سير وأعلام قراءة وكتابة

أسرار النعي العاجل بالكتابة!

أسرار النعي العاجل بالكتابة!

خلال الأيام السالفة تكرر عليّ سؤال على انفراد أو في مجلس ومحفل، وخلاصته التي تكررت عليّ فيما مضى: كيف تكتب عن الشخصيات الراحلة بهذه السرعة والمواكبة خاصة مع وجود محتوى داخل المقال لا يكتفي بنقل مجرد الشعور، ثمّ يُنشر المقال وينتشر قبل دفن الراحل أحيانًا أو عقب ذلك مباشرة؟ والاستفسار يأتي على هيئة تعجب بحثًا عن أسرار خلف هذا الصنيع الذي اعتاده القراء والحمدلله على فضله وتمكينه وتسخيره. وكنت أجيب من سألني بإجابات مختصرة تتناسب مع مقتضى الحال والمكان والزمان، ورأيت أن أكتب خلاصة التجربة لأسباب عدة.

من هذه الأسباب أن في التجربة تعليم وتذكير لي قبل أن يكون لغيري من الكتّاب والكاتبات، وفيه ممارسة كتابية، وهو عمل محبب مريح حتى مع زحمة الحياة واختناقاتها؛ بل إنه ترياق مجرب من تلك المضائق. ومنها دعوة القراء للتواصل المفيد بالرأي والمشورة بلا عتب ولا مؤاخذة عليهم، ومعها فتح الباب لاستقبال أيّ مقترح كتابي بما يتلاءم مع الوقت والحال، وهو مقترح غير مقتصر عليّ؛ بل هو عام لكل من يجد فيه الناس القدرة على الكتابة، والمهم أن تُروى تلك المآثر والمحاسن، ولا تُطوى هاتيك الفضائل؛ فعراقة مجتمعنا الأصيل أمانة في عنق كل أحد بحسبه، وللعلم فلست أحصر نفسي بالأموات، وإنما سياق المقال اقتضى ذلك فقط.

أما الإجابة عن السؤال، وكشف الأسرار-وماهي بأسرار- فيمكن إجماله ثمّ تفصيل الأمثلة فيما بعد، والإجمال على النحو التالي:

  1. لديّ مستودع كتابي فيه أفكار، وتجميعات، ومن ضمنها معلومات عن شخصيات تستحق أن يُكتب عنها، والهدف أن أحرر ما جمعته إذا دعى داعي الكتابة؛ وهو داعٍ يتأخر إلى حين الوفاة الأليمة في بعض الأحيان.
  2. أعرف بعض الشخصيات التي تستحق الكتابة عن جوانب من حياتها، ولي مع بعضهم صلات ولقاءات؛ وعندما أفجع برحيلهم فلا مناص من سكب المشاعر عبر كتابة تليق بهم، وفي بعض الأحوال أعرف عن قرب أفرادًا يرتبطون مع الراحل بسبب أو نسب.
  3. أتأثر كما يتأثر غيري من بعض الوفيات المفاجئة؛ فأتفاعل مع وقعها الموجع بالكتابة حتى لو كنت لا أعرف الراحلين بأعيانهم، أو ليس لي بهم صلة عميقة.
  4. تصلني مقترحات كثيرة من أقارب وأصدقاء ومحبين للكتابة عن راحلين من الفضلاء، أو من أقارب صاحب المقترح، أو من أشياخه، فلا أتأخر إذا وجدت عندي من الاستعداد ما يكفي؛ ولقيت منهم من التعاون ما يعين، ويزداد الأمر في حال توافر مواد مرئية أو مكتوبة عن الراحل.
  5. أكتب تغريدة أو أكثر عن راحل؛ فتجد من التفاعل المذهل ما يغريني بجمع التغريدات وسبكها في مقال يجمعها حتى لا تضيع.
  6. أشارك في الصلاة على بعض الأموات وإتباع جنائزهم إلى المقابر، فيكون في هذا الحدث ما يلفت الانتباه، ويحثّ على الكتابة؛ فأستجيب.

وعقب سرد هذه “الأسرار” أشير من باب الضرورة إلى أني ألتزم بألّا تكون الكتابة مشاعرية خالصة؛ وأن تحتوي على شيء نافع أو جديد إن في المعلومة، أو التحليل، أو الربط، أو نصب القدوة والمثال؛ ذلك أن الكتابة المرسلة بألفاظ عامة لا تغني القارئ؛ وليس فيها خصوصية لراحل، وهي عندي مملة، وقصيرة عمر، ولا أحبها. كما أني أستفيد مما يصلني في تجويد الكتابة حتى بعد النشر، وتصحيح المعلومة، والحرص على تكميل المقال وتسديده، والشكر في ذلك لجميع أولئك البررة الناصحين الذين يتواصلون؛ وحقهم عليّ الإشادة مع صعوبة الحصر، والدعاء لهم بالتوفيق وعظيم المثوبة والأجر.

أما التفصيل بالأمثلة؛ فمنها أني جمعت مادة عن الشيخ صالح الحصين، وعندما بلغني خبر وفاته كنت خارجًا للتو من قضاء أسبوع في المستشفى، ومطلوب مني الراحة التامة؛ بيد أني قلت لمن حولي: “قربا مربط النعامة مني”، وهرعت لأرشيفي الإلكتروني، واستللت المادة المجهزة سابقًا، وكتبت المقال الذي شاء الله له أن ينتشر قبل الصلاة والدفن، وهو نفس الأمر الذي فعلته مع الشيخ صالح اللحيدان، وبعدهما صنعته والعين دامعة، والقلب منكسر، والكبد مفطورة، مع والدتي غفر الله لها ولجميع الأموات من المسلمين المذكورين هنا وغير المذكورين.

