مواسم ومجتمع

الأسرة والمنهج السامي

Print Friendly, PDF & Email

الأسرة والمنهج السامي

رابطة الدم من أعظم الروابط على الأرض؛ ولأجل ذلك أنيطت بها أحكام شرعية كثيرة مثل الميراث، والدية، وصلة الرحم، والولاية، وغير ذلك ليضيف لهذه الرابطة قوة بحكم الجبلّة وما تعارفت عليه الخلائق منذ نشأتها من حميّة وهبّة قد تخرج أحيانًا عن الحدود المقبولة. وبناء على هذه الرابطة تكونت أسر صغيرة نووية، وأخرى كبيرة ممتدة، وصار لكثير من هذه الأسر عمل مشترك يزيد أو ينقص، والمهم ألّا ينقطع أو يتقهقر.

وفي ليلة أنيسة من ليالي الشتاء، نظمت مبادرة صلة لتنمية مشرفي البرامج العائلية أمسية ضمن موسمها الثالث بالتعاون مع شركة تكوين القيم ومنصة خطوة، بدعم ميمون من مؤسسة السبيعي الخيرية، وأدار الأمسية الأستاذ ياسر بن بدر الحزيمي، وتحدث فيها د.خالد بن سعود الحليبي، وكاتب هذه السطور خلال ساعتين، تخللهما مداخلتان أولاهما لمؤسسة جسور للعمل العائلي عن طريق الأستاذ عمر بن سعد القريشي، والثانية لمبادرة صلة عبر الأستاذ عادل بن عبدالله السلطان الذي أعلن عن مسابقة لأفضل البرامج الأسرية، ووجد الإعلان حماسة وإقبالًا تمامًا مثل وقع لأصل اللقاء؛ مما يدل على حاجة أكيدة مع تعطش لهذه الموضوعات.

ومن فضل الله تعالى أن حضر لقاء الأربعاء الذي أقيم عن بعد أكثر من أحد عشر ألف مستمع ومشاهد من الجنسين، وظهر خبره من خلال تويتر وتيلقرام قريبًا من ثمانين ألف مرة، والعدد قابل للزيادة بمشاهدة المادة المحفوظة على اليوتيوب، والمتداولة في وسائط نشر كثيرة. وقد أخبرني صديق قبل بداية الأمسية بأن أسرة خؤولته الكبيرة أعلنت بين أفرادها وأصهارها وأنسابها عن مسابقة مالية مجزية لمن يلخص اللقاء فيجيد، وحين ذكرت ذلك للحاضرين طلبوا الحصول على نسخة من الملخص الفائز. كما أنبأني زميل نقلًا عن زوجته بأن الإعلان للأمسية رائج بكثرة في مجموعات قرآنية وتربوية وثقافية، والله يوفق المصلحين لحسن التسويق، وجمال العرض، وقوة الحضور، وكمال الأداء، والتوفيق للهداية من الله.

لذا أحببت جريًا على ما تعودت عليه من إتباع غالب الأحاديث التي أشارك فيها بنشرها مكتوبة بعد الإفادة من الطرح الذي أسمعه من المشاركين والمداخلين والسائلين لمزيد تجلية وإنضاج للأصل المعدّ، فالمكتوب في النهاية سيظلّ محفوظًا، وربما أن الفائدة العلمية منه أعظم من مجرد السماع والمشاهدة، وفي كلٍّ خير ونفع ومزاحمة وتأثير. هذا غير أني فيما أكتبه أتجاوز حاجز الوقت الذي يمنع من عرض بعض الأفكار، وها هي أدناه تحت عناوين دالة وفي جمل لن تطول.

أهمية العمل الأسري:

للعمل الأسري جوانب أهمية عامة وأخرى خاصة للأسرة من ناحية ولأفرادها من ناحية ثانية، فمن أهميته العامة ما يلي:

  1. هو منتج من رحم حضارتنا الإسلامية والعربية، وليس مستوردًا من غرب أو شرق وإن أفدنا من بعض أدواتهم وتقنياتهم، وبالتالي فهو فرع من العلم والعمل ليس فيه هجرة معرفية أو ذهنية، والمجال فيه واسع لتصديره إلى غيرنا حين تستيقظ فطرهم، ويعود إليهم شيء من الرشد الاجتماعي.
  2. الإسهام في تماسك المجتمع من خلال ترسيخ قيم المجتمع وعراقته.
  3. تقديم نموذج ناجح وجاهز لأن تقتدي به الأسر الأخرى.
  4. تخفيف الأعباء عن الأجهزة الحكومية حينما تحفظ الأسر شبابها، وتؤهلهم، وترعى الفقراء والمرضى وذوي الحاجات، وتكون سببًا في تحجيم المشكلات، ورعاية الأمن والسكون المجتمعي، وتبصير الناشئة بسوق العمل، ومجالات الاستثمار.

