عبدالعزيز العبدالعزيز المنقور: المواطن المبارك
بين يدي عِلق ثمين، وسفر مختصر عبق، عنوانه: عبدالعزيز بن عبدالعزيز المنقور: من المسطور والمأثور 1345-1433، صدرت طبعته الأولى عام (1442=2021م)، ويقع في (158) صفحة مكونة من مقدمة، وأربعة فصول، ثمّ ثلاثة أقسام عن المؤلف بأقلام معاصريه، ومقالات في رثائه، فالقصائد، ويتلوها الخاتمة، فملحق بالوثائق والمراسلات، وأخيرًا صور من التاريخ. وعلى غلافي الكتاب صورة للمؤلف تشع بابتسامة رضيّة، وتطلُّ منها نظرات عيون مطمئنة.
كتب الشيخ عبدالعزيز بن عبدالعزيز المنقور (1345-1433) هذه الصفحات في آخر شهرين من حياته، وآخر ورقة خطها قبل يوم من وفاته، وقد نشط لتلبية مقترح أبنائه كي يخلد مآثر أسرته التميمية العريقة، وكتب عن بعض شخصياتها، ولولا الموت لسطر محفوظاته عن آخرين خاصة أولئك الذين يختزن مكارمهم من آل منقور وغيرهم، بيد أن قضاء الله سبق، ولعله قد رحل بأجر نيته، ولعلّ في صنيعه وما جرى لمشروعه من توقف حافز لمن يقرأ من الكبار حتى يشرعوا في التدوين أو التسجيل. ومع كل هذا فما أحسن صنيع أنجال الشيخ وكريماته حينما دفعوا أوراق أبيهم للمطبعة، وجمعوها بين دفتي كتاب يخلد ويبقى، وامتثلوا وصيته بالنشر، وحققوا أمنيته بإيصال الكتاب لأسماء كثيرة نصّ عليها.
تحدث الشيخ عبدالعزيز المنقور عن الصحابي الجليل قيس بن عاصم المنقري الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ” سيد أهل الوبر”، ووقف مع سيرة جدّه الأكبر شيخ نجد ومؤرخها أحمد بن محمد بن منقور (1067-1125)، ومن كمال بره أن اجتهد في إعادة طباعة كتب الشيخ الجد، وتتبع نسخها في مكتبات العلماء، وتلك يد من أبي أحمد على العلم والتاريخ وليست فضيلة مقصورة على نطاق أسرتهم الماجدة.
ثمّ كتب عن معاصريه من مشاهير الأسرة، وهم الدبلوماسي الأديب الشيخ عبدالمحسن بن حمد المنقور، وشقيقه رجل الأعمال الشيخ سعد، وشقيقهما الوزير السفير الشيخ ناصر، وابن عمهم الشيخ عبدالعزيز المحمد أشهر ملحق تعليمي في تاريخ السفارات السعودية فيما أعلم، ومكارمه تحتاج إلى عصبة من الرجال كي يسبقوها إن استطاعوا وكانوا مجتمعين متظاهرين. وفي الابتداء بهذه الشخصيات عراقة أسرية، ونقاء سريرة، فجملة الناس مفتونون بالحديث عن أنفسهم عندما يطلب إليهم الإخبار عن غيرهم، لكن المنقور افتتح القول بسيرة غيره قبل ذاته.
ولم يخطر بباله أنه سيجلس لكتابة سيرته وسرد حياته لولا طلب أبنائه، وأخبر أنه ولد بعد أن توفي والده ولذا سمي عليه، وكانت وفاة والده في الجبيل، وحين بلغ رشده علم عن رجلين توليا شأن أبيه في مرضه وبعد وفاته، فحج عنهما، ولا أستبعد أنه يديم لهما الدعاء مع والديه، وربما أشركهما في الخير الذي فعله. وبسبب اليتم درج في بيت خؤولته آل إبراهيم، ودرس القرآن في طفولته عند الشيخين فهد بن سند ومحمد البدر. وبعد أن كبر تزوج وله أربع بنات وسبعة أولاد، وفي تقديمه البنات على الأولاد لمسة حنان لا تخفى.
