وزراء على منصة الكتابة والتأليف
العلاقة بين الكتابة والتأليف ومنصب الوزارة علاقة قديمة، وفي تاريخنا كتب تشهد بذلك، وسير وزراء كتّاب تؤكد هذا الرأي، وهو شأن شائع مشاهد في كثير من دول العالم على اختلاف أنماط الحكم فيها ومستوى الثقافة. كما أن جدلية العلاقة بين السياسي والمثقف مسألة أشبه بالمعضلة التي لا ينتهي البحث فيها والحديث عنها، وهذا هو أول أمر أقدمه بين يدي هذا المقال الواقع ضمن سلسلة من المقالات عن الوزراء في المملكة، وعن تاريخ مجلس الوزراء الموقر.
أما الأمر الثاني فهو أني أحصيت الكتب المنشورة للوزراء باللغة العربية قدر استطاعتي، وهذا يعني أن الأبحاث والمقالات وأوراق العمل والندوات والمؤتمرات غير مدرجة في هذه الإحصائية مالم تكن مطبوعة ضمن كتاب لمؤلفها، ويعني أيضًا أن الكتب المنشورة بلغة أجنبية ليست ضمن هذه القائمة حمية للغتنا، وكنت وسأبقى متعجبًا من عرب ينشرون الكتب باللغة الأجنبية، ثمّ يترجمونها إلى العربية، وكان الأجدر بهم فعل العكس، وأستثني من ذلك الرسائل العلمية في الجامعات الغربية بحكم الضرورة التي أتمنى أن تكون مؤقتة زائلة.
وثالث أمر أسوقه على استحياء هو أن بعض القراء قد يقول: وماذا نريد من وزير مؤلف أو كاتب أو شاعر؟ ولماذا لم يلتفتوا إلى أعمالهم؟ فأجيب العزيز بما مختصره أن التفاعل الثقافي لا يتناقض مع أداء العمل بمهارة وإتقان، وأن الكتابة حق مكفول لكل أحد، وفوق ذلك فالتأليف واجب على ذوي المكانة لنقل علمهم، وعرض تجاربهم وخبراتهم، ورواية تاريخهم وسيرهم، فهي في النهاية جزء من تاريخنا الإداري أو تاريخنا في المجال الذي اختص به الكاتب. وأزيد بالإشارة إلى أن وجود النخب في أعلى المجالس مدعاة للسعادة والفخر ومزيد الطمأنينة، وأهمس في أذن الناقد: ومن قال لك بأنهم لم يؤدوا أعمالهم على أكمل وجه ممكن؟!
عقب ذلك، وبناء على الجداول المتاحة أمامي، وجدت أن تسعة وخمسين وزيرًا (59) قد صدر لهم كتاب أو أكثر، ونسبتهم من مجموع الوزراء هي (31%) والثلث نسبة طيبة. وقد دوّن بعض الوزراء سيرهم الذاتية، وعدد الذين كتبوا أو رووا سيرًا مطبوعة أو رأيتها وهي تحت الطبع اثنان وعشرون وزيرًا (22)، وهذا العدد قابل للزيادة إذا ظهرت كتب أشيع بأن مسوداتها محفوظة عند الورثة، هذا غير أني سمعت من بعض الوزراء السابقين، أو نقلًا عنهم من آخرين، بأنهم قد شرعوا في الكتابة أو فرغوا منها.
وكم كنت أتمنى -وغيري يتمنى- لو سطّر عدد من الوزراء السابقين سيرهم الذاتية، وأخصّ منهم وزيري الدولة سابقًا محمد إبراهيم مسعود صاحب الجولات الدبلوماسية والاستخبارية، ود.فايز بدر المشهود له بالقوة والصرامة الإدارية وعلو الكعب الأدبي. وليت أن كل وزير على قيد الحياة يبدأ في كتابة شيء من الذكريات دون إفشاء أسرار يرى بأنها خطيرة أو حرجة، أو يسجل مذكراته على الأقل بالصوت مع صورة أو بدون، فقيمتها ثمينة في المستقبل، والحاجة إليها أكيدة، وكما كان العمل الماضي أمانة، فتبصير الأجيال أمانة وأمان للمستقبل كذلك، والتوازن الرشيد مطلب. والشيء بالشيء يذكر؛ فبعض الوزراء كُتب عنه عقب رحيله، ولو ترك لنا مادة حتى لو أنها أولية لأفادت وحسمت، وربما أغنت عن أن يكتب الآخرون عنه مهما اجتهدوا وأجادوا.
