سير وأعلام

عبدالعزيز الفالح: الشيخ الإداري الأب!

Print Friendly, PDF & Email

عبدالعزيز الفالح: الشيخ الإداري الأب!

توفي يوم الثلاثاء الفائت، العاشر من شهر شعبان الحالي، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الفالح (1360-1445)، وصلي عليه في المسجد النبوي، وتقدم المصلين خلف الإمام أمير المدينة ونائبه وأئمة المسجد النبوي، وحشد غفير من المصلين والمشيعين للمقبرة. وللشيخ سجل من العمل العلمي، والتعليمي، والإداري، والدعوي، في التعليم العام، والتعليم العالي، وفي أمانة هيئة كبار العلماء -التي أبحث في تاريخ أعضائها دون معين أو متعاون حتى الآن!-. كما شارك في جولات دعوية وتأسيسية خارج المملكة برفقة الشيخين محمد العبودي وأ.د.عبدالله التركي، وسيظل عمله الأجل والأشهر في خمسة وثلاثين عامًا قضاها الشيخ نائبًا للرئيس العام لشؤون المسجد النبوي بين عامي (1403-1438).

هذه المدة التي عاصر فيها الشيخ عبدالعزيز الفالح حتى شابت لحيته ثلاثة ملوك من عهد الملك فهد إلى عهد الملك سلمان، وعمل خلالها مع خمسة أمراء للمدينة النبوية، ابتداء من الأمير الأديب عبدالمحسن بن عبدالعزيز حتى الأمير المؤرخ د.فيصل بن سلمان. وعاصر خمسة رؤساء لرئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، من الشيخ القاضي ابن عبيد وحتى الشيخ الحافظ د.السديس، مرورًا بأسماء من أعلام الهدى هم المشايخ السبيّل، وابن حميد، والحصين، رحم الله الراحلين، وحفظ الباقين، وأجزل للكافة الأجر والمثوبة، وإن بقاء الشيخ في منصبه طوال تلك المدة مع هذه الشخصيات المتنوعة لدليل على أهليته، وحنكته في التعامل. وقد مارس الشيخ في المسجد النبوي أعماله الجليلة كافة من علم، وتعليم، ودعوة، وفعل الخير والمعروف بأصنافه، وهذا من التوفيق الرباني، والحظ الدنيوي المغفول عنه، والله يتقبل ويضاعف.

أما إذا أردنا أن نقف على الأسلوب العملي للشيخ الراحل، فسوف نجد من الشهادات المتوافرة التي كتبها العاملون معه أو الذين درسوا في الجامعة إبان عمادته، أو تقاطعوا وإياه في علاقة عابرة أو طويلة، أن الشيخ يمتاز بالحزم الإداري، والضبط المتقن، والإشراف الشخصي المباشر على الأعمال خاصة توسعة المسجد النبوي مثلما كتب أ.عبدالواحد الحطاب. وليس هذا فقط؛ بل يتفتق ذهنه عن مقترحات عملية نافعة في عظيم الشؤون ودقيق المسائل؛ مما يدل على أن خدمة المسجد قد خالطت شغاف قلبه وملكت عليه تفكيره، مثل فتح الأبواب، وتسوية الصفوف من خلال ترتيب الفرش والسجاد، وتيسير الدخول والخروج، والتظليل على المصلين في الساحات، وإتاحة زيارة الجناب الشريف -صلى الله عليه وسلم- دون حدوث صخب لا يليق بمقامه، أو اختلاط يخالف تعاليمه وهديه -عليه الصلاة والسلام-.

