارتاحوا وارتحنا، ولو كفّوا عنّا لسلمنا وفي السلامة اكتفاء.

يصدق هذا الوصف على سيرة معالي المهندس د.ناصر بن إبراهيم الرشيد، وهو ابن أسرة دبلوماسية عريقة من حائل؛ لذلك ولد في المفوضية السعودية بدمشق عام (1358=1939م) إبان عمل والده فيها، ثمّ درس بحائل والمدينة ولبنان وأمريكا، وعمل أكاديميًا في جامعة الملك فهد بالظهران، إلى أن ألقى كلمة الجامعة في حفل رعاه الملك خالد؛ فسأله الملك عن صلته بالدبلوماسي ورجل الدولة الكبير رشيد بن ليلى، وحينما علم أنه حفيد لرشيد أمر أن يرتبط مع الديوان الملكي؛ فصار المهندس ناصر هو المشرف على تصميم مقرات الديوان الملكي ومباني الحكومة الكبرى، وله في هذا الباب منجزات إضافية ضخمة في المعنى والمبنى، منها مبنى مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة، ومجمع الدوائر الحكومية في حائل، ومركز الملك سلمان الاجتماعي بالرياض، وغيرها.

ثمّ سمت بالرجل همته؛ فلم يكتف بهندسة كبريات المباني، ولا الدخول مع الأثرياء الأوائل في النادي، وإنما ضرب بسهم وافر في الإحسان والعطاء الشامل الذي مهما خفي فلا مناص من ظهوره، وأصبح أحد كبار المنفقين في عصرنا لا على المستوى المحلي أو الإقليمي فقط بل حتى العالمي؛ بيد أننا قوم لا نعشق الأضواء كثيرًا، ونرى أن صنائع المعروف والصدقات منّة من الله على من وفقه إليها، وليست فضلًا مقتصرًا على صاحبها، ولذلك فقد لا يعرفنا العالم، وهو رأي صواب في أصله، والمسألة فيها قول وقول، وإعادة النظر فيها عمل وجيه، فكما أن النوايا الحسنة لا يضيرها الخفاء، نرجو ألّا يخدشها الجلاء، وبالإمكان أن يكون للصدقات باب سر يرتجى أجره المضاعف، وباب جهر ترتجى أجوره وثواب الاقتداء به.

وتشمل أعمال المهندس الخيرية عدة مجالات مجتمعية جلّها طبية، وباعث أحد أضخمها وأكثرها تخصصية انبثق في نفسه بعد أن مرض نجله الأكبر بسرطان الأطفال فقرر افتتاح مركز محلي يخدم مواطنيه الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف العلاج بالخارج مثله، ولو أن كل ذي جدة نظر إلى نعمة وهبها الله له، أو إلى أمر قدر عليه، والآخرون لا يستطيعون إليه سبيلًا مع أهميته وضرورته وربما الحرج المرافق لفقده؛ ثم سعى لنفع أولئك المحرومين؛ لما قام للحاجات سوق تزداد رواجًا، ولما وجدت المسغبة والمضائق، ولكن من يغالب نفسه وينتصر عليها للتنازل عن جزء يسير من متعتها لصالح أقوام يكون هذا القسم القليل كبيرًا لديهم، ومؤثرًا فيهم؟!

ثمّ كان من فلسفة العطاء الشامل للمهندس بعد تنويع مجالاته، والحرص على ألّا يكون علنيًا في الابتداء، أن استبانت فيه خلّة الوفاء وما أجملها؛ فنفع مسقط رأسه، وبلدته التي يأرز إليها، والمدينة التي نشأ فيها، والدولة التي ينتمي لها باعتزاز، والبلاد التي درس فيها، والمؤسسات التي تلقى فيها أنجاله التسعة -حفظهم الله وبارك فيهم- التعليم، أو العلاج لمن احتاج منهم، وهو منهج فيه توسيع لآفاق العمل المجتمعي، ورسالة شكر وفيّة لمكان أو كيان.

ومن الطبيعي أن تحظى بلاده بالنصيب الأكبر من إحسانه وبركات أمواله؛ ذلك أن المنبت الحسن يدل أهله على أن الأقربين أولى بالمعروف، ونعم المال الصالح للعبد الصالح الذي يتحرى أحسن المواقع لهباته وصدقاته، وأنعم بالخير على اختلاف أصنافه حينما يكون تحت يد أبناء الأسر العريقة بأمجاد من الفضائل والأخلاق، والعلم، والعمل، والمعروف؛ لأن تجذّر الخيرية وعبق الإرث التليد يحفزهمبعد مشيئة اللهأكثر مما قد يجده محدثو النعمة في نفوسهم إلّا من فتح الله بصيرته وأعانه على نفسه، وشقّ لنفسه وخلفه سبل العراقة، وطرائق المكارم.

