لغة وأدب مواسم ومجتمع

ملاذ بين الأسماء!

Print Friendly, PDF & Email

ملاذ بين الأسماء!

قرأت في سيرة العالم والوزير أ.د.علي النملة أنه درس عند بلديه الشيخ راشد الحديثي؛ فشرع الشيخ مرة يحضّر الطلاب مناديًا عليهم، وكانوا على التوالي من أسر كريمة هي: الحصان، والنمر، والصقر، والباز، والقعود، وأخيرًا النملة صاحب السيرة وراوي الواقعة. وإذا وصل الشيخ لاسم النملة أخذ يرمقه بعينه وكأنه يقول: ما الذي جاء بك بينهم؟ ومن لطائف البروفيسور النملة أنه دائمًا يقول عن نفسهمتواضعًاأنا مثل النملة أدبُّ دبيبًا.

أعادتني هذه القراءة إلى ما سجلته عن الأسماء عقب التعليقات التي وردتني من أصحابها أو رواتها بعد كتابة أكثر من مقال فيما مضى. فمما أخبرني به رجل مكي حاتمي أن دهانًا من مصر عمل في مسجدهم، وكان رفاقه ينادونه أدري، وبعد مدة عرفوا أن اسمه قدري، وأنه ولد ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، فأطلقت عليه والدته هذا الاسم رجاء أن تكون ليلة الطلّق الأليم تلك هي ليلة القدر المباركة التي يستجاب فيها الابتهال والدعاء.

ومما أحفظه من هذا الباب عن صاحب الشأن وهو رجل تجاوز الأربعين اسمه عازب وقد أزعجته التسمية؛ إذ يسأله الناس مستظرفين: ألم تتزوج بعد! فذهب إلى إدارة الأحوال المدنيةوهي إدارة متطورة جدًا ومنظمةوغيّر اسمه، ولربما أن لزوجه أثرًا ضاغطًا في التغيير كي لا تطرأ فكرة الزواج عليه! وحسنًا فعل؛ لأن اسمعازبوصف قد يصدق على الأعزب الذي لم يتزوج وقد لا يصح الوصف به، لكن ربما يكون لهذا الاسم معنى ينفي التعقل والحكمة عن الإنسان، وحاشاه.

ويقول هذا الرجل عند سرد تجربته: إنه وجد شيخًا كبيرًا يغيّر اسمه من شارع إلى اسم آخر، وقال الشيخ الكبير: ليس بيني وبين الموت مدة طويلة، ولكن بعض من لا خلاق لهنّ من النساء يقلن لبناتي: أنتنّ بنات شارع! وهاتان الواقعتان جديرتان بحثّ الآباء والأمهات على حسن التسمية والنظر للمآلات؛ ذلك أن البّر بالراحلين غير مقتصر على التسمية عليهم، خاصة إن كانت الأسماء لا تناسب العصر أو البيئة.

كذلك من لطيف ما صادفه صاحبنا أنه وجد شابًا سيغير اسمه إلى عبدالمحسن، واسم الشاب جميل ولا بأس به، ولكن هذا الاسم يحمله أيضًا أبوه الذي لا يزال حيًا، حتى أدرك الحرج الشاب من هذا التكرار، ومن سؤال الناس له عن قصة وفاة أبيه وتيتمه، وهو مالم يكن، وأظن أن التسمية بهذه الطريقة أصبحت الآن ممنوعة أو عسيرة، حتى لا يقع خلط فيها، ومن الخلط الذي علمته أن رجلًا منجبًا أسمى ابنه الأول علي، وبعد أن كبر هذا الابن وتزوج وأنجب توفي، فحزن عليه أبوه الشيخ، وعندما رزق بطفل أسماه عليًا على أخيه الراحل، وفيما بعد أدركت الحيرة من لا يعرف هذا الخبر؛ إذ كيف يكون لعلي الشاب أبناء وبنات أكبر منه عمرًا!

وأذكر مرة أني سمعت أسماء بنات توافق أسماء بعض الألوان مثل البيضاء وخضراء، و صفراء، ومع أن المعنى المراد منها جميل إلّا أن بعض الناس قد لا يستوعب ذلك، ولا يتسع لها أفقه فيستملح بما قد يُستهجن. وعلمت عن طفلة أسمتها والدتها رِفاء، فلما كبرت البنت وصارت تعي وتفهم، لم يرق لها اختلاف الناس في طريقة نطق الاسم وفيتدليعها؛ حتى تاهت الصغيرة بين أفهام الناس المتباينة، وربما أن أجدى حلٍّ لها يكمن في تقوية مناعتها الذاتية والنفسية ضد خطأ الآخرين وتعجرفهم!

