سليمان الثنيان: عالم الشريعة المتفنن! - مدوَّنة أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف

سليمان الثنيان: عالم الشريعة المتفنن!

قلة هم الذين جمعوا بين أمرين يراهما عامة الناس –وربما خاصتهم– على طرفي نقيض لا يلتقيان، وهما في الحقيقة مما يمكن الجمع بينهما على ما فيهما من تغاير وتباين، وإنما تسربت هذه المفاهيم من التقليد، وقصر النظر، والكسل عن التفكير والبحث. ومن طريف ما عبر بي أخبار عن حنابلة أشاعرة أو مفوضة، وساسة جمعوا بين مذهب في الاقتصاد وآخر في السياسة وثالث في الاجتماع، وأثرياء أدباء، وكتّاب متحررون في جانب، متحفظون أشد التحفظ في جانب آخر حتى لقد سمعت من يقول عن نفسه: أنا ليبرالي في كذا، وسلفي في كذا!

ومن الأمثلة المعاصرة الباهرة على الجمع بين علوم متباعدة في النظر الأول، أو بين فنون نادرًا ما توجد لدى إنسان واحد، يبرز لنا الشيخ الفقيه والمخرج السينمائي د.سليمان بن إبراهيم بن ثويني الثنيان (١٣٥٨–١٤٤٤)، الذي انتقل إلى رحمة الله هذا اليوم الجمعة في مدينة البدائع بالقصيم، والله يجعل يوم رحيله عن الحياة من علامات حسن ختامه، ويلهمه الجواب الصواب عند سؤال الملكين، ويحسن العزاء لأسرته ومحبيه، ولا يحرمنا من العوض.

يمكن اختصار حياة الشيخ بأنه درس بتزامن في عدة مدارس ثانوية بأنظمة مختلفة، والتحق بجامعتين في وقت واحد، ثمّ ابتعث لدراسة الكيمياء والهندسة الصناعية بألمانيا، وتحوّل في انعطاف لافت لتعلّم فنون الإخراج السينمائي التي تستلزم إتقان معرفة الصوت، والصورة، والصمت، والحركة، والملابس، والمواقع، والتعامل مع الأجهزة المتطورة باستمرار، والأضواء بدرجاته وألوانه، والخدع على اختلافها، وقدّم في هذا المجال من الأفكار والأعمال والمشروعات ما يمكن التأسيس عليه لعمل باهر عريق فريد؛ بيد أن العقبات المالية والإدارية والفكرية، وطبائع الناس، ووتيرة الإدارة المتباطئة، قد وأدت هذا كلّه أو جلّه.

وفي لحظة تأمل وحساب، انفتل الشيخ لدراسة العلم الشرعي من بدابات الطلب الجامعي، ولم يقتنع بإكمال الدراسات العليا بناء على شهاداته السابقة الفريدة والعالية. وكانت العلوم الشرعية هي الألذ مذاقًا لديه، ونفسه لها تزداد شوقًا وتهفو للتلقي والمشافهة يومًا إثر آخر، ولم تغلبها في نفسه لغات أجنبية، ولا كيماء هندسية أو صناعية، ولا فنون سينمائية، ولا غرو فشرف هذا العلم ينبع من ارتباطه بالله جلّ جلاله، ثمّ بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، وضرورة القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام وسيرته الشريفة، ومن سائر السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء رضي الله عنهم ورحمهم.

إنّ الشيء المهم جدًا، واللافت للانتباه في حياة الشيخ الطويلة، ومسيرته العجيبة، التي زاوجت بين عناصر يندر أن يحتويها مركب، هي ما يلي باختصار:

