سير وأعلام عرض كتاب

فهاد الحمد: تلك الأيّام وهذه خلاصتها!

فهاد الحمد: تلك الأيّام وهذه خلاصتها!

لو رأيتَ طفلًا يدرس مفترشًا الأرض في بقعة طرفية ذات جمال غير مجلوب، ولا يمتلك بعض المستلزمات المدرسية؛ فهل سيخطر على بالك أنه سيصبح وزيرًا؟ وإذا سمعت عن طالب في معهد متوسط لتسريع الحصول على وظيفة؛ فهل تتوقع أنه سيواصل تعليمه ويحصل على شهادة الدكتوراه؟ وإن رسمت المسار الوظيفي لمعلم التربية الفنية فهل سيكون منه أن يتبوأ منصب مساعد رئيس مجلس الشورى؟ وهل ستكون أمنية موظف الحسابات في إدارة حكومية ليست كبيرة أن يغدو عضو هيئة تدريس وتدريب في أهم معهد إداري بالمنطقة؟

لا نكير عليك أيًا كان جوابك، ودونك هذه المائدة التي ترتقي بمن ينهل منها، وهي عبارة عن كتاب واحد عنوانه: خلاصة الأيام، تأليف: د.فهاد بن معتاد الحمد، صدرت طبعته الأولى عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي عام (1442=2021م)، ويقع في (213) صفحة مكونة من إهداء وشكر وتقدير ثمّ عشرة فصول أولها مقدمة وآخرها خاتمة، بيد أن عناوينها مختلفة عن المعهود. ويحتوي الكتاب على صور ووثائق مرتبطة بمضمونه وعددها يقترب من الستين، وتتوسط غلافه الأمامي الأبيض لوحة حديثة للمؤلف وهو يبتسم.

أهدى د.فهاد كتابه لوالده ووالدته عائشة الربيع ولزوجته نورة العديلي شفاها الله. وأجزل الشكر لأصدقاء من أهل الجوف ممن أيدوه في مسيرته وهم د.عبدالواحد الحميد، ود.حمد المانع، واللواء معاشي العطية، وأ.حمود المبارك، وهؤلاء الأربعة الكرام وردت أسماؤهم في خلاصة الأيام مرة أو أكثر، سواء بالزمالة الدراسية، أو الصداقة، أو علاقات التعاون الوثيقة، وإن معنى الصداقة لمن لذائذ الحياة الدنيا التي تزداد ندرة مع الأيام.

ابتدأ المؤلف سيرته بحكايات تسبق المسيرة صرح فيها أنه لم يتوقع أن تكون حياته موضوعًا لكتاب ينشر، ولولا أن اللواء معاشي أصر عليه في مكالمة طويلة بأن يعرض تجربته بسبب ما فيها من دروس، ثمّ كرر د.إبراهيم التركي الطلب ذاته اعتمادًا على ما يمتلكه المؤلف من أسلوب تعبيري خاص لما سطر منها كلمة. ثمّ تلا ذلك تحقيقات ومقالات منشورة في مجلات ومواقع وصحف، فتظافرت جميعها لحثّه على كتابة الذات وسرد السيرة بعد أن نالت تلك المنشورات قدرًا عاليًا من القبول والتفاعل، وهذا نوع من جسّ النبض يحسن صنعه قبل بعض الأعمال.

وبينما كان المؤلف بين السماء والأرض في رحلة بين نيويورك والرياض عام (1437)، حدّد أبرز معالم سيرته التي سيكتبها، ولكنه ما لبث أن وضع القلم بمجرد وصوله إلى الأرض، خشية النسيان، ولأن حكايته مثل حكاية جيل كامل وليست خاصة به. وبعد شهور من هذه الفترة والانقطاع التقى بصديقه د.المانع، ولم ينفضّ اللقاء دون وعد جازم من د.المعتاد بكتابة سيرته، وهو ما أخطر به أسرته حينما قفل لمنزله تلكم الليلة، فأعانوه وزاد في عونه مقتضيات التباعد الاجتماعي والحجر المنزلي الناجمة عن وباء كورونا، حتى أنجز ما وعد به.

