ليلة الوزير الطريقي!
سبحان الذي يحيي ذكر إنسان حتى يكون على لسان وأكثر، ويخمل شأن آخر ولو تحركت لأجله مكائن وأدوات، وما ذاك إلّا لعلم رباني لا يكاد أن يحيط به أحد على سبيل الجزم. وتبقى الظنون متاحة لمن شاء الخوض فيها شريطة أن يكون لديه شيء من خبر، وقدر من معرفة، وقدرة على تحليل، ومع ذلك كله فلا مجال للقطع النهائي، فالجمل التأكيدية والتعميمية دون نصٍّ سماوي، أو برهان علمي، أو شهادة عدول، أو تجربة مكتملة، نوع من المغامرة والجنوح القصيّ عن جادة الصواب.
وفيما مضى كنت في سمر ليلي مع كرام أعزة، فقادنا الحديث إلى سيرة معالي الشيخ عبدالله الحمود الطريقي (1337-1418=1919-1997م) أول وزير سعودي للنفط، وصاحب فكرة منظمة أوبك والساعي لإيجادها بمعونة آخرين. وأحالوا الأمر إليّ إذ سبق الكتابة عنه فيما مضى ضمن مقال منفرد، أو في سياق مقالات أخرى، فوافقت شريطة أن أستنطقهم ولا أتفرد بالقول، أو احتجز مساحة الكلام لي، وعلى هذا الشرط أمضينا ليلتنا الأنيسة تلك.
قلت لهم: في كلّ بلدة حكومات مكونة من وزراء، ومنهم مجموعة مناسبة لأن يكونوا وزراء في أيّ بلد سواء كان مشابهًا لبلادهم أو مختلفًا عنها، فمثلًا “هنري كيسنجر” و “جيمس بيكر” يصلحان لوزارة الخارجية في أيّ بلد، وهو أمر لم يظفر بمثله كثير من وزراء الخارجية الأمريكان. ومن الذين أصبحوا أعضاء في مجلس الوزراء السعودي الموقر نخبة يصدق عليهم هذا الوصف العالمي، وأظنّ بأن الطريقي واحد منهم؛ لما امتاز به من تأهيل وخبرة وجرأة وبعد نظر وعلاقات دولية. ثمّ ألقيت عليهم هذا السؤال: مَنْ من الوزراء غير الأمراء يصدق عليه هذا الوصف؟ فردّ أحدهم قائلًا: د.غازي القصيبي، وهو جواب صحيح.
وأكملت عن أبي صخر قائلًا: له موقف عظيم مشهود لا يُنسى في كسر احتكار الشركات الأجنبية لعوائد النفط، وفي التنسيق مع رؤسائه لتصحيح الأحوال النفطية المقلوبة، وهذا المنجز يجعل له ذكرًا خالدًا لا يغيب في المنطقة العربية وعند جلّ منتجي النفط، بل وحتى في أروقة شركات النفط وتاريخ سجالاتها مع المنطقة الثرية بالخيرات. ثمّ انثنيت بالسؤال عليهم: أتظنون أن الرجل يستأهل بأن يكون ضمن قائمة أهم مئة أو خمسمئة أو ألف شخصية وطنية أو نفطية عالمية؟ فأجمعوا على أحقيته بذلك.
كما أخبرتهم بأن الوزير مقاوم عتيد للفساد أيًا كان المتهم به، وهو مبادر مبكر في هذا الباب الذي كان موصدًا آنذاك. ويمتلك صراحة متقدمة في إبداء الرأي لدرجة الاندفاع أحيانًا، ولو أنه ضبط مستويات التفاعل منه بما يناسب الأجواء دون تنازل عن المبادئ فلربما أن تاريخه أضحى أطول، ولله الخيرة الخفية بسابق علمه وتقديره. ثمّ رجعت على صحبي مستفهمًا عن محاربة الفساد لو كانت نشطة وعامة ومنهجية منذ القدم فكيف سيكون الحال؟ فقالوا: سنكون في وضع أحسن، ومع ذلك فالإدراك ممكن.
كذلك أنبأت رفاق تلك الليلة أن الكتابات عن الطريقي من قبل الأمريكان تتسم بالعدائية الشديدة، والسباب، والخوف من دقة تصوراته، وحرج تساؤلاته، وإن أظهروا الازدراء لمقولاته علانية بيد أنهم اعترفوا فيما بينهم بفهمه ووعيه، وهذا التصرف أشبه بالقاعدة مع كلّ من يستعصي على التطويع. ولأنّ التهمة بالتوجه الشيوعي في تلك السنوات جريمة بشعة، فضلًا عن أن مطالبات الطريقي تخدش وجه الوحش الرأسمالي القبيح، فقد صنعوا له فرية سيقت مساق الرأي الثابت، وهي بجملتها إفك محض مفترى، حتى لو تقاطعت مواقفه وأقواله مع بعضها، والتبيّن يكشف حقيقة أنباء الفاسق، ويحول دون جهالة الإصابة المفضية للندم. ثمّ نظرت إلى السمّار فبادرني أحدهم بقوله: إياك أن تسأل مثل ماذا؟!