أنعم الله على الشيخ بالموهبة الذهنية والهمة العالية منذ صغره.
رزق الله الشيخ سليمان بأساتذة سعوا لرعاية مواهبه وتنميتها في السعودية وألمانيا.
وفق الله الشيخ بمن يحسن التفرس فيه فيبتعثه للدراسة أو يحثه على تغيير مجاله.
أعان الله بعض مديريه ووزراء الإعلام على مساندته في العمل الحكومي والخاص دون أن يكون تميزه سببًا لحسدهم إياه على مواهبه.
لم يسلم المخرج المتفنن من غيرة الأقران، ومحاولة عثار خطواته الوثابة، وهي غيرة وجدها من ألمان ويهود، ولم يفقدها بين بني جلدته.
ابتليت بعض مشاريع شيخ الإخراج السينمائي الإعلامية بمستشارين ليس لديهم دراية تكفي، أو ليس عندهم أمانة تفي بحق الشورى!
لم يكن مخرجنا البارع في بداية مشواره الإبداعي والفني ممن يظهر عليهم أثر تدين، ومع ذلك امتلأ قلبه بتوقير دينه ولغته وقومه وحضارتهم وثقافتهم، ولديه إحساس متنامٍ يغمره بالعزة والاستقلالية.
استطاع المخرج السينمائي تقديم أعمال متفوقة جدًا في ألمانيا والمملكة، وحصدت الثناء والجوائز، دون أن يكون فيها مخالفة أو خضوع لضرورة متخيلة، وإنها لموهبة لم تستثمر.
رزق الفقيه والمخرج من الجدية والعزيمة والإصرار ما جعل التحدي أحد أبرز محركاته في العمل والإنجاز، حتى أنه يعمل لأزيد من نصف اليوم دونما كلل، ويحمل معه حقيبتين فيهما لوازم الدراسة والإخراج، ولا يضيع الوقت حتى وصفه أصدقاؤه بالراكض!
لم يلتفت المخرج في شبابه وغربته إلى التوافه والمغريات وهي كثيرة لمن كان في مثل عمره، وبعده المكاني، ونوع دراسته، وطبيعة المجتمع الذي يخالطه، والعاصم هو الله.
لا يعرف شيخنا ومخرجنا الملل؛ فقد درس تسع سنوات متواليات في ألمانيا، وطلب العلم الشرعي مع طلبة أصغر منه سنًّا حتى تخرج في جامعة الإمام، ونال أعلى الشهادات، وصدق عمرو بن العاص رضوان الله عليه حينما قال: الملل من كواذب الأخلاق.
وسع الشيخ أن يبتكر من الأعذار ما يسلّي بها نفسه للتنازل أو البقاء أو المسايرة؛ بيد أنه أبى وتسامى، ولعله قد نجى.
كان الرجل واضحًا في أهدافه وغاياته، وفي عمله ومراميه، وفي دراساته الشرعية عن التأمين والجوائح وغيرها.
اعتنى الشيخ بالعلم الشرعي وطلابه؛ حتى أن طلبته يذكرون له لطفه وتعاونه ومزاحه حتى مع غلبة الجد عليه.
رفض المخرج أن يعمل في بلاد غربية وعربية حبًا في بلاده وتقديرًا لها، وهذا المسلك أكثر وطنية ممن يدعيها وهم يضيقون السبل على المواهب، ويحجرون واسعًا أمام ذوي القدرة والكفاية.
رفض الشيخ تدريس طلبة الإعلام لأنه يرى أن البيئة بمجملها غير مهيئة لعمل إعلامي مناسب منافس.
إن تغوّل بعض النافذين على ذوي المواهب كي يوافقوا أفكارهم، لسبب أكيد من أسباب ذبول الموهبة، وضياع منافع كثيرة، ماكان لها أن تفقد لولا الهوى والإقصاء.
أجزم أنه يوجد مثل د.سليمان الثنيان في مواهبه السينمائية لدى كنيسة وكنيس ومعبد، وأكاد أن أجزم بأن أولئك القوم يستثمرون ولا يهملون!
ليس المال ولا الشهرة ولا القرب من مواطن الإشادة مما يجلب انشراح الروح، وقرار العين، وسعادة النفس، وإنما يكون ذلك بالأنس بالله والقرب منه، وليس لما قرت بين العين ثمن.
رضا الله عن العبد كفيل بأن يجعل المرء راضيًا في نفسه، مرضيًا عنه لدى الخيرة وأهل الفطرة من معاصريه بما يقذفه الله في قلوبهم من ودٍّ له، وعند القادمين بما يضعه له من لسان صدق في الآخرين.
يمكن لصاحب الهمة والإرادة والنية الحسنة – ولا نزكي على الله أحدًا– أن يجمع بين علوم مختلفة وفنون متباعدة كما صنع د.الثنيان حتى غدا الكيمائي، والمخرج السينمائي، وفقيه الشريعة.
لولا فضل الله ثمّ لقاء محفوظ عقد مع الشيخ لما عرفنا مسيرته النادرة؛ فبادروا لنشر قصصكم وحكاياتكم المعبرة، ولنبادر لاستنطاق أصحاب التجارب حفظًا للتاريخ، وإفادة من العظات والعبر.

وبعد؛ فها هي موهبة سعودية عربية مسلمة عالمية تُدفن تحت الأرض، وليس الموضع الآن للأسى ولوم الذات؛ فلعلّ الشيخ ممن ترك من الآثار والأخبار ما يكون حافزًا لغيره ومعينًا لمن بعده، ولكن السؤال الأهم: ما هو مصير المواهب في مجتمعنا والمجتمعات العربية والإسلامية؟ ولماذا يحاول بعضنا أطر المواهب والقدرات لتمشي في ركاب غرب أو شرق، وتفقد خصائصها، ويذوي تفردها، ويخبو بريقها، وفي الإمكان المواكبة والمنافسة ثمّ السبق؟