ثمّ شرع الكاتب في الحديث عن جذوره الأسرية، ووقف مع اجتهاد والده من أجل عائلته حتى لو أرهق جسده وأجلّ رغباته، وكم يشقى الأب لو فقِه بعض الأبناء والبنات. وحكى عن طفولته التي امتزجت فيها الدراسة مع العمل بالسقي والزراعة والبيع، حتى أن حقيبته تنتقل معه بين المدرسة والمزرعة؛ فهي حياة ليست محاطة بالشظف ونقص بعض الأساسيات فقط، وإنما فيها الكدّ والنَّصب، بهدف تأمين أهم الضروريات، والاستغناء عن خلق الله قاطبة.

وفي هذا الفصل لحن حزين عن قصة غرق شقيقه الصغير عيد (الأول)، وما تبع هذه المأساة من اقتراح سامج من قبل إنسان أخرجه الغضب عن الحكمة والتروي طالبًا من معتاد إغراق فهاد لأنه لم يستطع إنقاذ أخيه وهما يلعبان حول البئر! إضافة إلى ما تبع هذه الحادثة من تغييرات في طرق العمل، وتدريب فهاد على السباحة منعًا لتكرار البلوى. واختتم الكاتب حديثه عن والديه بقصة رحيلهما عن الحياة، ودفن كلّ واحد منهما في المقبرة التي يوجد فيها آباؤه وأهله، وساق بعض المراثي النثرية والشعرية التي قيلت عقب وفاتهما.

وثنى باسترجاع ذكريات المكان وزمن الطفولة، ووصف بلدته الوادعة سكاكا في جميع شؤونها ومناسباتها، وروى أخبار الكتاتيب والمدارس، وحياة الأطفال إن في لعبهم المشترك، أو بواسطة الحيوانات والأشجار، أو مع عجوز فقدت عقلها. وأبان عن طريقة العيش في المواسم السنوية مثل رمضان والعيد. كما نقل انبهاره بالتطور الكبير في عرعر المدينة المجاورة لهم ذات الشارع الفسيح، والأنوار الساطعة، وسيارات الأجرة، ومستشفى التابلاين المتطور.

أما ثالث الفصول فحول التعليم ابتداءً من الكتّاب وانتهاء بالمعهد، ويظهر فيه الكفاح الحقيقي من أجل العلم، والفرح الكبير بالحقيبة والدفتر والمدرسة ولو كانت بدون مقاعد! ومن خبر الدراسة رسوبه في الصف الثاني الذي غيّر مسيرته الدراسية حتى صار من المتفوقين، وإنما يكون الفشل مدرجة للنجاح عند ذوي الهمة والإرادة. ولم يكتف الطالب فهاد بالدراسة وإنما التحق بالأنشطة اللاصفية لحفظ القرآن، وإلقاء الكلمات، والمشاركة الكشفية والرياضية والمسرحية، فوهبته هذه البرامج القدرة على الحديث أمام الجموع، ومهارات التفكير والإقناع.

وبعد نهاية المرحلة المتوسطة سافر إلى الرياض للدراسة في معهد التربية الفنية بهدف استعجال الحصول على وظيفة خاصةً بعد فوات فرصة الالتحاق بمعهد المعلمين عقب الابتدائية مباشرة لأنه أغلق في السنة التي أنهى فيها دراسته الابتدائية، والخيرة خفية. وقد بهرته الرياض بعمائرها وشوارعها وأنوارها وبالتلفزيون الذي لم يكن ملونًا. ومن طريف ما وقع له فيها اكتشافه أن وجبة “المشكّل” في المطاعم نسخة من إيدام والدته الذي يتفوق بوجود الخبز المنزلي. ومن لطائف مقامه في المعهد اختلاف أذواق الطلاب القادمين من مناطق متباعدة، فجزء منهم يرفض العدس، بينما لا يأكل بعض القادمين من الشمال الملوخية أو الأسماك.

