سير وأعلام شريعة وقانون

عبدالمجيد الدهيشي: سيرة إدهاش مجيد!

Print Friendly, PDF & Email

عبدالمجيد الدهيشي: سيرة إدهاش مجيد!

ستّة وخمسون عامًا فقط هي عمر الشيخ القاضي الدكتور عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن عبدالمحسن الدهيشي (1388-1444)، بيد أنه على التحقيق عمر أطول بفضل من الله وجود وإحسان. وإن صفحة حياة الشيخ أبي أيمن التي طويت هذا اليوم بعد مرض مفاجئ ألمّ به من غير أن يحتسب، لتؤكد لنا بجلاء أن العمر لا يُقاس بعدد السنوات ومدة البقاء في الدنيا، فكم من إنسان صرعته المنون قبل المشيب، وهو أجلّ وأعظم عند الله وصالح المؤمنين من شيخ هرم دفن جيله والجيل الذي بعده ربما!

عمل الشيخ في القضاء متنقلًا في المسميات الوظيفية، والمدن، حتى بلغ مرتبة في الوظائف القضائية من أعلاها؛ فتقاعد بعد ثلاثين عامًا من العمل القضائي المرهق في وزارة العدل والمجالس القضائية (1411-1441)، وإنه لعمل يجلب المتاعب لصاحبه لما يكتنفه من خصومات، ومشكلات، وأحكام، فإن نصف الناس أعداء لمن ولي القضاء هذا إن عدل! وكلما تعقدت الدنيا، وتباعدت بوصلتها أضحى العمل في القضاء الشرعي أشبه بالجهاد والمرابطة على ثغر، وأيّ ثغر هو أنفذ وأخطر من عرض الأمة المتمثل في قضائها الذي لا ينبغي له إلّا أن يكون ناجزًا منجزًا مستقلًا ساميًا.

ومع أن بعض القضاة الكرام ينصرف عن الأعمال المجتمعية لأسباب يراها وجيهة، تنأى به عن خلطة لا يستطيع لها إدارة، ولا يستطيع الفصل بينها وبين طبيعة عمل القاضي، إلّا أن الشيخ عبدالمجيد لم يكن من هذا الصنف، بل شارك مشاركة فاعلة موفقة أينما حلّ، وعليه فحيثما قضى فعلى يديه انقضت للناس حاجات دون أن تلج إلى باب المحكمة، وإنما هي مصالح ومبرات وخيرات ودعوة وتعليم سعى بها حتى فاضت بركاتها على المكان والإنسان، وصلح بها شيء من الحال والزمان.

فمسرد أعمال الشيخ متنوع خصب، إذ قد ضرب بسهمه في مناحٍ عديدة، فهو مع أهل القرآن ولهم، ويرأس جمعيتهم أو يساندها أينما كان، وفي المسجد شيخ يلقي دروس العلم على طلبته، ويبحث عن نضرة الوجه بتبليغ آية أو حديث، ونقل سمت أو قدوة. وهو فوق منبر الجامع خطيب يصل صوته إلى من يجلس بين يديه وإلى من يصلهم صوته، فيستفيد الجميع من حديث العالم، وتوجيهات المربي، وخبرة المصلح، ونظر الفقيه، وخشوع العابد، وبصيرة العارف بمجتمعه ومحاسنه وعلله، وما يصلحه ويعالج خلله.

ثمّ إن الشيخ لم يخلِ سجله العملي من التفاتة حانية نحو الفقر والفقراء، فكانت له يد ذات أيدِ مع جمعيات البر والمستودعات الخيرية، ومؤسسات حفظ النعمة، وإن رحمة المجتمع بفقرائه، وتكافل طبقاته، مما يعزز اللحمة، ويقوي النسيج، ويحول دون الإحن، ولا يصنع ذلك كلام مرسل مهما تشدق قائله أو تفاصح. كما أكمل الشيخ مسيرة نفعه للمجتمع باهتمامه العميق بالأسرة علميًا في كتبه وأبحاثه الفقهية، وعمليًا بإنشاء جمعيات أسرية ترتق فتوق الأسر، وتصلح ما فسد من شؤون العائلة والرجل والمرأة، وتعيد السعادة للبيوت. ومن نافلة القول في فضائل الشيخ أنه خصّ البلاد التي عمل فيها بشيء من جهده ولم يقصره عليها؛ وآثاره شاهدة على أنه مصباح معطر يفيض منه الضياء والزكاء، فسناه منير، وشذاه منتشر.

