سير وأعلام شريعة وقانون

النفيس مطلب!

النفيس مطلب!

كنت صغيرًا حين سمعت بعض أقاربي وعلى رأسهم شقيقي الأكبر عبدالعزيز -سلمه الله تعالى- يثنون في سياق نقاش طلبة الجامعة المعتاد على أستاذ يدّرسهم في كلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود مادة أظنها عن نظام مجلس الوزراء، بيد أنهم يختلفون في نطق اسم الأستاذ الذي يبجلّونه؛ فمنهم مَنْ يفتح اللام، وفيهم مَنْ يكسرها، لكنهم يتفقون على إعلاء منزلته، وقيمة ما ينهلون من علمه، وما يفيدون من خبرته، وفوق ذلك يشيدون بسلاسة التواصل معه.

وفيما بعد علمت أنه كان يشيع بين طلابه سبل التواصل به والوصول إليه خلافًا لغيره من الأساتذة، وعلمت يقينًا أن اسمه الكريم ينطق بكسر لامه، وهو اسم شائع في أسرته الكريمة، ويماثله في الشهرة اسم شائععند هذه الأسرة القصيمية الممتدة في نواحي نجد، وفي الكويت ومنهم عدد من آل النفيسي الذين مثلوا الملك عبدالعزيز في الكويت، واستمر تمثيلهم إلى عهد الملك سعود الذي افتتحت فيه أول سفارة في الكويت، وكانت الأولوية الدبلوماسية هذه من نصيب السعودية وسفيرها معالي الشيخ جميل الحجيلان.

ذلكم هو معالي الدكتور مطلِب بن عبدالله بن مطلِب النفيسة (1356) شفاه الله وعافاه، وهو من أهل رياض الخبراء، وممن حصل على شهادة البكالوريوس من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ثمّ تخرج في جامعة هارفرد ونال منها شهادتي الماجستير والدكتوراه في القانون. وقد عمل في قطاعات حكومية مهمة، ابتدأها مستشارًا في ديوان رئاسة مجلس الوزراء، ثمّ نائبًا لمدير معهد الإدارة العامة إبان تأسيسه، فرئيسًا لشعبة الخبراء بمجلس الوزراء التي صار اسمها الآن هيئة الخبراءوهي أحد مصانع الوزراء ورجال الدولة، وأخيرًا أصبح وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء منذ عام (1416)، وهذا يعني أنه حاليًا أقدم الوزراء بالتساوي مع زميله في العضوية والتخصص وجامعة هارفردبلا تزامن في الجامعةمعالي الدكتور مساعد بن محمد العيبان.

يتضح من سيرة د.مطلب شغفه بالتعليم تحصيلًا وقراءة ونشرًا؛ إذ سارع إلى الالتحاق بمدرسة رياض الخبراء حال افتتاحها بعد أن نال قسطًا من العلم في الكتاتيب، وأكمل تعليمه في الرياض ثمّ خارج المملكة، وظلّ قريبًا من الشأن التعليمي في معهد الإدارة وجامعة الملك سعود. ومما قرأته أو سمعته عنه حثه الشديد لموظفيه على الدراسة وإتمامها مع التسهيل عليهم في هذا الدرب الشاق، وسعيه كذلك لإشاعة مبدأ التعليم على رأس العمل من خلال لقاء صباحي باكر مع المستشارين، وكم في المشافهة والتباحث من علم وفهم. ولأن هذا الأمر معروف عنه فقد كانت له جهود في أعمال عليا تخصّ التعليم غير مشاركاته الأخرى في شؤون تنظيمية وحدودية، وفي مجالس الاقتصاد والمعادن والخدمة المدنية التي ألّف عنها بعض الكتب.

وينقل عنه طلابه إنه كان يوصيهم بقوله: لتكن إجاباتكم جامعة مانعة؛ جامعة للمعنى المطلوب، مانعة لأيّ ثغرة قد تحرف المعنى! وهي وصية فيها فلسفة تعليم، وروح قانون. ويثني آخرون على تواضعه وبشاشته، ويندمون على أنهم لم يستخرجوا منه كل ملكاته العلمية والقيادية زمن التتلمذ عليه، وقال طالب أصبح فيما بعد أستاذًا جامعيَا: درست عنده مادة حرة فتعلمت منه فن التدريس الجامعي! وذكر د.عبدالعزيز النعيم في سيرته أن د.النفيسة حفزه حفزًا لدراسة اللغة الإنجليزية في المعهد، ولا يحب الخير للناس إلّا النقي سليم القلب، وما هم بكثير في الناس!

ومن لطيف القصص ما كتبه معالي د.عصام بن سعيد وخلاصته أن معالي الشيخ صالح الحصين أعاد كتابًا لهيئة الخبراء كان د.النفيسة قد أوصاه بقراءته فيما مضى، واللطيف في هذه الحكاية أن النفيسة لم يبخل بالنصيحة على الحصين وهو أحد زملائه القدامى والكبراء في المجال، وأن الحصين استجاب لمقترح زميله ولم يأنف كما يفعل المتعاصرون، ثمّ أعاد الكتاب المستعار حينما عثر عليه بعد سنوات طوال، ولم يتهاون به، فما أعسر الحساب على المال العام ولو كانت قيمته بريالات معدودة.