كما خصّص المؤلف فصلًا لسرد بدايات حياته العملية معلّمًا للتربية الفنية، وهي حياة نجد فيها الانضباط في العمل، والتعاون مع الرئيس والمرؤوس، والحرص على التجديد والجمال. ومع ذلك يبدو جليًا انعدام رضاه التام عن عمله، وانتفاء قناعته بالنصائح التي وجهت إليه مستخدمة بعض الأمثال الدارجة، حتى آلت به حال القلق الإيجابي هذه إلى إكمال الدراسة الثانوية منزليًا، وأداء الامتحانات مع طلابه في المتوسطة، ثمّ الانتساب لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة ونيل شهادة البكالوريوس في الإدارة. وخلال نضاله الدراسي الكبير أجهد نفسه، وفوّت متعًا كثيرة، وصرف أموالًا بالسفر والإقامة وفقد مثلها بالإجازة دون راتب، وأصبحت جدة ثالث مدينة تبهره حتى سكنت قلبه واستولت عليه.

ولأنه مارس العمل الإداري بعد التعليم، بدأ يتعرف إلى معهد الإدارة والتعليم العالي، على أمل الانتقال إلى أحدهما وإكمال بعثته، وبعد فرص وممانعات وعوائق، وفقه الله للانضمام إلى طاقم معهد الإدارة في شهر شعبان عام (1400)، وبعدها بشهرين تزوج. وروى الكاتب قصة عمله في المعهد وابتعاثه للحصول على الماجستير والدكتوراه، وما فيهما من مصاعب وعقبات أعانه الله على تخطيّها حتى رجع للمعهد أستاذًا ومديرًا لبعض إدارته، إلى أن صدر قرار مجلس الوزراء بتعيينه نائبًا للمدير، وهو القرار الذي لم يعلم عنه إلّا عقب ساعة من إذاعته.

من جميل ما يرتبط بهذا القرار ما رواه للمؤلف أ.محمد الفايز وزير الخدمة المدنية بأنه أخبر الأمير سلطان أن النائب الآخر لمدير المعهد من الجوف كذلك، وهدف الوزير الفايز نفي التهمة بالتحيّز، فأجابه الأمير سلطان بأن الأهليّة هي المعتبرة وليس الانتماء الأسري أو المكاني. ومن موافقات هذا الفصل ارتباط تخرجه مع شهر أغسطس وهو موسم نضج التمور والأعناب، وكلمة “صباح الخير” التي تغدو عتابًا على هيئة تحيّة، وكيفية توقف أبو راكان بشجاعة عن التدخين وصموده دون نكوص.

أيضًا عقد المؤلف فصلًا للعقد الذي أمضاه في مجلس الشورى عضوًا، ورئيسًا لإحدى لجانه خلافًا للعرف السائد مع الأعضاء الجدد، ثمّ مساعدًا من مهامه شؤون التقنية والإعلام، وكان منفتحًا صوب الإعلام ويدعو لكسر الجمود بين المجلس ووسائل الإعلام وتجديد البيان الأسبوعي، وفتح الباب للقاء أسبوعي مع الإعلاميين. ومن ضمن هذا الفصل نصوص ست مداخلات له من مداخلاته القليلة، وتوصيات بعضها أُخذ بها لاحقًا.

ومن لطيف ما ذكره أن القاعة ضجت بالتصفيق عندما اعتلى منصة المجلس لرئاسة إحدى جلساته على إثر اضطرار الرئيس للانصراف والنائب غير موجود، ويبدو أن الرجل وجد قبولًا من رؤساء المجلس وأعضائه في سمته الإداري، ومداخلاته المركزة، وهدوء طباعه؛ ولذا ظهر تقديرهم له بكلمات منطوقة ومكتوبة من الرئيسين الشيخ د.صالح بن حميد، والشيخ د.عبدالله آل الشيخ، إضافة إلى رسائل مؤازرة وتهنئة من زملائه، ومن أقصرها وأكثرها تعبيرًا ما خطته يد عضو المجلس الكاتب الأستاذ نجيب الزامل.