كما أن للتاريخ تأثيرًا في الأسماء والتسمية، من ذلك أن أحد المولعين بأدب العصر الأندلسي أسمى بنته ولّادة مع شدة المعارضة لهذا الاختيار، ولكنه مفتون بقصة الأميرة الشاعرة الأديبة ابنة الخليفة المستكفي مع الشاعر ابن زيدون، وعلى من لا يعرفها أن يبحث عنها ويستمتع بها، والمراد بالبحث طبعًا القصيدة التي عارضها شعراء آخرون، وبعض أبياتها مستخدم في الأناشيد والأغاني.

وأخبرني صديق نقلًا عمن يعرف أنه رزق بمولود، فاقترحت خالة الوليد الشابة تسميته عبدالحليم؛ ففرح الأب تيمنًا باسم والد شيخ الإسلام ابن تيمية، بينما كانت الخالة تريد المطرب عبدالحليم حافظ! وزار أستاذ مثقف زميلًا له ومعه ولده الذي يحمل اسم محسّد تشبهًا باسم ولد شاعر العربية الكبير المتنبي على غرابة الاسم، بينما اختار أستاذ لغة كبير ومفيد اسم الطيب لنجله الأكبر ليكون هو شبيهًا لأبي الطيب بكنيته الطيبة، وأطلق شاعر على ولده البكر اسم يزن فلما اعترض بعض من لا ذوق له؛ أجابهم بقصيدة مفحمة.

أما أعجب ما وقع لي؛ فهو ما علّقت به قارئة وفيّة على أحد مقالات الأسماء حين كتبت ما مختصره: لي عدة أخوال تجاوزوا السبعين، ولكل واحد منهم ابنة سماها على امرأة أحبها في شبابه فلم يتزوجها، وربما خطبها إلى أهلها ولم يكتب لهما الزواج، وليس هذا العجيب؛ إنما مكمن العجب أن زوجات الأخوال يعلمن بباعث التسمية دون معارضة، فما أكملهن إذ لم تقل منهن قائلة في سياق لوم الزوج وتقريعه: إنما الحب للحبيب الأول! ومما أتذكره أن صحفيًا عربيًا كتب في سيرته أن زوجته أصرت على تسمية ابنتهما الوحيدة ندى بينما هو يقترح نادية متعللًا بأنه آنق وأخف، وطبعا كانت الغلبة في النهاية لندى، وليس هذا وكفى؛ إذ ظلّت الزوجة تلاحق زوجها وتطارده سائلة ملحفة: من هي نادية؟!

ومن رائق ما نمي إليه فور نشر المقال السابق، أن رجلًا فاضلًا موفقًا رزق من إحدى زوجاته بصبية أسماها ملاذ، وملاذ هو اسم لمجموعة واتساب مغلقة ومحصورة على عصبة من الرجال أولي العزم والقوة والبصيرة والتنوع مع الوحدة الموضوعية المصانة بسلطان الرئيس المهيب! وحينما أعلن الخبر في مجموعتهم المسيّجة قال له زميله الشاعر المرهف: لقد سبقتني! ومن الطريف أن لأحد الفضلاء زوجتين هما: لطيفة و طرفة، وإذا وردت ملحة في لقاءات أنس له مع رفاقه يعلّق بعضهم بقوله: إنها طرفة لطيفة!

وبمناسبة ذكر طرفة، فقد راسلني صاحب متعجبًا إن امرأة بدلّت اسمها من رقية إلى ريما، وحين رزقت بطفلة جعلت اسمها طرفة، والتعجب من الصاحب وليس مني، ومثله ما سمعته عن امرأة اسمها هيفاء وابنتها اسمها مزنة، وقد يكون لذلك ارتباط باسم جدة أو راحلة عزيزة. ومن هذا الباب أن رجلًا كان يحمل بين يديه رزمة أموال تصل إلى خمسين ألف ريال، وهو في البر مع صحبه، فسألهم: من يخمن اسم أمي وله هذه الرزمة، علمًا أن اسمها يوافق شيئًا يرونه جميعهم في مجلسهم البري؟! فطفقوا يقولون: سماء، قمراء، تلة، رملة، سحاب، صحراء، نور، بدرية، دون جدوى، ثمّ أخبرهم أن اسمها حفرة، والسبب أن الطلق الموجع طرق جدته المسكينة في الصحراء؛ فولدتها في حفرة، وضاقت عن الطفلة المسكينة كذلك الأسماء إلّا حفرة!

