مواسم ومجتمع

مشهور ومشهورة

Print Friendly, PDF & Email

مشهور ومشهورة

خرجت من المدرسة في المرحلة المتوسطة، فتوقفت أمامي سيارة يقودها رجل عابس، وسألني: هل تعرف أين فلان؟ فقلت له: سمعت اسمه يُنادى قبل قليل، فارتسمت على محيّاه العكِر ابتسامة واسعة تستغربها تقاطيع وجهه الغاضبة، وسألني بزهو: أهو مشهور لهذه الدرجة؟ وببراءة طفل أجبته أن لا وإنما سمعت اسمه على لسان طالب خلال اللعب المعتاد بعيد نهاية اليوم الدراسي وانصرفت. وسمعت قبل سنوات من إنسان كلامًا خلاصته أنه يرتدي ملابس خادشة للحياء، ويظهر بأشكال غريبة، وغايته الوحيدة لفت النظر، والتميز، وتحصيل الشهرة.

إن تطلّب الشرف والشهرة شهوة ظاهرة وخفيّة، وسمة تكاد أن تكون عامة في بني البشر، والاستثناء هو النادر، وبعد أن شاركت منصات التواصل الاجتماعي الناس في حياتهم برزت ظاهرة “المشهور” و “المشهورة”، وهي ظاهرة عالمية يتصدرها فئات من حقول متباينة هي الدين والسياسة والعلم والأدب من جهة، أوالرياضة والموسيقى والدراما والغناء من جهة أخرى، وبرزت فئة ثالثة استفادت من اليوميّات والحظ وإرادة الله قبل ذلك كله فصارت من عداد المشاهير.

ولم يسلم هؤلاء المشاهير من نقد الناس وسوء ظنّهم وكثرة الاحتجاج عليهم، وفي ذات الوقت شُغف هؤلاء الناقدين بمتابعة أولئك المشاهير والتأثر بهم سواء شعروا أو لم يشعروا، وصار المشهورون مثل تطبيق “الواتساب” مذموم في تعابير الناس ونقاشهم، بيد أن الغالبية يستعملونه ولا يستغنون عنه، والبعض يكاد أن يكون هذا التطبيق مكانه الثالث وربما الأول، ويقضي معه جلّ ساعات النهار والليل، وينظر فيه أكثر مما ينظر في وجوه والديه وجلاّسه!

فأصبحت الفئة الثالثة أكثر فئة من المشاهير تعرضت للهجوم والنقد الجارح أحيانًا، ولربما أن مآخذ الناس عليهم تكون صحيحة أحيانًا، ولا مانع أن يكون دافعها في أحيان أخرى مزيج من الحسد، والغيرة، والتنافس البعيد عن النبل، ولذا شرع بعض المتابعين والحساد بتتبع عثراتهم، وطرح السؤال المشروع عن موقعهم من الحكمة والحمق، وأعلن آخرون ممن سحب المشاهير الجدد بساط النجومية من تحت أقدامهم خوفهم من المشهورين، وتوجسهم من أثرهم على الأجيال ونمط الاستهلاك وسكينة المجتمع وغيرها من المعاني السامية، وتناسوا أنهم في زمن مضى كانوا أداة يُخشى منها على المجتمع والأجيال مثل شعورهم اليوم تجاه المشاهير، وكم من حقٍّ أريد به عين الباطل!

وبعيدًا عن هذا السجال كلّه، أسأل الله لكلّ مشهور ومشهورة التوفيق في عمله، والبركة في رزقه ويومه ومشاريعه، والتجربة المحكيّة أو المكتوبة تؤكد بأن عليهم من الضغوط في الأداء اليومي، والتفاعل المتكرر، والحذر من أيّ عثرة أو زلة، ما يجعل حياتهم مرهقة، وهو ما اعترف به بعضهم حتى لو لم يستطع الفكاك من الشهرة لأكثر من سبب، والله يجعل العاقبة حميدة لنا ولهم في الدنيا والآخرة، ويكتب للجميع التوفيق والعون في تحقيق المصالح، ودفع الضرر، والمشاركة المجتمعية الإيجابية، وابتغاء المرابح في المتاجرة مع الله فهي أعظم من المال والجاه ومن أيّ شيء آخر.

