الواقف في الشمس!
أحب السير والمذكرات القصيرة وأفضلها على الطويلة، لأني أقرأ فيها باستمرار، وضخامة الكتاب عائق يحول دون قراءته، وأذكر أني وقفت على خبر عن وزير خليجي سيطبع سيرته في أزيد من عشرين مجلدًا، فما سعدت بذلك حتى لو كان في السيرة وثائق ولقاءات صحفية وأخبار، فهذا الحجم كبير مبالغ فيه، علمًا أن بعض الإضافات والملاحق تكون أحيانًا بلا قيمة تستحق عناء وجودها، ولكن يبقى أن التكاثر الملهي جبلّة بشرية؛ وهو علّة ينبغي أن يستشفى منها في بعض الأحوال.
أقول ذلك وقد فرغت بعد ساعات من قراءة سيرة ذاتية عنوانها: الواقف في الشمس سيرة حياة وذكريات، تأليف: د.علي بن عبدالعزيز الخضيري، صدرت الطبعة الأولى منها عام (1441=2020م) وتقع في (160) صفحة، مكونة من المقدمة التي يتلوها واحد وثلاثون موضوعًا ثمّ الخاتمة. ويُعدّ هذا الكتاب من حسنات نازلة كورونا وما تبعها من حجر منزلي شامل أو جزئي، وقد اختلف الناس فمنهم من استثمر ذلكم الحدث وأنجز، ومنهم من أثبت الحدث له -أو لغيره- أن المعضلة لديه في الإنجاز والنتائج والجدية، والوقت بريء من التهمة التي تلقى على كاهله دومًا!
من مميزات هذه السيرة أنها قصيرة، ومنجمة على عناوين متنوعة، وفيها شيء من خبر الماضي والأسرة بتفرعاتها، وأحاديث شوق وحنين عن الآباء والامهات والإخوة. كما حفظت مرويات عن آخرين من أقارب المؤلف وغيرهم لم يتح لبعضهم أن يكتبوا شيئًا. وأخبرنا الكاتب عن بلدته البكيرية، وما فيها من مساجد، وتعليم، ومزارع، ومتاجر. ومن مزاياها التجديد في العنوان خلافًا لبعض العناوين التي اهترأت من كثرة الاستعمال، فجاء العنوان اللافت، وله أسرار يحكيها الكتاب، بعضها يتحدث عن شمسنا التي نعرفها، ويلمح بعضها لشموس معنوية أخرى منها الدافئ المحبب، ولا تخلو من شموس ذات إشعاع مؤذ في حرارته وجهارته وتركيزه!
كانت الوظيفة الأولى التي عمل فيها د.علي بعد تخرجه في الثانوية ضمن طاقم موظفي ديوان الموظفين، وصدر القرار بتوقيع من رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء! ومسؤوليته كانت عن خدمات موظفي الديوان الملكي، ومجلس الوزراء، ووزارة الخارجية. ثم تعاون مع وزارة الإعلام مذيعًا بعد أن أعجب بصوته وزير الإعلام الأول الشيخ جميل الحجيلان، وكان أول سعودي متعاون مع الإذاعة، ولأبي عبدالعزيز عدة أوليات ستأتي. وواصل الترقي في مناصب داخل وزارة الإعلام ورئاسة تعليم البنات، ومجلس الشورى، مع رئاسة بعض الوفود الإعلامية التي تصاحب الملوك والأمراء في زياراتهم الخارجية.
من أجلّ ما في السيرة حكاية وقف عمته خديجة، التي أوصت بثلث مالها كي يصرف خيريًا، وبعد وفاتها لم يجد الوصي لها تركة فكيف يكون لها ثلث؟ لكن عقب ستين عامًا ظهر لها إرث فكان لها ما أرادت من عمل الخير، وإن النية الصالحة لتستجلب التوفيق. ومن أعظم الأعمال التي شارك فيها مؤلفنا أنه حين تخرج في الجامعة، انتقل عمله الرسمي للإذاعة عام (1390)، فلفتت نظره إذاعة القرآن الكريم من مصر، ولذلك اقترح إنشاء مثلها على الأستاذ خالد غوث مدير الإذاعة، الذي بادر بعرض المقترح على الوزير الثاني للإعلام الشيخ إبراهيم العنقري، فحصل على موافقة الملك فيصل، وبدأ إرسال الإذاعة في غرة صفر عام (1392) بساعتين فقط إلى أن أصبح الآن طوال اليوم والليلة، وما أسعد هذه السلسلة الرباعية ومن كان معهم ممن لا نعلم أسماءهم إلى يومنا بالأجور على الخير العظيم العميم من هذه الإذاعة التي تُعدّ من درر الإعلام العربي المعاصر، ولصاحبنا فضل الإيجابية بالمقترح، والسبق إلى كونه أول مدير أسندت إليه إدارتها وتسيير شؤونها.