كما لاحظت في سمات الوزير صفة الوفاء، فهو يثني على أصحاب الفضل القدامى، وذكر ذلك صراحة في الحديث عن د.عبدالله بن ناصر الوهيبي أحد رموز التعليم في بلادنا. وأخبرني الشيخ نزار العقيل أن د.مطلب يوليه عناية خاصة تقديرًا لوالده المحامي والقاضي إبراهيم السليمان العقيل أحد أقدم دارسي القانون من السعوديين. ومن وفائه إقامته حفل وداع كبير لمدير مكتبه أ.محمد المحيسن بمناسبة تقاعده، وإطراء جهوده وأعماله في تلكم المناسبة. ومن الوفاء حب د.النفيسة لتخصصه الحيوي؛ ولذا كان من السبّاقين إلى الحصول على ترخيص لفتح مكتب استشارات ومحاماة من الملك فيصل مباشرة أوائل الثمانينات الهجرية، وهدفه من المكتب ليس الربح أولًا؛ بل تنشيط ذهنيته الحقوقية، والتعرف إلى الناس والمجتمع وما يدور فيه.

وبناء على التميز القانوني الذي ناله أبو خالد من خلال الدراسة في أرقى الكليات العربية والعالمية، وبصداقته الطويلة مع زملاء دراسة وتخصص مثل د.غازي القصيبي، والمحامي صلاح الحجيلان، وبالعمل في مجلس الوزراء مع قامات سعودية وعربية شهيرة، وبالمشاركة في تأسيس معهد الإدارة وإدارته وهو أحد قلاع الأنظمة والإدارة في بلادنا، ثمّ بعمله لمدة عشرين عامًا رئيسًا لشعبة الخبراء وفي آخر عامين من رئاسته أصبح مسماها هيئة الخبراء، فقد شارك في صياغة الأنظمة الأربعة العليا في المملكة وفي مراجعتها، وهي أنظمة الحكم، ومجلس الوزراء، ومجلس الشورى، والمناطق، ودخل إلى عضوية لجنة الأنظمة بعد خروج د.محمد الملحم منها؛ ذلك أن كتابةالدستورومراجعته ومناقشته تحتاج إلى خبراء أمثاله وأمثال سلفه في العضوية د.الملحم.

عقب ذلك أصبح د.مطلب وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء منذ عام (1416) إلى يومنا، وفي عضويته لمحات مهمة، إذ أنه عضو كذلك في عدد من المجالس العالية المنبثقة عن المجلس، وأمين عام لبعضها، وعضو في لجان مهمة تفاوضية أو تأسيسية أو غير ذلك، وأيًا كانت لشؤون داخلية أو خارجية، وله نظراته القانونية الفاحصة في أيّ مشروع نظام تحت الإعداد والمناقشة حتى قال عنه معالي د.عبدالعزيز الخويطر في وسمه: يضفي د.مطلب على الاجتماع الذي يشارك فيه جوًا من الأمان لتميزه في القانون، وقدرته على التحرز النظامي، وهو أول من تنبه لأمور نأخذها في العادة من المسلمات. ومن لمحات العضوية المطلبية أنه بلا حقيبة وزارية بيد أن حضوره مؤثر ومهم للغاية خلافًا لما يعتقد بعض الناس عن مسمى وزير الدولة، وأخيرًا فمع أن وزيرنا القانوني طبع على الجفول من الإعلام والنأي عن البروز الجماهيري؛ إلّا أن لسان الصدق والثناء عليه يزداد يومًا إثر يوم.

أما أسريًا فقد بادر معاليه مع خيار بررة من أبناء أسرته إلى إنشاء صندوق للأسرة ووقف لها كما هو ديدن الأسر العريقة، وكان أول المتبرعين لهذا الوقف، والمساعدين فيه المساندين له بحكم الخبرة والمعرفة والبصيرة بالأنظمة، وتلك خلّة نفيسة تحسب له. ومن خبره الأسري والمجتمعي حرصه على حضور أيّ مناسبة فرح أو عزاء لأسرته أو أهل بلدته أو معارفه قدر المستطاع، ولا يتأخر عن صنع أيّ خير يستطيعه، أو بذل أيّ معروف يجد إليه سبيلًا، وإن كان لا يحب الشفاعة المباشرة التي تُحسب عليه بحكم حساسية المنصب حتى لو كانت لأنجاله الذين اكتفى بتعليمهم وتهيئتهم لخوض الحياة بفضل الله ثمّ بمواهبهم بعيدًا عن موقع والدهم.

