إلى المطبخ ولو حبوًا!
كتبت شقيقتي الكبرى على باب مطبخ منزلنا: مطبخ أحمد! ولم تكن هذه التسمية محل إجماع ولذا حاصرتها الخربشات دون أن تمحوها أو تخفيها. والحقيقة أني ما كنت أعرف سبب نسبة المطبخ لي مع أنها مكتوبة قديمًا منذ الطفولة، حتى سألت شقيقتي أم سامي-سلمها الله وحفظها- قبل أيام فقالت: أزعجتني حينما كنت صغيرًا، فما وجدت طريقة أسترضيك بها أو أتخلص من حراكك إلّا بوضع اسمك على الباب! ولأن الجواب بالنسبة لي مفاجئ وغير متوقع لم أسألها: وهل غدوت مطيعًا بعدها أم لا؟
إنّ المطبخ مكان مهم في كلّ منزل ومبنى، وله خصوصية بالغة لدرجة أن دخوله عسير على غير أهله. ومهما صغر حجمه فسيكون فيه غالبًا أجهزة طبخ وغلي وتسخين وتبريد وتجميد وطحن وفرم وعصر-اللهم سلّم سلّم-. وفيه أماكن حفظ وتحضير سريع أو بطيء، وتوصيلات ومداخل ومخارج وحوض غسيل وربما زاوية تنشيف أو جهاز خاص به، وأدوات ضرورية لا مناص من توافرها وإن اختلفت في الأعداد والأثمان والجدة والأحجام، وفي بعضها موضع لمغسلة الملابس، وربما يوجد مكان صغير لتناول الطعام، ومن الضرورة تأمين سلة مهملات، والحرص على نظافة المطبخ باستمرار.
ويمتاز الأشخاص الذين يعملون في المطبخ أو يمكثون فيه مددًا طويلة بالقدرة على التحمّل، والصبر على الوقوف، وطول النفس، وامتلاك مهارة إدارة أكثر من عمل في آن واحد، مع رشاقة الحركة، وسرعة البداهة، ونباهة الحواس إضافة إلى تركيز عالٍ وحساسية مرتفعة في الأنف والأذن والعين لأيّ شيء لافت أو مريب لا بدّ من ملاحظته، وربما جمع بعضهم بين الطبخ وعمل ثقافي يسمعه أو حتى يقرؤه، ولا ريب أن المطبخ مكان لممارسة الرياضة وإن بقدر محدود.
كذلك للمطابخ عند الشعوب عادات مختلفة، فللمطبخ في الثقافة اليابانية مكانة جعلته أصل البيت، وله عند الهنود تقاليد عسيرة وطبقية تقسو على المرأة وعلى الفئات الدنيا وهي مرتبطة بالديانة الهندوسية السائدة هناك. وللمطابخ العالمية تصنيفات يأتي على رأسها -مع خلاف في الترتيب- المطبخ الإيطالي والإسباني والمكسيكي واليوناني والصيني، وأما عربيًا فيتفوق المطبخ المغربي ثمّ اللبناني وآمل ملاحظة أن الحديث ينصرف إلى الطبخ والمطبخ وليس نحو الطباخ!
ولا يقتصر اختلاف المطابخ لدى الحضارات والشعوب والبلاد على المذاق والأصناف وطريقة الإعداد والمكونات حتى اشتهر الهندي بالبهارات الحارة، والآسيوي بقلة الملح وكثافة الأرز، والتركي والفارسي بالشواء واللحوم، والإيطالي بالبيتزا والمكرونة والفطائر، بل يشمل تصميم المطبخ وحجمه ومكانه ومحتوياته وتكراره كما في البيوت الكبيرة التي تتخذ مطبخًا خارجيًا للطبخ الثقيل، ومطابخ داخلية صغيرة أشبه بالمقاهي الحديثة للوجبات الخفيفة والمشروبات اليومية، والشيء بالشيء يذكر فذات يوم وقفت على منزل أسرة فقيرة مطبخها عبارة عن خزان مياه معدني، وغالب أدواتهم علب فارغة وأدوات بالية.