كذلك يرد في الكتاب قصص لطيفة عن شامة المؤلف السوداء وكيف أزالها، وعن الدراجة الهوائية التي كادت أن تفصلهم من الدراسة في المعهد، وعن مواقف شقيقه منصور مع البئر والمناداة في الصلاة. ومنها كذلك زيارة الملك سعود للقصيم وتوزيع الأموال على الناس والطلاب والمعلمين، ومشاهدة السيارة وركوبها والسفر عليها برًا. كما تحوي بعض المعلومات عن الحياة القديمة بما فيها من ذئاب وجراد، وعن دخول المكائن للمزارع، والمذياع لبيتهم في مرحلة مبكرة وكأنه تهيئة لأحد فتيان المنزل حتى يغدو من فرسان هذا الميدان. ومن رواياتها الإشارة إلى مزرعة الخرتشية التي غرست عام (1254) وسميت كذلك لتوافقها مع سنة غزو خورشيد باشا لنجد، والعامة تنطق اسمه خرتش أو خرشت.
وفيها طرف من أخبار الدراسة العليا بمصر، والحصول على شهادة الدكتوراه بجامعة الإمام بالرياض، وهي أول رسالة تناقش في الأدب العربي؛ ولذا حضرها رسميون وأكاديميون منهم ثالث وزير للإعلام د.محمد يماني، ومدير الجامعة آنذاك الشيخ د.عبدالله التركي، وعنوانها “علي بن المقرب العيوني: حياته وشعره”. وقد جعلته هذه الرسالة في موضع المرجعية؛ فالملك خالد يسأل وزيره د.يماني عن شطر بيت لابن المقرب وهو بدوره يتلقى الجواب من د.الخضيري الذي أعطاه القصيدة كاملة وسر بها الملك، كما سأله الشيخ القاضي عبدالله بن حميد عن بعض قصائد ابن المقرب، ومثله الأمير متعب بن عبدالعزيز الشغوف بشعر ابن المقرب. وللمؤلف كتب أخرى أحدها عن سيرة والده وبعض ذريته، ومنها رسالته للماجستير عن الشاعر العرجي.
كما احتوت السيرة على إشارات عائلية عن الأبوين، وتدليع الأب لبناته وتصغير أسمائهن، وحول زوجات الأب التي ينظر إليهن الأبناء على أنهن مثل الخالة الشفوق النصوح، وهنّ ثلاث منائر وحصة هي والدة المؤلف التي فجع بوفاتها كما أبانت حروفه تحت عنوان خاص، وأيّ فقد مثل فقد الأم! وفيها شيء من اجتهاد المؤلف في إعداد مشجرات للأسرة الكبيرة ولذرية والده، والعمل في صندوق الأسرة وهو مشروع يحتاج لبعث وإحياء عقب صدور أنظمة جديدة تجعله أيسر وأضبط. وفيها شيء من ذكريات زيارات الأقارب في عدة مناطق قريبة من خط التابلاين، وما أثمرته من اقتران المؤلف لاحقًا بكريمة خاله الشيخ صالح المحيميد بناء على وصية من والده الذي أعجبته خصال زوجته التي هي عمة الفتاة المعينة، ووالدة المؤلف.
وتنحبس الأنفاس مع اقتراب الخطر المروع خمس مرات من المؤلف فأنجاه الله منها بفضله وكرمه، وهذا الجانب مما يجعل للسيرة تشويقًا وجاذبية، وأذكر أني قرأت مثل هذا الأمر في سيرة الإمام البرقعي الذي أنجاه الله من ست محاولات شاهنشهاية وخمينية لاغتياله إن لم يدركني الوهم في العدد والسبب. وهذه الحوادث الخطرة مختلفة في أسبابها؛ فمرة من ذئب أشغله التهام الشاة عن الطفل الرضيع المجاور لها، ومرة من النار التي أشعلت ثيابه ووصلت إلى جلده، وثالثة من دخان خانق كاد أن يودي به وهو نائم، والرابعة من صاروخ عدوان، والخامسة من تضخم الغدد اللمفاوية.
إنها حقًا لسيرة يجد القارئ فيها صورة الجدية، ودفء الأسرة، ولذاذة الأدب، وجمال الصحبة، وقداسة العمل الرسالي في التعليم والإعلام والشورى، وعبق الماضي. ولا تخلو من بعض المواقف المبهجة أو الحرجة المرتبطة بزلات العاملين في الإعلام، مع بعض الغصص الحقيقية وربما المصطنعة كغصة أحد وزراء الإعلام! وفيها إضاءة على شخصيات وأحداث عبرت بصاحب السيرة وكان لها أثر وذكرى، وعسى أن يكون الواقف في الشمس حافزًا لرفقته الطيبة في دورية عمرها يناهز ثلث قرن؛ كي يطلعوا القراء على حياتهم، أو على قصاصات من تلك الحيوات عمرها الله بكل أمن ورغد وإيمان.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 08 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443
08 من شهر يونيو عام 2022م