ولأن همة الشيخ لا يحدها حدود، ولأن المستقبل لديه أبعد من اليوم والغد وما بعدهما، فقد كان للشيخ جهود عملية وعلمية في قطاع الأوقاف عبر النظارة، والقضاء، والمحاماة، ورئاسة المراكز، والمشاركة في المؤتمرات، وتقديم أوراق العمل، وتوقيع الاتفاقيات، ومتابعة إنهاء الدراسات ونشرها، وإقناع الواقفين، وتسجيل لقاءات مرئية عن فقه الأوقاف، ومع أن الشيخ لم يستهلك من عمره القصير مدة طويلة في مجال الأوقاف متفرغًا لها؛ إلّا أن جهوده ناطقة بيّنة، وما عند الله خير وأبقى.

كما وفق الله الشيخ لعقد جلسات مختصرة وموسعة عرض فيها تجربته القضائية والعدلية، وإن نقل التجارب لمفيد للأجيال، ويضمن سلاسة التعاقب، ويبقي الخبرة في الرواق العدلي، ويعين حديث العهد كي يغدو خبيرًا عارفًا يعي حكمة السابقين وإن لم يكن لكثير من الأمور والحوادث معاصرًا. وقد أتم الشيخ هذا المشروع المبارك من خلال حلقات صوتية عن القضاء في إذاعة القرآن الكريم، مع المشاركة في الجمعية القضائية، إذ لم يجعل القضاء دبر أذنه بعد تقاعده المبكر منه، ولم ينشغل عنه بأعماله الخاصة في المحاماة أو غيرها، وربما لو فعل لوسعه ذلك.

أما أحد أميز الأعمال الفكرية والثقافية للشيخ، فهو تدوين سيرته القضائية، وخبرته العدلية، خلال ثلاثة عقود، في كتاب من ثلاثمئة صفحة، وأسأل الله أن تتاح لي قراءته والكتابة عنه، فهذا من أقل الواجب تجاه شيخنا الراحل الحبيب الطيبة سيرته، النقية سريرته، حسبما سمعت وعرفت ممن عايشه وشاركه من الشهود في الأرض. ومما يميز هذه السيرة أن توثيق القضاء وأعمال القضاة لدينا قليل، وهذه الندرة مفهومة ممن هو على رأس عمل، وفي الأسرار الحرجة، وأما المتقاعد، وما يدخل في حيز إشاعة العلم والتجربة والنصح فلا حرج فيه فيما يبدو لي.

اللهم ارحم عبدك وقد وفد إليك وأدرج في قبره هذا اليوم الأحد الثامن من شهر صفر، وأسأل ربنا ومولانا أن يثبته، ويعلي منازله، ويرفع درجاته بمصابه، وقبول أعماله، ودعاء أحبابه له، وأن يكتب لمشروعاته البقاء والخلود حتى تكون هي وصاحبها للمتقين ونشاطهم إمامًا؛ فإن الرجل قد اجتهد وأجاد فيما نحسب. والله يحسن العزاء ويكتب الأجر لبنيه وأشقائه، ولأسرته الكريمة، ولأهل بلدته الصفرات، ولقبيلته الوداعين من الدواسر، ولجميع العاملين في القضاء، والمنظومة العدلية، ومجال الأوقاف، والأعمال الخيرية، والمجتمعية، ولأي مسلم أحب الخير والصالحين، وحزن لخلو الأرض منهم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأحد 08 من شهرِ صفر عام 1444

04 من شهر سبتمبر عام 2022م

Please follow and like us:

9 Comments

  1. رحم الله شيخنا وقدوتنا كان الأخ والموجه والناصح والمربي عرفناه من أكثر من 37 سنه مبتسم بشوش كريم حيي عالم فقيه وانا اشهد انه فارق الصف رجال وثلم في الإسلام ثلمة جبر الله مصاب أبنائه وبناته وزوجه واحبابه وإخوانه

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    صباح الخير
    شكرا لك أخي وجزاك الله خيرا وجعلها في موازين أعمالك
    وغفر الله لأخينا أبا أيمن
    أبو عمر من المجمعة

  3. السلام عليكم عظم الله اجركم ورحم الله الشيخ عبدالمجيد رحمة واسعة واسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.
    اخوكم يوسف من تركيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)