أما أول عمل اشتغل به فهو “مراقب عصافير” عند أحد الفلاحين، وخلاصة الوظيفة أن يطرد العصافير كي لا تفسد الثمار، وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره أصر على والدته بأن توافق على سفره للرياض، فعمل في بناء القصور، وجمع قدرًا من المال، وانحدر به نحو الكويت متاجرًا ببضاعة اشتراها وباعها في الرياض، وكرر التجربة عدة مرات، إلى أن تعيّن بوظيفة “موزع بريد” في الرياض وعمره اثنان وعشرون عامًا، وذلك في سنة (1367) براتب شهري قدره (85) ريالًا.
انحصرت مهامه البريدية في تسلّم البريد من مقر الإدارة وإيصاله لأصحابه، ومن حظه أن يتكفل بإيصال بريد الملك عبدالعزيز وولي عهد الأمير سعود -الملك- في ديوانهما، وهناك تعرف إلى كبار رجال الدولة مثل يوسف ياسين، ورشدي ملحس، ومحمد الشبيلي، وعبدالله بن عثمان، وعبدالله بلخير، وإبراهيم بن عيدان، وغيرهم إلى أن ترقى من موزع إلى “مأمور المكاتيب الرسمية” عام (1373) براتب قدره (440) ريالًا، وختم مطافه في البريد على وظيفة “مأمور حوالات وطرود” براتب قدره (750) ريالًا.
وفي عام (1380) انتقل إلى جامعة الملك سعود للعمل في مكتب د.عبدالعزيز الخويطر الذي يدير الجامعة، ويرى المنقور أن هذه السنوات هي الأفضل والأكثر إفادة له بالقرب من الخويطر الذي صار فيما بعد وزيرًا معمرًا (1394-1435). وبعد خلو وظيفة “أمين صندوق الجامعة” رشحه د.الخويطر لها ثقة بدقته وأمانته وأهليته لحمل أثقالها، وهي ثقة في موضعها؛ لأن الرجل حين تقاعد مبكرًا عام (1393) تبقى لديه مبلغ يقترب من ثلاثة وسبعين ألف ريال لا يعلم عنه أحد إلّا الله، وبعد أن شاور الخويطر إبان رئاسته لديوان المراقبة العامة، اقترح عليه التنسيق مع مدير الجامعة د.عبدالعزيز الفدا لإيداع المبلغ في صندوق الطلبة وهو ماكان، وبالمناسبة فمذكرات الخويطر مليئة بذكر آل منقور.
ثمّ انصرف الرجل بكليته نحو التجارة سواء في الاستيراد من بلاد عربية وأجنبية، أو العقار له ولأصحابه، أو بتأسيس شركات الخدمات مثل الكهرباء. ولم تلهه التجارة وهي اللعوب المشغلة المشقية، ولذلك كان له سهم وافر من العمل الخيري المؤسسي والفردي، وعنده حضور كبير ضمن أسرته، وصرم نصف قرن في خدمة بلدته حوطة سدير وما جاورها. ولم تشخص عيناه في متابعة روحه الصاعدة بخير وإلى خير -بإذن الله- إلّا بعد أن اطمئن لوجود خمسين مرفقًا حكوميًا في بلدته التي محضها النصح، ومنحها الحب، وأعطاها بلا منّة وإن تحمل في سبيل ذلك ما لا يسلم منه أيُّ ساعٍ في خدمة الصالح العام، ولن يضيع العرف عند الله -وهو الأهم- ولا عند خيار الناس.