كما رأيت أن عدد الوزراء الذين صدرت لهم دواوين شعرية يصل إلى سبعة وزراء شعراء فقط، مع أن الشعراء والكتّاب من الوزراء أعلى عددًا من الأرقام المحصورة هنا؛ لكنّ بعضهم كتب كثيرًا دون ضمها في كتاب، ولم ينهض أحد فيما أعلم لجمع شتات أعمال الوزير الفكرية والأدبية المكتوبة والمرئية والصوتية بين دفتي كتاب، وليت أن أحدًا من أقاربهم أو محبيهم يبادر لأداء ذلك خدمة لصاحب الموروث وللبلد، ونشرًا للعلم والثقافة، وحفظًا لإرثنا من الضياع أو الغياب التام، وهذا التنبيه العددي مهم لفتح المجال لأيّ زيادة مستقبلية بأثر رجعي، وبيان ارتفاع المستوى الثقافي لمجلسنا الإداري الأهم.
ومما لاحظته أن عددًا من الوزراء لهم إنتاج فكري كتابي غزير للغاية، وبعضهم إرثه الثقافي متنوع ما بين مقالات، ودراسات، وكتب، وندوات، وترجمات، وبرامج تلفزيونية، وشعر، ورواية، ومسرحية، وقصة، وسير ذاتية، ومراجعة كتب، وهذا الوصف يصدق على الوزير د.غازي القصيبي الذي خلّف وراءه من الكتب ما يقترب من سنوات عمره السبعين. ومن الوزراء المكثرين جدًا من التأليف د.عبدالعزيز الخويطر، ود.محمد عبده يماني، ود.عبدالله التركي، ود.محمد الرشيد، وأ.د.علي النملة، ومن الموافقات أن هؤلاء الثلة لهم سير ذاتية مكتوبة، منها المتاح ومنها الذي ينتظر.
ثمّ يأتي بعدهم أسماء أخرى مثل المفكر الشيخ حسن كتبي، والشيخ القانوني صالح الحصين، والمهندس المفكر د.محمود سفر، وخبير الكتابة الدستورية د.محمد الملحم، وأستاذ الاقتصاد د.فؤاد الفارسي، والأكاديمي الإداري أ.د.مدني علاقي. ويظهر من هذه الأسماء أن سمة الثقافة، والعلم، والعناية بالتعليم والقراءة سمة بارزة لديهم، وفضلًا عن الارتباط بالشأن الفكري والدعوي، والحضور المحلي أو الدولي اللافت. ولأعضاء المجلس من وزراء الدولة من القدرة الفكرية، وعمق التجربة، ما يمكنهم من الكتابة، وعسى أن يفعلوا سواء الماضين منهم أو الحاليين، خاصة من ذوي الامتداد التاريخي، والخبرات الثرية.
كذلك مما تبين لي أن عددًا من الوزراء ترجمت كتبه أو دواوينه إلى لغات أخرى، أو تحولت إلى أعمال مرئية، وبعضهم كتب أكثر من سيرة ذاتية مثل الوزراء كتبي ومحمد توفيق والقصيبي وشبكشي. وأكثر الوزارات التي ألّف شاغلوها سيرًا ذاتية هي وزارات التعليم والصحة الإعلام، وإنها لوزارات صاخبة منهكة. ومن الوزراء من ترك سيرة ذاتية مرئية ثمّ تحولت إلى كتاب مثل الشيخ محمد بن جبير، وحسنًا صنع، وهي طريقة عملية، وسنة حسنة لمن تصعب عليه مواصلة الكتابة، أو يجد تثاقلًا عن الانضباط في استرسال كتابي له لوازمه وقواعده.
ومن لطائف الوزراء الكتّاب حسبما قرأت أو سمعت، أن بعض المسؤولين الكبار أثنوا على حجم الخط في ذكريات الوزير الخويطر، وهو حجم كبير يعين على القراءة بلا نظارة؛ علمًا أن عدد أجزاء هذه الذكريات تجاوزت الأربعين ولم يفرغ منها مؤلفها قبل وفاته. ومن الطرائف أن د.غازي القصيبي سمع من بعض زملائه لمزًا حين اقترح بأن تدرج أشعار السعوديين في المناهج المدرسية، وخلاصة اللمز أنه يريد تدريس شعره!