أما جوانب الأهمية الخاصة فمنها ما ينصرف إلى الأسرة كافة مثل:

  1. مظلَّة مناسبة لتقوية العلاقات الأسرية، وصلة الرحم، والتعرف عنْ قرب إلى الأسرة بعامة ورموزها على وجه الخصوص والنَّهل مِنْ معينهم.
  2. المحافظة على تاريخ الأسرة وموقعها في المجتمع.
  3. حماية عراقة الأسرة ومكتسباتها، وزيادتها، أو إيجادها إذا كانت مفقودة.
  4. إعداد بيئة آمنة للأبناء والبنات فيها تربية وتعليم وترفيه، خاصة مع كثرة المنافسين على عقول الناشئة وقلوبهم لقتل الهمة، وصناعة التفاهة.
  5. الحماية من الانحراف والزلل لأن المفاخرة في مجتمع الأسر تقتصر على المكارم، ولا يجاهر المذنب بجريرته خلافًا لما يكون في بعض بيئات الأصدقاء.
  6. ارتقاء الأسرة بأجمعها وليس فردًا دون آخر؛ لأن غاياتها جماعية لا فردية.

ومن الأهمية الخاصة للأفراد ما يلي:

  1. ميدان لإنضاج أبناء الأسرة بلا إحراج لأن الأخطاء فيه مغفورة مستورة فلا أنصح من الأسرة لأنجالها، ولا أحرص منها عليهم.
  2. تمنح الأفراد ثقة في النفس بعد أداء مسؤوليات بإنجاز استجلب قدرًا من الثناء والتحفيز.
  3. يستطيع الفرد مستقبلًا أن يباشر أكثر من مهارة في أكثر من حقل بعد أن تدرب عليه تحت عيون أسرته.
  4. الشعور بلذة الانتماء الذي يحدث غيابه خللًا عميقًا في النفوس.

مزايا العمل الأسري:

  1. نظمه وإدارته داخلية لا يُفرض عليها شيء من خارجها باستثناء الالتزام بأحكام الشريعة والأنظمة الرسمية والأعراف المقبولة.
  2. لكل أسرة أهدافها المنطلقة من حاجاتها الخاصة، وهذه الأهداف تبني شبكة من الرشد والسمو المجتمعي.
  3. مرونته عالية في الإجراءات والتنظيمات حسب حال كل أسرة.
  4. متوافق مع الدين والقيم والشيم العربية، ومع الطبيعة البشرية.
  5. متسلسل طويل المدى بعيد الأثر يستفيد منه الأبناء والأحفاد فمن بعدهم.
  6. الأجر الأخروي فيه مضاعف-بإذن الله- لأنه بر وصلة ودعوة إلى الخير ونفع عام دائم.

مقترحات لاستثمار وسائل التواصل الاجتماعي:

  1. رسم شخصية واضحة المعالم والأطر والضوابط لحسابات الأسرة الرسمية قبل أن تخطو خطوة واحدة في الظهور العلني.
  2. انتقاء المسؤولين عن الحسابات بعناية على أن تتوافر فيهم الحكمة والمهارة والقدرة على المتابعة والرصد والتفاعل.  
  3. ضرورة تجنيب حسابات الأسرة الفئوية والتحيز لفرع أو شخص.
  4. ابتعاد الحسابات عن الشؤون السياسية والفكرية والرياضية وغيرها مما لا يخدم الأسرة مباشرة.
  5. مواكبة التطورات السريعة في هذه الحقول، ومنها إنشاء تطبيق للأسرة فهو لغة العصر ويجذب الشباب.
  6. إدراك المحظورات والمسائل الحساسة إن في المجال العام أو في شؤون الأسرة، والتجافي عنها في أي منصة تتبع الأسرة.