كما يوجد بين المطبخ والعمل الثقافي علاقة أصيلة؛ فكم من مرة أصبح المطبخ مصدر إلهام في الكتابة والرسم والدراما والسينما والرسوم المتحركة وأظنّ أن الروائية “أجاثا كريستي” أشارت لذلك. ومع القهوة والشاي والعصير يتدافع الإبداع وإن لم يكن وجودها شرطًا لوجوده، وإنما هي طقوس ابتلي بها البعض. بينما فازت كتب فن الطبخ بقوائم الكتب الأعلى مبيعًا في معارض عربية وأجنبية للكتاب مما أحرج المثقفين والمؤلفين.
ويرتبط بهذا الأمر نصيحة الكاتب والناقد والمترجم العربي جبرا إبراهيم جبرا لأي ّكاتب بأن يترك عمله بعد نهايته حتى يتفرغ له ذلكم الطباخ الماهر وهو اللاوعي، وإنها لتجربة عملية نافعة. ومن الطرائف الثقافية المطبخية أن رجلًا أكيّلًا قال لمثقف إغريقي كبير: ألا تعتقد يا سيدي بأن افتتاح مطعم كبير في أثينا خير لها ولليونان من فتح مكتبة؟ فأجابه بهدوء قاصف: كلّ كلب في المدينة يؤمن بذلك!
أيضًا من طرائف المطبخ أن الشاه زار ملك العراق فلم يأكل بعض أصناف المائدة العراقية حتى سمع شرحًا كاملًا عنها لأنه خاف على نفسه، وقرأت أن القصر الملكي تكفّل بإصدار كتاب فيما بعد عن الطبخات العراقية! وذهب وزير خارجية أمريكا إلى مصر وعقد اجتماعًا أكل خلاله طعامًا مصريًا أربك معدته، وحينما جاء لجولة تالية اشترط أن يكون الاجتماع بلا طعام كما ذكر عمرو موسى في الجزء الأول من سيرته. وللساسة مع المطبخ مواقف منها تعجب “لينين” من كمية دخان قلي صحن واحد، واستثمار الفرنسي “تاليران” لطباخه في كسب عقول وقلوب بعد الفوز برضا البطون، وإن البطنة لتأفن الفطنة كما قالوا!
وأفسد زعيم إفريقي على السفارة المصرية حفلها إذ اشترط لحضوره وجود الفلافل المصري، فجيء به وتطاير دخان طبخه حتى سيطر على رائحة المكان، ووقف الزعيم يأكل منه حبة إثر أخرى دون أن يدركه الشبع، وانتظر خلفه بقية المدعوين الذين حرمتهم شهوة الرئيس من التهام الطعام العالمي الشهي على الموائد الخالية! ويُروى أن الملك عبدالعزيز أعجبته وجبة الجريش التي أكلها لدى أمير المذنب فهد العبدالكريم العقيلي، فأرسل العقيلي أكياسًا منها لقصر الملك في الرياض، ولم يستطع الطباخون إتقان تحضيرها، فمازح الملك العقيلي حين وفد عليه قائلًا: هل الأكياس التي أرسلتها هي ذاتها التي أكلنا منها عندك؟ فأكد له ذلك ثمّ قال: أرسلنا لكم الأكياس وبقيت لدينا يدا نورة، وإنما السرّ فيمن طبخ.