وتحدث بعد ذلك عن تفاصيل اختياره وزيرًا للاتصالات وتقنية المعلومات، وما هو الظنّ الذي طرأ على باله حينما دعي لمقابلة رئيس الديوان الملكي، ومع أن عضويته في مجلس الوزراء قصيرة إلّا أن إنجازاته كانت متلاحقة وجوهرية على صعيد الأنظمة والهيكلة والمكان والشركاء والخدمات. وأشار لتفاعل الصحافة مع تسميته وزيرًا واصفين إياه بأنه رجل الإدارة الحكيمة وفيلسوفها، ووزير من شمال البلاد، والرجل العصامي رهيف الإحساس صادق الكلمة. وبعض هذه الكلمات الجامعة صدرت عن كتّاب وصحفيين عرفوه عن قرب إبان عمله في الشورى. وعلى أيّ حال فقد كانت الوزارة تتويجًا لمشواره الصارم، ودليلًا على أحقية أيّ مؤهل بالمنصب ولو عاش في أطراف قصيّة من البلاد، وعانى من قسوة الحياة وضغوطها.

أما ما قبل الختام فجملة من الخلاصات تزينت بها الخلاصة، وهي نتاج لقاءات إعلامية معه، بعد فرزها وتصنيفها إلى أربعة أقسام هي: مجلس الشورى، والإدارة الحكومية، وإدارة الموارد البشرية، وموضوعات متفرقة. وبعضها يمكن جعله في تغريدة أو نص مقتبس. واللافت فيها أمور منها: الصراحة التي تنفي عن د.فهاد التوجس أثناء الحديث للإعلام، واطراد المنهج والتفكير دون تناقضات، والوضوح المبني على علم أو تجربة، والالتصاق بحضارة بلاده وأمته، وآخرها أن بعض مقترحاته التي كانت جريئة حينما أدلى بها صارت هي النمط المعمول به الآن خاصة في الإدارة الحكومية، ومكافحة الفساد، والمساءلة.

وفي صفحتين ونصف الصفحة، ختم معالي الوزير د.فهاد بن معتاد الحمد سيرته بعنوان ذي دلالة هو مسارات تكمل المسيرة، وهذه المسارات انتقلت منه لأنجاله وأحفاده وأسباطه، وبالتالي فهي ممتدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وفيها أخبر أنه غير كَلِف بالتجارة، وعندما أصبح موظفًا في المرتبة الخامسة عام (1391) لم يتصور أن يغلق حياته الوظيفة على مرتبة وزير عام (1436)، وتلك لعمركم هي العصامية الحقة والمرتبة المستحقة. ثمّ تمنى أن تكمل ذريته المسيرة وهم: د.أروى الحاصلة على الدكتوراه في أمراض الفم، وأ.راكان الذي يحمل درجة الماجستير في القانون، ود.بلقيس المتخصصة في علوم السرطان، وأ.دحام الذي درس المالية ونال شهادة الماجستير فيها، وم.باسل المتخصص بالهندسة الكيمائية.

إن هذا الكتاب يأتي كما قال مؤلفه في آخر فقرة منه ليوثق آثار المرء، فلربما وجد فيه البعض تسلية وقدوة، وقد يرى فيه آخرون التعزية والسلوان عن أيّ مفقود، وسيسعد د.فهاد حين يقتبس فريق ثالث من أفكاره بما ينفع ويفيد. وبعد ذلك فغاية المُنى أن يطلّ الأبناء والأحفاد على طرف من سيرة أبيهم وجدهم، ويظلون مرتبطين بهذه الشجرة فيتذكرون الأجداد بفخر، ويدعون لهم بصدق، ويبنون على آثارهم باحترافية وحسن اقتفاء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 30 من شهرِ رمضان عام 1442

12 من شهر مايو عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)