فإذا أردنا بسط الأعمال التي أسسها المهندس الرشيد أو شارك في دعمها فسنجدها في مشروعات طبية ضخمة لعلاج السرطان، وأمراض العيون، والقلب، والسكري، ونقص المناعة، وغسيل الكلى، ورعاية المسنين، وتأهيل المعاقين، وعلاج تآكل العضلات، وغيرها؛ فلكأن المهندس أراد أن يغدو شريكًا في إثراء المجال الطبي بهذا السخاء سواء في البناء، أو التكفل بالعلاج، أو التجهيز، أو رعاية الأبحاث، وفي هذا كله نجح بتقديم نموذج ذي قابلية للاقتداء.

كما نرى في مشروعاته المباركة خدمة للكتاب العزيز وحفظته وحلقاته ومدارسه، وعونًا للدعوة إلى الله، وإسهامًا في التعليم من خلال جامعات ومدارس ومكتبات وكراسي جامعية ومؤسسات تعتني بالموهبة أو واحات العلوم، وجميعها تفيد عقول الأجيال وتربيهم على الجدية بعيدًا عن الانقطاع إلى اللهو، وتحمي وعيهم من الانحراف؛ ذلك الوعي الذي سعى الرشيد بأمواله لرفعه سواء الوعي العام، أو الوعي ضد المخدرات على وجه الخصوص، وهو عمل يحمي المجتمع ومجاله العام من أن يخترق.

ومن أعماله الطيبة بناء المساجد أو إكمالها أو ترميمها، ورحمة الأيتام ببناء المقرات المناسبة لهم وتجهيزها، والمشاركة في مشروعات تيسير الزواج لبناء أسر جديدة، ومشروعات الإسكان الخيري وإن امتلاك السكن لمعضلة مؤرقة وهم كبير، ومن أزاحه وسار في عون المحتاجين إليه فما أعظم ما فعل من خير يربو على أجر الاعتكاف شهرًا في مسجد النبي الأعظم بمدينته الطيبة؛ فإن خير الناس وأحبهم لله أنفعهم لخلقه. ومن جلائل إنفاقه إيصال خدمات الكهرباء والمال إلى قرى نائية، وأماكن تأخرت عنها الخدمة المهمة؛ فأيّ فرحة أودعها في قلوب سكان القرى، وأيّ أجر شاركهم فيه إذا قرأوا على أنوار المصابيح، أو تطهروا للصلاة من صنابير المياه النقية، أو استعملوا هذه الموارد والطاقة فيما يحتاجون إليه من شؤون.

لأجل هذا كله نال المهندس جوائز وأوسمة محلية وعالمية، ومنح وسامًا برتبة فارس من رئيس فرنسا ميتران، ووسام شرف من رئيسها الآخر شيراك برتبة ضابط، وكرمته مدن سعودية مثل الرياض، وحائل، والمدينة النبوية، ونال جائزة من الأمير محمد بن فهد، وسمعت أن الملك فهد خصه مع شخص آخر بلقبمعاليوهو لقب يطلق على من يبلغ وظيفيًا المرتبة الممتازة أو مرتبة وزير فقط، وسرت محبته إلى قلوب الناس، وتداولوا سيرته الجميلة، ولعلها أن تكون له من عاجل البشرى.

إن المهندس د.ناصر الرشيد لم يتصدق وهو الثري بماله فقط، وإنما كدّ ذهنه كي ينتقي ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، واستهلك وقته في الملاحظة والبحث والتنفيذ والمتابعة، وربما استقطب وشاور وشارك، ولعلّه سأل مولاه القبول والتنمية، فكان له ما أراد والحمدلله، حتى صار مثالًا يحتذي لكل ذي نعمة يستطيع أن يصرف شيئًا منها ولو كان يسيرًا لتحقيق الصالح العام، ونفع بلاده ومجتمعه وأهله، سواء أكان النفع ماديًا وما أكثر أبوابه وعلى رأسها الوقف، أو معنويًا وما أوسع منافذه، وإنما التوفيق من القدير الخبير، وهاهي الطريق لاحبة مشرعة تستوعب ولا تضيق؛ وإنها لتنتظر السالكين!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الخميس 26 من شهرِ ذي القعدة عام 1444

15 من شهر يونيو عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)