وعندما استضاف الشيخ سليمان الراجحي -فيما يُروى- أحد المسؤولين على الغداء اخبرهم بعد أن جلسوا على المائدة قائلًا ومتحدثًا بنعمة الله عليه: كلّ ما على المائدة من مزارع الوطنية، فعقّب أحد الحضور الكرماء بقوله: إلّا الخبز فهو من مخابزنا! ولم يفوت الشيخ الموقف فسأل المتحدث: هل تريد أن افتتح مشروع مخابز في المنطقة؟ فاستنجد الرجل بالمسؤول المستضاف لثني الراجحي عن هذه الفكرة التي ستنافسه. وأنبأني صديق عن رجل دعاهم إلى العشاء في البَّر، وصنع لهم القهوة والشاي والعشاء وهو جالس في مكانه دون أن يضطر لكثير قيام أو حركة؛ فكلّ شيء حوله، وتبقى المهارة وخفة اليد والخبرة خير عون لمثل هذا الإجراء النادر.
وبعد هبّة السنابشات اكتشفنا أن الرجل ظُلم عندما قيل بأن أقرب الطرق لقلبه يعبر من معدته، فبعد انتشار الطباخين الرجال وتهافت النساء على متابعتهم تبين أن الرجل ليس هو الوحيد المرتبط بمعدته، وبسبب ذلك أصبحنا لا نجلس على سفرة من طبخ رجل قبل أن يصورها من جميع الجوانب! وبالمناسبة فمع ما يشاع بأن المطبخ مملكة المرأة إلّا أن أشهر الطباخين حول العالم رجال، وفوق ذلك فبعض النساء لا تجيد الطبخ كما روي لي عن مشهورة حمدت الله أن ساق لها زوجًا ماهرًا بالطبخ ويجد فيه متعته، وسمعت طرفًا من لقاء زوجين كان يراد ترميزهما مع بداية اقترانهما، وحين سأل المذيع الزوج: هل تطبخ لك فلانة؟ تلكأ وتردّد فلما رمقته زوجته القوية بعيونها الحادة أفاد بأنهم يعتمدون على المطاعم والتوصيل الخارجي!
بينما أخبرني زميل أنه خطب فتاة أعجبه كلّ شيء من أمرها بيد أنه لم يكمل المشوار لما علم من أمها بأن الفتاة لا تحسن وضع إبريق ماء على موقد! وهي أم حكيمة صادقة حالت دون إفساد حياة الزوجين مبكرًا خلافًا لأخرى عزمت خطيب ابنتها على العشاء، وحين رأى المائدة وجدها عامرة جذابة، فقالت له المرأة: كلّ هذا من صنع يدي فلانة! فقال في نفسه: أفلحتُ إن كانت صادقة ولو بمقدار الثلث، وبعد الزواج اكتشف أن المسكينة لا تعرف شيئًا عن المطبخ ولا حتى إحضار كوب من الحليب أو اللبن، فتفرقا، وأسرّ لي ثالث بأنه ذهل من جمال مائدة بيت صاحبه وبعد تقصٍّ خطب شقيقته، وآخر شيء سمعته بالأمس من شاب عن زميله السمين إذ يعلّل سمنته بمهارة والدته في الطبخ.
كذلك انتشر مقطع لشاب عربي يقلد اللهجات العربية بإتقان ويلقي قصيدة يورد فيها اسم أكلة شهيرة من كلّ بلد، واتصل بي صديق قبل سنوات يسأل عن أحسن مطعم يقدم وجبة حددها بعينها حتى يدعو إليها ضيفًا قادمًا من الخارج وهو متشوق لمذاقها؛ فقلت له: حدثني مَنْ أثق ببطنه أن المطعم الفلاني هو الأفضل! فانفجر ضاحكًا من إسنادي، وهو إسناد صحيح بالمناسبة لأنه أحال على ملئ أثبتت تجربة صاحبي صواب حكمه، وأخيرًا أذكر أن معلمة تدرس مادة التدبير المنزلي في مدارس البنات وهي مادة خاصة بالخياطة والطبخ واسم المعلمة “مائدة” وهو متوافق مع محتوى المادة التي لا أدري عن مصيرها، وقد تصبح من مناهج الطلاب!