كيفية تأسيس العمل الأسري:

  1. الاقتباس من قصص وتجارب ناجحة لأسر أخرى دون تقليد تام أو مقارنة.
  2. يتطلب التأسيس قدرًا كبير من الصبر والتحمل والتدرج واستحضار النية أمام هجمات الفتور وفي مواجهة الانتقادات اللاذعة.
  3. الإفادة من المراكز المتخصصة ذات الخبرة والتطبيقات الموفقة في العمل الأسري مثل مؤسسة جسور الفريدة محليًا فيما يبدو، ومثل مبادرة صلة التي تسعى للتثقيف ورفع الوعي فيما يخص العمل الأسري.
  4. اغتنام فرصة تعاون الأجهزة الحكومية مثل المركز الوطني للتطوع ووزارة التنمية الاجتماعية وهيئة الأوقاف وغيرها.
  5. يمكن ابتداء العمل بصورة أسرية اجتماعية، أو بغطاء رسمي من عدة خيارات هي:
  • جمعية عامة تخدم الأسرة التي تستوطن دون غيرها مكانًا واحدًا وغالبًا ما يكون ذلك في البلدات الصغيرة.
  • مؤسسة وقفية مصرفها الأهم شؤون الأسرة.
  • صندوق عائلي وهو يسير في إنشائه، وعملي في منافعه.

تحديات تواجه العمل الأسري:

  1. التعامل مع كبار السن والقدر: وهذا يحتم إشراكهم واستئذانهم والانطلاق من دعمهم، والسعي لاسترضائهم دون إلحاق ضرر بأصل العمل أو بآخرين من الأسرة.
  2. بلاء الإهمال: الحذر من إهمال أيّ كبير، والكبير لا يقتصر على ذوي الوجاهة بعلم أو مال أو منصب، بل كل ذي شيبة يعدُّ كبيرًا لا محيد من توقيره وتقديمه. ومن الإهمال نسيان الفروع الصغيرة، والأسرة المقيمة بعيدًا، وذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرهم.
  3. توزع أماكن إقامة أبناء الأسرة: ويمكن تفعيل الخيارات الإليكترونية في بعض اللقاءات، أو تناوب مناقلتها بين المواقع، أو اختيار موضع متوسط، أو ترك الحرية لأهل كل بقعة في إدارة أنشطتهم مع التعاون والتواصل، ويمكن جدولتها حتى يتمكن القادرون مع التنقل بينها.
  4. العوائق المالية: من الحصافة أخذ هذا الأمر بالحسبان، ويمكن تقسيم فئات المشاركة على أسهم، ويدفع كل فرد طبقًا لمقدرته. ويستتبع هذا التحدي الحرص على تقليل التكاليف، والإبداع في تجاوز هذا الشأن الذي يزداد مع الأيام قسوة وحراجة.
  5. المعترضون دومًا: أفضل علاج لهم يكمن في ترك جدالهم والشروع في العمل، وسيأتي يوم يشاركون فيه هم أو ذرياتهم.
  6. الخلافات القديمة: استنهاض عزيمة حكماء الأسرة وأصحاب الرأي لشجاعة التجاوز والصفح وابتداء مرحلة جديدة قدر المستطاع مع التغاضي عن المنغصات، وإهمال إشارات بعض من لا يرعوي، وتلميحات من لا يزن الكلام أو يراعي مقتضى الحال.
  7. الفروع المستقلة: أحيانًا يوجد فرع يرغب بالاستقلال لكثرة عدد أفراده، أو لأنه يحمل لقبًا آخر، ومن الوداد إجابة رغبتهم، وإدامة الصلة معهم بالمعروف، فمن شارك الأسرة الأصلية رحب به مثل غيره، ومن عجز او امتنع فلا تثريب عليه.

إعداد كوادر شبابية للعمل العائلي:

  1. من عوامل نجاح العمل الأسري بناء فرق العمل، وإحاطتها بالتدريب والتأهيل، وتوثيق علاقاتها بمن يحمل هم الأسرة.
  2. من الحنكة الحرص على كون أعضاء أي فريق عمل يتمتعون بواحدة أو أكثر من هذه الصفات:
  • أن يكون عمره مناسبًا للعمل فليس دون العشرين ولا فوق الستين باستثناء أحوال مخصوصة.
  • أن يكون لدى العضو قيمة مضافة في تخصص أو خبرة أو مهارة أو حماسة.
  • أن يكون لديه قابلية للتطور واستعداد مستقبلي للقيادة.
  • أن يكون تمثيل فروع الأسرة عادلًا.
  1. من الضرورة أن تضع قيادات الأسرة عيونها على مسألة إدارة التعاقب وتأهيل الصف الثاني فمَنْ وراءه.