بيد أن الأصحاب شدهوا حينما علموا بأن خدمة الشيخ عبدالله الطريقي في العمل الحكومي لا تزيد عن خمسة عشر عامًا، منها الحقيبة الوزارية خلال أقل من سنتين، ومع ذلك فلا تُعرف له أموال طائلة، ولا شركات متناسلة، وإنما اكتفى بالنزاهة والعمل الاستشاري في المجال الذي يحسنه، ولم يسع لاستخدام علاقاته للظفر بمناقصات المشروعات المرتبطة بالنفط وهي ضخمة مغرية. ولم يغيّره شيء على بلاده فرفض اعتلاء المنصات الإعلامية وهي على مثله حريصة، وتحاشى العيش في بلاد حبيبة لأن العلاقة معها آنذاك خشنة، وكان تعامل الطرفين مع بعضهما منضبطًا بأطر وحدود، وهذه الخصائص تشهد له بأنه رجل دولة ركين، ومواطن مخلص رزين، ولم أطرح على المستمعين أيّ سؤال هنا رأفة بعيونهم التي شخصت حذار السؤال!
أيضًا مما لمحته في سيرته العملية، حرصه على توطين الصناعة النفطية في بلاده ممارسة وعلمًا، ومن ذلك إيفاده الأستاذ هشام ناظر إلى فنزويلا سنة كاملة للإفادة من تجربتهم مع الشركات النفطية، ولذلك أصبح أبو لؤي بعد ربع قرن وزيرًا للنفط خلفًا للشيخ يماني. والأسماء التي عملت مع الطريقي في وزارته تميّزت أينما ذهبت، وفيما بعد ابتعث عددًا من الطلبة للدراسة المتخصصة وتابعهم، وقرأت بأن له يدًا في فكرة إنشاء كلية البترول التي تطورت إلى جامعة لها حضورها في حقول النفط والصناعة. وليس هذا بغريب على الطريقي الذي كان هو بنفسه ثمرة لنظرة موفقة، وتوجيه صائب، من رجال دولة مثل الملك عبدالعزيز، والوزير السليمان، والثري الفوزان، ومن غير سؤال ذكر أحد المشاركين بأن هذا المسلك سمة قيادية أساسية.
ومن استشراف الطريقي المستقبلي تحسّره على الغاز الضائع، وآراؤه بخصوص معامل التكرير والصناعات البتروكيماوية، وغير ذلك مما يرتبط بما وهبنا الله تحت الأرض، وجميع هذه الأماني أصبحت حقائق فوق الأرض لاحقًا. وما على المخلصين سوى العمل، ونشر الأفكار، وسيأتي للصواب الرشيد يومه وزمانه وأناسه. ثمّ سألت الجلاس الأفاضل عن الشرط الأهم لنجاح أيّ مركز بحث، أو دراسة استشرافية، أو إحصاءات استطلاعية؟ وبعد حوار اتفقت الآراء على أن الموضوعية والحرية هما الأساس الصحيح لنجاح مثل هذه الأعمال التي لا ينفع فيها جبر خواطر، ولا مراعاة أكابر.
أما بعد أن حلب الدهر أشطره، وعرف الدنيا في غربها وشرقها، فقد حنّ الفرع الأصيل لجذوره الثابتة وشجرته الكبيرة، وهكذا تفعل العراقة بأهلها؛ فعاد الطريقي إلى دياره مستمتعًا بصحرائها، يزرع أرضه، ويمتطي حصانه بفروسية عربية، ويبكر إلى مسجده وربما رفع نداء الحقّ إن تأخر المؤذن، ويممّ قلبه إلى مولاه ليس انكسارًا من الدنيا، وإنما انكسار بين يدي ربّ الدنيا والآخرة، وتلك أعظم قوة تملأ القلب المؤمن. ولم أترك المستمعين دون استجلاء آرائهم حول مظاهر العراقة في الأفراد والأسر والأمم، ومما قالوه: اللغة، والتاريخ، وطريقة الكلام، والملابس، والمواقف، والقدرة على التصالح والإصلاح.
هذا هو الوزير الطريقي الذي أمضينا معه ليلتنا البهيجة الوضيئة مع أنها لم تكن مقمرة. ويبدو أن الرجل سيبقى مادة مناسبة للكتابة والتأليف والدراسة حتى مع وجود عدة مؤلفات عنه. ويبدو أن الجموع التي هرعت للسلام عليه بمجرد أن عاد للرياض بعد أول زيارة له عقب مغادرتها؛ حتى أدرك الحرجُ المضيفَ من سوء تفسير الاستضافة والجموع المتراصة عند باب داره-وهو مالم يكن-، لن تكفّ عن تتبع هذه الجاذبية التي ورثها الأبناء والأحفاد، فنحن أمة الوفاء لمن يستحق التوقير والتقدير، خاصة من أولئك الذين نحتوا أسماءهم بجميل فعالهم على صخر لا تمحوه الأيام كما صنع أبو صخر.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 07 من شهرِ رمضان عام 1442
19 من شهر أبريل عام 2021م
2 Comments
مقال متميز عن الشيخ الطريقي رحمه الله فقد قاتل من اجل بلده فقتله حبه للوطن غادر الى لبنان ثم الى الكويت محاربا من الامريكان فرحمه الله تعالى
رحمه الله، ولعل حبه لوطنه منحه حياة وذكرا.