وتمتزج صرامة الشيخ الإدارية مع لطف بالغ، وأبوية حانية ظاهرة، إذ يقول د.محمد العوين: دخلت على العميد الشيخ عبدالعزيز ومعي صورة من شهادة التخرج من ثانوية معهد حوطة بني تميم، فاطلع على درجاتي وقال لي: توجه الآن إلى القاعة، وسنحضر ملفك من كلية العلوم الاجتماعية، وبش في وجهي ورحب ودعا لي بالتوفيق. ويضيف: عندما رأى لاحقًا مشاركاتي في الرحلات الداخلية والخارجية، ونشاطي الأدبي في الكلية، وما كنت أنشره -آنذاك – في الصحافة من شعر ومقالات شجعني وأبدى إعجابه وثناءه، وهذا الإجراء لا يكون إلّا من مسؤول تجاوز نطاق العمل الرسمي إلى آفاق أرحب من المسؤولية التربوية والمجتمعية، البعيدة عن ضيق الأفق، والبريئة من بلاء الإقليمية.

كما يؤكد هذه المزية أ.سعود الصاعدي الذي عمل مع الشيخ في المسجد النبوي فلم يختلف في آخر عهده بالمسؤولية عن زمانه الأول؛ إذ يقول الصاعدي: شرفت بالعمل معه أكثر من عشر سنوات، فكان أبًا ومعلمًا وقائدًا حكيمًا وحليمًا، يُقؤّم المقصر، ويُقدّر المجتهد، ولا يستعجل في قرار فصل الموظف حتى لو بدا منه شيء من القصور. ولعمركم إن اللطف في غير ضعف، والقوة بلا عنف، لمن كمالات الرجال، وهي مطلب في كل مسؤول، ومن المسؤول المتوشح برداء المشيخية أولى وأوجب، ومعها الإتقان الإداري، والنزاهة المالية، وأحسب أن الشيخ قد ظفر من ذلك بقسط وافر، ونصيب غير منقوص، وهكذا يكون رجل الدولة.

ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال لتلميذه وصاحبه حين وصف كاذبًا بما يستحقه: اكس ألفاظك! فليست المهارة في سوق نابي اللفظ، خاصة عندما يأتي من ذي منصب لمن تحته ممن لا يملكون مقارعته أو حجاجه فضلًا عن إلجامه، وإنما التفوق كل التفوق يكمن في حسن الإدارة، وصواب التفويض والمتابعة، وجودة التصحيح والمراقبة، وفي رقي الألفاظ، وسمو المعاني، وتحين الفرص الملائمة للتوجيه والتصحيح، مهما بلغت درجة الغضب من الغلط، أو مستوى الحنق بسبب الخطأ، لكن بعض الناس قد لا يملك نفسه، وفرق بين من يخطئ مرة، ومن مبتلى بفاحش القول، وسيء الوصف، حتى غدا هو ديدنه وعادته.

وعودًا لمعالي شيخنا الراحل، فقد كان شديد الاحتفاء بأصحابه ومحبيه حسبما أورد د.عبدالرحمن العشماوي، ويتعاهد رفاقه المرضى بالعيادة الدائمة، ولم تصرفه أعماله التي سافر لأجلها خارج البلاد، وسهر بسببها مع العاملين في المسجد النبوي، أو باكرهم مع تباشير الصباح، لم تصرفه عن أنجاله فأحسن لهم التربية والتعليم حتى غدوا قرة العين بالعلم والسمت والمنصب مثلما أشار معالي الشيخ سليمان الفالح عن قريبه وصديقه ورفيقه في أيام الزلفي، وذلك في كلمة نعي وفية حزينة كتبها عقب ترجله عن الحياة الدنيا.

غفر الله للشيخ عبدالعزيز، أحد خدام المسجد النبوي قريبًا من أربعة عقود في مرتبة دنيوية ممتازة نادرة في بلوغ مثل مدتها عند غيره، وعسى أن يكون في حال من الرقي والحبور والأمن في برزخه بالبقيع إلى مبعثه يوم الفزع الأكبر، والله يحسن العزاء لأسرتي الفالح والصغير، ولعامة أهل الخير ومحبيه، الذين شهدوا للرجل بكلمات عامة تعبّر عن التوقير والإجلال والمحبة، وتثني على خصال علمية وعملية ومسلكية، والناس شهود للرب في الأرض، ولن يضيع العرف بين الله والناس.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 17 من شهرِ شعبان عام 1445

27 من شهر فبراير عام 2024م

رثاء الشيخ عبدالعزيز الفالح -رحمه الله-

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)