ومما لا يُغفل عنه في هذا السياق الإشارة إلى أن الأمير الوزير الوحيد الذي له كتب مطبوعة من بين الأمراء الوزراء -فيما أعلم- هو الأمير مساعد بن عبدالرحمن، إذ صدر له كتابان، وألّفهما أو أحدهما في حياة أخيه الملك عبدالعزيز، وقبل أن يصبح الأمير وزيرًا، واسمه مكتوب على غلاف الكتاب بطريقة فنية غير معهودة، والكتابان نادران فيما سمعت، وللأمير طلال كتاب عن والده الملك عبدالعزيز كما قرأت دون أن أراه، وللملك سلمان محاضرة ألقاها في إحدى الجامعات عن الملك عبدالعزيز ثمّ فرغت في كتاب من إصدارات الدارة.
ومن هذا الباب أن أول كتاب أدبي مطبوع في العهد السعودي ألفه الوزير الشيخ محمد سرور الصبان عام (1344) وهو أديب وثيق الصلة بالكتاب والمكتبة والطباعة والنشر. وقد أخبرني صديق بأن جاره الوزير العالم حينما أعفي من منصبه اعتكف في مكتبته يقرأ ويكتب ويؤلف، وما أجمله من عكوف. ومن نافلة القول التذكير بعلاقة عدد من الوزراء مع الصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية ودور النشر والبحث؛ فمنهم المؤسس، أو كاتب أول افتتاحية، أو الواقف خلف تلك المشروعات بجاهه وماله وعلمه.
ولأننا في شأن ثقافي وزاري، فمن الحسن الإشارة إلى أن لعدد من أعضاء المجلس من الأمراء والوزراء يد طولى على العلم والثقافة من خلال مساندة المجامع والمشروعات العلمية ماديًا ومعنويًا، ورفع الفاقة عن العلماء والمفكرين والأدباء، والتكفل بعلاجهم من ضعف البصر أو السرطان أو غيرهما، هذا غير إنشاء مؤسسات خاصة لإنتاج الموسوعات، أو صيانة التراث، أو دفع تكاليف الطباعة والتوزيع المجاني. وإن إكرام العلم والثقافة ومجالهما وأربابهما لمن الخير الذي لا يضيع، ولا يعدم المحسن -ولن زمخشرية- جوازيه ولو بكلمة ثناء حقيقي، ولسان صدق في الآخرين، وآمل أن يتاح لهذا المنحى موضع آخر للكتابة فيه.
إن هذا المقال يحمل دعوة للأبناء والطلاب والمخلصين خلاصتها ضرورة المسارعة إلى جمع تراث الراحلين من ذويهم، سواء من مقالات، أو محاضرات، أو تقديمات لكتب، أو تعليقات على مجالس أو مؤلفات، وطباعتها وإتاحتها، وحفظ مكتباتهم أو التبرع بها. وهو دعوة ثانية لدمج الأعمال المتناثرة في أعمال كاملة ضمن منظومة واحدة كما هو دأب كثير من المؤلفين. وهو دعوة ثالثة لمن نسأ الله في أجله، ومدّ في عمره من وزرائنا المثقفين، بأن يلتفت إلى هذا الباب العظيم من الأجر والفضل والأثر وجميل الأحدوثة والذكر. والرابعة دعوة لأهل القلم والقراءة والعلم بأن يزيد فخارهم بما اختصهم الله به من مجال رحب ينافسهم فيه كبار أهل الدنيا؛ فالمجد كلّ المجد للقراءة والكتابة التي لا يجوز أن توصف بأنها مجرد ملحق يتبع سيرة المرء، وإنما هي أسّ من ركائز الحياة، وسبب من أسباب البقاء واللذة الحكيمة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 06 من شهرِ محرم عام 1444
04 من شهر أغسطس عام 2022م
2 Comments
جهد حري أن يخرج في كتاب
مقال رائع أستاذنا الكريم
وأنا أمل فضلاً منكم أيضاً
أن تضع كل ما كتبته في 📕 كتاب ليحفظ هذهِ المقالات النفيسه نفع الله بعلمكم