لأجل ذلك يمكن لأيّ مشهور أن يدرج ضمن أعماله ما يكون له زادًا عند مولاه يوم يلقاه، ويفيد مجتمعه وأناسه وبلاده، ويتوافق مع فطرته ونداء الخير فيها، كأن يثني على تجربة نافعة، أو يدلّ على نشاط فيه خير، أو يكرر آية كريمة أو حديثًا شريفًا، أو يعرّف بحدث أو عَلَم أو مناسبة متكررة، أو يشارك برفع الوعي، أو يصلح ما أخطأ به عامدًا أو مكرهًا، أو يعلي شأن الهوية ويعزز معالم حفظ الذوق والسمت في المجال العام، أو يستخدم مفردات ترتقي باللسان والسلوك وطرائق التفكير، وله أن يستعمل صريح العبارة أو لطيف الإشارة، ويمكن بالحكاية والتلميح وطريقة الأداء أن تصل رسالة وأكثر، وكم من مرة ومرة سمعنا أو قرأنا عن أعمال يسيرة صالحة رجحت بموازين أصحابها، ومن صلحت نيته فلن يخيب مسعاه.

وهذه الأعمال ليست عسيرة أو نخبوية، وغير مقصورة على فئة وإن توهمنا ذلك، ولا يشترط أن يكون المشارك فيها على صواب دومًا، ولا يلزم لأدائها التكلّف أو التصنع، وإنما تأتي في سياق اليوميّات والأحاديث العابرة، كأن يصلي الموفق والموفقة على النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام ليلة الجمعة ويومها، أو يحضّ على برّ الوالدين، أو يشيع ثقافة العفو والتصالح، أو يثني على من و ما يستحق الثناء، أو يكرس مفاهيم الجدية والإتقان، وكم سيأتي للمشهور والمشهورة من خير عميم في دنياه وآخرته؛ لكثرة متابعيهم، وطبيعتهم سريعة التأثر، خاصة الذين يمضون الساعات في ملاحقة فلان المشهور وفلانة المشهورة، ولا يقضون الدقائق مع ذويهم وآلهم!

ثمّ لا يدركنك الحزن مما تسمعه من همز أو لمز، فالناس بجملتهم لا يعجبهم شيء، ولا يكاد أن يتفقوا على حسن شيء أو قبحه، والشهرة كانت ولا زالت وستبقى سببًا للعداء والبغضاء والمكائد والاستنقاص، فلماذا غار الشعراء وفيهم أكابر كأبي فراس من المتنبي؟ ولماذا حسد العلماء وفيهم فطاحل ابن تيمية حتى حرضوا عليه وألّبوا؟ وفي كلّ مجال وبيئة ومكان سنجد ذات الطبيعة البشرية، ومن الطريف أني قرأت عن ملكة أوروبية شدّة غيرتها من أميرة جميلة لافتة صرفت الأنظار إليها، كما قرأت عن رئيسة وزراء تصبّ غضبها الحار على زوجة ابنها، وسمعت تحليلًا عن زعيم أقال وزيره الأثير البارز لأن نجمه سطع وأخباره تواترت في الصحف العالمية وزادت عن عدد أخبار الزعيم، والأمثلة كثيرة.

اللهم بارك للمشهور والمشهورة في العمل والرزق والمسار الرشيد، وألهمهم الصواب المنجي في الدنيا والآخرة، واجعلهم مفاتيح خير مغاليق شر، ومن المؤثرين الفالحين، المدافعين عن الحق، الناشرين للفضائل، المقاومين للرذائل، ونعوذهم بالله من همزات الشياطين، وكيد المرجفين، والله يكتب شهرتهم في صحائف حسناتهم وأعمالهم المباركة، ولا يجعلها طيبات معجلة لهم، وإنما طريقًا لاكتساب حلال، وسبيلًا آمنًا لأجور أخروية من خالق الخلق وربهم ومولاهم القدير سبحانه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 12 من شهرِ صفر عام 1442

29 من شهر سبتمبر عام 2020م 

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)