من خبر المطابخ أن الحكمة تقتضي لمن شاء التأثير أن يكون في المطبخ طباخًا أو معاونًا أو مقيّمًا، وإذا اضطر للغياب فلتحضر أدواته، فإن غاب وغابت أدواته فيمكن أن يكون للمواد التي ينتجها تأثيرًا، أو للطرق التي ابتكرتها أثرًا، أو لمناهج التقييم التي يستعملها قيمة، وأضعف الإيمان أن يشارك في تقييم الطبيخ وإبداء الرأي حول الطعم والطعمة مع حثّ الآخرين على ذلك، والمهم أن يضع عينيه على المطبخ، ويزاحم فيه بأيّ مستوى يقدر عليه، وإن لم يحدث ذلك فلا يعجبنّ مما يوضع على المائدة؛ فربما جلس عليها مرضى وهي مليئة بدسم أو أبيض ضار، أو قدمت لمسلمين وليس فيها إلّا لحم خنزير ومسكر، أو أساء الطعام لأعراف قوم مثلما سمعت عن وفد من عرب أفريقيا أقيمت لهم مأدبة غداء فاخرة مليئة بأنواع السمك فرفضوا الجلوس عليها!
أشير أخيرًا إلى أن حضارتنا الإسلامية أولت المائدة والطبخ العناية من خلال الأحكام والآداب والفضائل، وهي جديرة بأن تكون حاضرة في تربية الأسر لأنجالها، وفي المجتمع المترابط المتكافل الذي يطعم القادرون فيه الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا قربة لوجه الله الكريم الوهاب. ومما يترافق مع هذا الأمر ضرورة معرفة عوائد الناس في الأكل والطبخ، لأن هذه المعرفة تقي من سوء فهم أو فساد حال، وتبقى حكمة المطبخ وقانون عملية الطبخ السليم في أهمية الإنضاج، وتقليل عدد الطهاة قدر الإمكان، وحسن الاختيار ودقة التوقيت مع جمال التقديم.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 03 من شهرِ محرم عام 1443
12 من شهر أغسطس عام 2021م
2 Comments
مقال جميل ورائع . اتكلم عن المطبخ. كان تسلسلي الخامس بين اخواتي . فلم اتعلم الطبخ . ولم اجربه . الى حين زواجي وابتعادي عن اهلي .بدات اتذكر ما كان تعده امي من اطباق ونجحت فيها . وانا اتنقل في القارت الخمس اهدي اطباقنا العراقية لاصدقائنا ولااطباءنا ولجيراننا ويحبونها . والحمد لله بناتي بدراساتهم العليا و ابني الكبير اختصاصه الحاسوب كلهم ماهرون باعداد الوجبات العراقية لهم ولا ازواجهم ولااولادهم ولضيوفهم .ابني يعمل لي كبة الموصل التي لم انجح في اعدادها . ومن . اساله من علمك . يخبرني بانه كان يراقبي من كان صغيرا بالمطبخ وانا اعملها . فهم يحبون الطبخ ويعتبرونه حفاظ على الحضارة والطبخ فن يورث من جيل الى جيل . ومعه ذكريات جميلة مثل اعداد كعك العيد المتوارث كل عيد
.وعمري عمر تقاعد . ولكن ما زلت اطبخ يوميا . بدون اجازة او استقالة . توفت امي رحمها الله بعمر مبكر ولم تذوق اي طبق اعدتته لااني تغربت كثيرا . وانا اقول رحمك الله ياامي وجعل مثواك ومثوى كل ام تعلم ابنتها الطبخ وادارة المنزل جنات الفردوس . استعير القول مع المحبرة الى المقبرة . وانا اردد مع الطنجرة الى المقبرة .تزوج ابني في استراليا قبل 17 سنة ودعا اساتذة الجامعة اللذين بلغوا 15 في بيته وقمت باعداد الوجبات العراقية ا . وما زالوا يتذكرون الوجبات الشهية الى الان .
المطبخ العراقي جميل للغاية.