ومن الشخصيات التي عرفتها وفجعت بخبر وفاتها فكتبت عنهم، المحامي صلاح الحجيلان، والشيخة زكية أبا الخيل، وقد بلغني خبر وفاة أبي حسام على إثر عودتي من سفر، وطوى المسافات نبأ وفاة أم طلال حتى جاءني، والعجيب أني في الحالين كنت أجلس في المكان نفسه، وعلى الكرسي ذاته، ولم يختلف سوى أن المبلغ الأول فقيه وقانوني كبير، والمبلغ الثاني صديق عزيز لطالما غمرني بعونه الثقافي، وحين استقبلت الخبر، كتبت الأثر قبل أن أبرح مكاني. وممن كتبت عنهم بناء على معرفتي بأنجاله الشيخ حمد العبدالله الجابر، وكانت الكتابة عقب رجوعي من المقبرة مباشرة.

كما تأثرت أشد التأثر من وفاة الشيخ مشرف الشهري دون سابق معرفة به، ومثله الشيخ القاضي عبدالمجيد الدهيشي. ومما حز في النفس رحيل فتاتين من الصالحات بعد أن سمعت وقرأت عنهما، وأصبحت ذات سبت على نبأ مفجع يحمل الإخبار بموت أربعة من الشباب أحدهم حفيد لجاري، وعلمت بوفاة الشيخ د.سليمان الثنيان، وفي جميع هذه الأحوال استللت القلم، واستفتحت باسم ربنا الذي علّم بالقلم، وكتبت عنهم -مع أني لا أعرفهم-، غير أني استعنت بالله بعد جمع، وسؤال، وتأمل، وأسأل الله أن يكون فيما دون من الأجر لي ولهم ما يسرنا يوم نرى الصحف المتطايرة في يوم يجعل الولدان شيبًا.

ثمّ إني أفتح الباب على مصراعيه بل على مصارعيه لأيّ مقترح كتابي، ومن ذلك أن وردتني رسالة من صديق محب يقترح الكتابة عن الشيخ محمد عزير شمس ففعلت من ساعتي، ومثله زميل آخر اقترح الكتابة عن المحسنة مزنة الراجحي وأوصلني بمن لديه معلومات وافرة عنها. والأمر نفسه تكرر عقب وفاة الشيخ أحمد الحواش، والشاعر أحمد الصالح “مسافر”، والداعية أسماء العييد، والأصل في هذه الأحوال الاستجابة إذا توافرت شروط وانتفت موانع.

كما تلقيت مادة إلكترونية مختصرة من أحد رموز العمل الخيري فيها تعريف بالشيخ صالح الثنيان، ومعها طلب بالكتابة عنه ففعلت، ونشرت المقال قبل أن يُصلى عليه ويدفن، ومن الموافقات أني جعلت الرقم “سبعة” في عنوان المقال، وتواصل معي غير واحد ممن شاركوا بالصلاة والدفن في إحدى مقابر جدة وهم في تعجب من توافق هذا الرقم مع الصف والعمود ورقم القبر الذي دفن فيه المحسن المتوفى، والله يجعله يدخل من أبواب الجنة الثمانية، ووالدينا، ومن يقرأ ويؤمن.

وعندما كتبت عدة تغريدات عن د.عبدالرحمن الشبيلي ووجدت من الانتشار ما يستحقه هذا الرجل النبيل، رأيت جمعها وتهيئتها في مقال أنهيته ونشرته في الليلة التي أعلن فيها عن مفارقته الحياة. ومع أني كتبت مقالًا عن الشيخ القاضي سليمان المهنا وهو على قيد الحياة فتواصل معي حينها شاكرًا داعيًا، إلّا أني بعد المشاركة في الصلاة عليه، ودفنه، تواردت عليّ أفكار كثيرة وأنا أنتظر مع جموع المنتظرين وصول جثمانه من المسجد الذي خرجنا منه بسرعة لأننا صلينا خارجه من الزحام، وبعد قفولي إلى المنزل فتحت الجهاز؛ وقلت بسم الله أبدأ، وعليه أتوكل؛ والثمرة مقال آخر عن الشيخ القاضي.

أخيرًا يحسن بي أن أقول للقارئ العزيز إن وجود الثغرات، والخطأ في الاجتهاد أمر محتمل ولا يمكن إنكاره، وإنما الشأن في أن العودة إلى الصواب ليست مستحيلة إن في القبول الذهني والنفسي لها، أو في التعديل التقني للمادة المنشورة؛ ولهم الدعاء والثناء على المساعدة والتصويب. وإن في المواكبة بالكتابة فضيلة السبق، والتدريب على سيولة القلم، وتحريك الذهن، وإدامة العلاقة مع الحرف، وفيها النجاة من بلاء “الحكحكة” والبحث عن التمام المحال، وتطلّب الكمال العزيز، وهي مرتبة لا ينالها عمل بشري البتة، ولا يحظى بها منتج آدمي مهما اجتهد أصحابه وأخلصوا؛ بل حتى لو عاونهم أهل وادي عبقر مؤمنهم وكافرهم، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا ونصيرًا!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 19 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1444

12 من شهر يناير عام 2023م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. المقال أكثر من رائع، بل كأني أتخيلك أمامي تحكيه منطوقا، بكلماتك العذبة، وتعبيراتك التي تضفي على حديثك البهجة.
    دام قلمك مسددا، وبالخير محملا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)