ومن لطيف العبر وخفي اللطف الإلهي، أنه بعد عودة د.مطلب وعدد من زملائه إلى المملكة حال فراغهم من الدراسة الجامعية بالقاهرة، ونيلهم الشهادة من كلية الحقوق فيها، عمل هؤلاء الشباب في أجهزة حكومية مهمة، وكان أحد قدامى الموظفين يعتني بمن له قريب وزير أو مسؤول كبير من هؤلاء الشباب فقط، ولم يحظ د.النفيسة منه بنعومة في التعامل أسوة بزملائه؛ وربما أبدى الموظف القديم تضجره من وجود مطلب معهم. وتدور الأيام، ويبزغ نجم د.مطلب علميًا وعمليًا فوق أولئك الصفوة من الشباب كلهم، ويندم الرجل على موقفه المهمل السالف، وتزداد حسرته حينما لم يجد من د.مطلب إلّا السمو على ماكان من الرجل في الزمن الماضي، والإعراض صفحًا عن معاملته بالمثل، ولا يحمل الحقد من تعلو به الرتب.

حقًا إن النفيسَ مطلَب، وإن النفاسة قد اجتمعت في الدكتور مطلِب حتى أصبح من كبار الأسماء في مجاله، وفي تاريخنا القانوني والإداري، وهو الرجل المهيب الرزين ذو الصمت الطويل، لكنه إن تحدث أو كتب فأنت في روضة من الإمتاع بالطريقة والأسلوب، وفي مكتبة من الثراء بالمعلومة والمضمون، مع الحرص الكبير على مراعاة المجتمع وأعرافه وقيمه وثوابته ومصالحه الآنية والمستقبلية، وتلكم من فلسفات القانون وأفكاره المركزية، ومن أعظم الخصائص المبتغاة فيمن يتولى شأنًا عامًا، حتى لا يغدو مستكثرًا علينا حين نقول أو نكتب بأن النفيس مطلب.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الخميس 27 من شهرِ محرم عام 1444

25 من شهر أغسطس عام 2022م

Please follow and like us:

10 Comments

  1. لقد أحسنت واجدت في الحديث عن هذه القامة العلمية الفذة والباسقة والنفيسة واني أفخر باني عملت تحت توجيهاته فجزاكم الله خيرا

  2. ما شاء الله تبارك الله … بورك فيك وفي قلمك على ما تفضلت به من سيرة عطرة لمعالي والدنا الدكتور مطلب
    اسأل الله لك دوام التوفيق والسداد .

  3. الدكتور مطلب بن عبدالله النفيسة درسني في الجامعة مادة نظام مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية. من اول محاضرة علمت انه متميز بعلمه وعمله واخلاصة متميز غفر الله له ولنا. كان حريص على أن كل طالب يعلم ما علمنا اسألته متنوعة ويناقش الطلاب كأب. وكنت حريص أن اطبق ماتعلمته منه.

  4. فيلسوف وعراب
    ‏الجواهر النفيسه تجتمع في عقد واحد
    ‏قدر لي أن أطلع على مدونة أحمد بن عبد المحسن العساف عن ترجمه لسيرة أحد أعمدة القانون والانظمه في بلادنا وعرابها د/مطلب النفيسه وكيف أن كوكبه من رجال القانون أجتمعت في عقد واحدفي هذه السيره علي راسهم فيلسوف القانون السعودي صالح الحصين

  5. والسبعة الانعام باخونا صاحب المعالي د. مطلب النفيسة
    ‏علماً وادباً واخلاقاً وسيرة ومسيرة وسليل اسرة كريمة المحتد لهم ذكر يرفع الراس،
    ‏رجل خدم الدولة ولازال منذ اكثر من 60 عاماً
    ‏اسرته كانوا جيران اسرتي في محافظة ⁧‫#رياض_الخبراء‬⁩
    ‏الله يتم على معاليه نعمة الصحة والشفاء ويحسن له الخاتمة .

  6. مقال رائع ومتكامل تطرق فيه الباحث أ.أحمد العساف الى الكثير من ما تمتع بها من طيب اخلاق وصفات تمثلت في معالي د.مطلب النفيسة وتنوع مقاله من علاقاته مع أصدقائه وأسرته ومواقفه المؤثرة وكل من عاشر هذا الانسان المعطاء الذي بذل حياته في خدمة الوطن حفظه الله وعافاه

  7. ماشاءالله أخي أحمد كيف تغوص على الدرر حيث ذكرتني بقامة أعجبت بها سيرة ومسيرة وكنت قريبا منها رؤية واعجابا عندما كنت موظفا بأمانة مجلس الوزراء من عام ٩٤هج أواخر ارتباط الهيئة بالأمانةوانفصالها إداريا وبقائها عمليا وحتى انتقال الدكتور للأمانة كوزير دولة لقدوفيت ولاعطر بعد عروس

  8. ونعم العم متجلياً في سمته وخلقه وعلمه وتواضعه مع علو منصبه ونعم الأسرة التي تجمعني به وأحسنت يا بن العساف في مدونتك الرائعة التي ازدانت بروائع أدبك في انتقائك لمفرداتك التي وصفت بها معالي الدكتور وزير الدولة العم مطلب النفيسه 🌹

  9. جزاك الله خيرًا .. هذه الشخصية من الشخصيات التي أتمنى أن تكتب مذكراتها وأخبارها.. خصوصًا في مسيرته الوظيفية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)