أيضًا من اللطائف التي ترافق صديقًا عزيزًا كريمًا مفيدًا اسمه حذيفة، أنه منذ صغره يقف بجوار غرفة انتظار النساء عند زيارته لطبيب الأسنان، لأن الممرضات غالبًا يهتفن بالاسم هناك بسببتاء التأنيث“! ومرةً عند مراجعته لإحدى الدوائر الحكومية، حدّق به الموظف متسائلًا حين تسلّم منه أوراق معاملة ما: “أنت وكيلها؟! وإذا استوقفه رجل المرور ورأى أوراق السيارة يسأله: “السيارة باسم أمك؟! وذاتَ ليلة تفاوض مع بائع حجازي سمح النفس فقال له: “عشان اسمك التاريخي هادا راح أخصِم لك“! ومع أنها نوادر تجلب البسمة، إلّا أنها تسبب الكدر والحزن أن يجهل البعض صحابيًا جليلًا هو حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي ﷺ، وله سيرة عطرة، هذا غير أن الاسم فريد، وحروفه خفيفة على اللسان، وإيقاعه نغمي على الآذان.

إن هذه المقالات التي ترتكز على الطرفة أو الغرابة أو الذكريات تمثّل ملاذًا آمنًا لي كي أكتب، خاصة إذا لم يكن لي رغبة في كتابة جادة، أو لم توجد عندي طاقة للبحث، أو تلبّدت الغيوم وحجبت المزاج، ومع ذلك فلها فائدة إذ تبقي على صلتي بهذا العالم الجميل من التدوين والكتابة، وتسّري عني وعن القراء، ومن المؤكد أنها تحمل في طيّاتها أو بعضها على الأقل من المعاني الشريفة، والإشارات الحسنة ما أرجو نفعها وبركتها وأجرها لي ولمن شارك بقصة أو نشر أو دعاء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

ليلة الأربعاء 17 من شهرِ ذي الحجة عام 1444

05 من شهر يوليو عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. في كل مرة أقرأ مقالة الاسماء؛ أتوقف بتأمل شديد، كيف لأسمائنا أن تخبرنا بكل شي !
    اسمائنا هي الوحيدة التي تبقى معنا للأبد!
    وسط الزحام و كل هذه المعاناة ودروب السفر الطويلة لن يحكي قصتك سوى اسمك!
    استمتعنا بهذا السرد البديع منك وغرائب مواقف التسميات، وحقا ينبغي أن نحسن اختيار الاسماء، لكل منّا نصيبه من اسمه،
    ما شدني أكثر قصة المفتون باسم ” ولاّدة”، من منّا يا كاتبنا العزيز لم يُفتن بقصة”ولّادة“ و زيدونها،
    هذه المقالة عقد جديد لأخواتها السابقات، امتعتنا متعك الله بكل ما يبهج قلبك..
    دمت لنا.. ودام بهاء قلمك..

  2. في الأمس حدث موقف عابر تذكرت هذه المقالة بشكل لطيف؛ كانت ابنتي تلعب مع رفيقه تعرفت عليها في مكان مخصص للعب الأطفال، احضرت رفيقتها لي.. ألقيت عليها التحية ثم سألتها بلطف :
    -ما اسمك!
    -اسمي ميسلون!
    -كررت الاسم بتعجب و لأجلها شهقت بالإعجاب “واو ” حتى لا أضايقها بجهلي التام عن الإسم..
    بسرعة بديهة قالت الطفلة ذات العشرة أعوام وبفصاحة..
    أول مرة أحد ينطق اسمي صح ولا يتعبني بتلقينه !?
    -ابتسمت لها و كل الاستغراب يحيطني؛ طيب حبيبتي تعرفين معنى اسمك الجميل!؟
    ردت تلك الطفلة بثقه وبفصاحة” نعم ميسلون يعني المعركة،!
    تقافزت اسئلة كثيرة في ذهني! وربما في ذهن القارئ او من شاهد الموقف! ما علاقة الطفلة لتعيش طِوال حياتها تردد أن معنى اسمها ذكرى لمعركة!
    حالما ذهبت مع ابنتي تكمل اللعب، بحثت عن الحكاية والمعركة فوجدتها!
    حزنت.. لا أعلم لمَ.. لكن مؤسف أن تظل تلك الجميلة البرئية تردد أن معنى اسمها عنيف، لا اعترض على اختيار ذويها هذا شأنهم،لكن اعترض على تلقينها المعنى رغم أن الإسم يحمل عدة معان ألطف مما ذكرته لي تلك الصبية الفاتنة!
    ودمت بود..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)