سمات الأسرة الناجحة:

  1. لديها قيادة مطاعة راشدة، ولا خير في قيادة لا تطاع، ولا منفعة من قيادة ينقصها الرشد.
  2. لديها قدر مقبول من الصلة والتواصل على مستويات عدة.
  3. عندها مواطن اقتداء في أفرادها، وأعمالها، أو قيمها.
  4. تتقدم في برامجها ولا تتأخر أو تتوقف.
  5. تترفع عن الصغائر التي يتكاثر وجودها في مجتمع الأسر بسبب بعض الأطفال والنساء والرجال والتسرع والقول الملقى بلا روية.
  6. تتكون من أسر صغيرة ناجحة ومميزة.
  7. السعي لخدمة الأسرة سمة عامة فيها.

توصيات عامة:

  1. العمل الأسري مظلة جديرة بالعناية من أبنائها، وبالعون من باقي مؤسسات المجتمع.
  2. قد يناسب حجب أسماء أعضاء بعض اللجان الأسرية دفعًا للحرج والملامة عنهم.
  3. من الإحسان للأسرة أن يفيض الأغنياء من زكاتهم وصدقاتهم وهباتهم على فقراء الأسرة دون إعلان وبما يحفظ كرامتهم، ويحول دون انقطاعهم عن الأسرة، وإنه لمن أعجب العجب أن يتضور فقير وابن عمه ثري مترف!
  4. أي عمل مالي تشاركي عرضة للتهمة وسوء الظن والمساءلة؛ ولذلك فضبطه مهم وفق الإجراءات الرسمية، مع الاستعداد النفسي لورود شيء من هذا حتى يخفّ وقعه، ولو سلم أحد من تلك التهم لسلم الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام مالك رضي الله عنه.
  5. تحديد معنى الأسرة وحدودها والمستهدف بأنشطتها وخيراتها مهم، خاصة ما يتعلّق بمزايا أبناء الأبناء وأبناء البنات.
  6. يوجد في كل عمل عقول وعضلات، والتكاتف بينها سبب اكيد للنجاح، فالعقل يستشرف ويبصر، والعضلات تحمل وتنفذ، وكل واحد منهما يخدم الآخر.
  7. لا تحقر أيّ عمل أسري مهما بدا الصغير، فالصغير يكبر وينمو إا صلحت النوايا، وقويت العزائم.
  8. ربما يناسب أحيانًا البدء ببرامج الشباب أو الأطفال أو النساء، فهم القاطرة التي تسحب الأسرة إلى ربيعها الجميل.
  9. المثالية، والبحث عن الكمال، من أقوى دواعي تثبيط الهمم، ووأد الأعمال.
  10. قصر السخاء على المال فيه نظرة ضيقة، فمن السخاء ما يكون بالوقت والجهد والخبرة والجاه، ومنه السخاء بالعفو والتجاوز.
  11. من الإثقال والخلل في التدبير حصر التخطيط أو التنظيم أو التنفيذ أو الإنفاق في شخص أو مجموعة قليلة؛ فالتشاركية طريق لوحدة الشعور، وتحقيق التكاتف، وإشاعة التعاذر.
  12. السر الأكبر في نجاح الأعمال الأسرية يحوم حول الصبر.
  13. التعامل مع الله وابتغاء مالديه كفيل بغسل القلوب وبعث الحيوية في النفوس، فلا تنتظر من احد جزاء أو شكورًا.

وبعد؛ فهذا شيء من أشياء، ويمكن للمستزيد الرجوع إلى مواد أخرى كتبت عن الملتقيات الأسرية، والأسر العريقة، وإلى قنوات في اليوتيوب حفظت لقاءات ثرية في مقهى جسور ومبادرة صلة بعضها مع الأساتذة عبدالرحمن بن عبدالعزيز الماجد، وموسى بن عبدالله اليحيى، وسليمان بن محمد الأحيدب، وغيرهم. كما أن د.الحليبي أشار في الأمسية إلى كتابين أحدهما عنوانه المشروع العائلي لمحمد بن عبدالله الشهاب، والآخر الطهر العائلي لعبدالرحمن بن زيد الزنيدي، وأضيف لهما دراسة شرعية مختصرة بعنوان الأقارب: من هم؟ ما منزلتهم؟ ما حقوقهم؟ تأليف أ.د.زيد بن عبدالكريم الزيد، ومن اجتهد فسوف يجد في تراثنا العلمي المزيد خاصة بكتب التفسير والفقه والآداب والتراجم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 12 من شهرِ جمادى الأولى عام 1443

16 من شهر ديسمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)