فمن أعماله لبلدته ومتابعاته للحكومة والمسؤولين ثمار كثيرة، منها تأسيس اللاسلكي والبريد، وافتتاح مستوصف توسع إلى مستشفى، وبناء السد، وإنشاء مكتبة عامة، واستعجال فتح بلدية، وإقناع وزارة الأوقاف باتخاذ فرع لها في حوطة سدير، ومكاتبة تعليم البنات لفتح أول مدرسة عام (1393)، وعلى هذا النسق يمكن القياس مع جلّ الوزارات التعليمية والاجتماعية والأمنية، هذا غير أعماله الخيرية لخدمة القرآن والمساجد والفقراء والمرضى في بلدته. وليس العجيب أن ينجز هذه الخمسين خلال خمسين عامًا، بل إصراره على المطالبة والمتابعة سنوات عددًا حتى مع تغيّر المسؤول، ومنح هذا الأمر أقصى عنايته وهو على سرير المرض الذي غادر الحياة عليه، وربما أشرك معه آخرين في السعي، وإذا كان الموضوع محرجًا تفرّد بحمله ومواجهة الاعتراضات.
ومن مواقف حياته تلك الخيرة التي جعلها الله قرينة لتجارته العقارية، إن في البيع أو الشراء أو الاستئجار، وآلت بعض الأحداث التجارية المزعجة إلى مغنم له ومكسب أكثر من المتوقع، ولعلّ الله اطلع على خبيئة له وحسن نيّة، فأجرى القدر له بالبركة والتيسير، فربح بسماحة ومعروف، وأقرض وأغاث حتى بعض من ينسى ديونه. ومما يذكر عنه نجدته للشاعر عبدالله بن صقيه الذي سُرقت منه رواتب ثلاثة شهور وقدرها ستة وتسعون ألف ريال، فأسقط في يده وحار، حتى اقترح عليه صديقه عبدالكريم المنقور بأن يذهبا للشيخ عبدالعزيز في يوم رمضاني حار عام (1396)، وبعد أن أفطرا عنده، أعطى المبلغ المسروق كاملًا لابن صقيه مشترطًا عليه ألّا يمدحه ولو ببيت شعر واحد، وأن يبقي هذا الأمر سرًا مادام المنقور حيًا، وثالثها ألّا يعيد هذا المبلغ إلّا إن رجعت له أمواله المسروقة!
لأجل ذلك كله وغيره من كمال السجايا، قال عنه وزير المالية الأسبق الشيخ محمد أبا الخيل: ملاحظاته القليلة تعكس معرفة دقيقة بالحياة، ومحبة خالصة لبلاده، وقدرة لافتة على عرض مطالبه بطريقة موضوعية. ووصفه وزير الصحة الأسبق د.حمد المانع بأنه رزين وقور قليل الكلام خافت الصوت يفرض على الآخرين توقيره، بينما رآه زميله في الجامعة وأمين الرياض سابقًا الشيخ عبدالله النعيم بأنه مثال للنزاهة والأمانة ورفيع الخلق. وأثنى عليه الشيخ عبدالعزيز الشويعر وشهد بوفائه لأبناء الراحلين من أصدقائه، وروى الشيخ محمد المعجل أن المنقور يزور والده كثيرًا للتشاور حول كل مشروع يخدم حوطة سدير.
كما نعته نجله إبراهيم بأنه إذا وعد أوفى، وإذا أعطى أجزل، وبابتعاده عن التفاخر والمظاهر، وتعلم منه ابنه محمد البر بالوالدين لما عاينه من بر أبيه بوالدته ووالده في محياهما ومماتهما، ونظر إليه ولده فهد على أنه قدوته ومصدر قوته، وأشار إلى أن والده لم يضطر لإخبار ابنه بشيء إذ يراه الابن ماثلًا في سلوك والده، وشكرت له ابنته ريم حسن تربيته وكثرة دعائه لهم، وروت كريمته إيمان مشاعرها في طفولتها نحو والدها الذي غمرها بحبه حتى وهي خارج البلاد، وانتقى لها بعد ميلادها اسمًا عسى أن تتعزى بمعناه إذا فقدت أبيها، وأيّ ألم كنوح المرأة على ركنها الأعظم الراحل!
كذلك أورد الكتاب جملة من المقالات والقصائد التي توالى نشرها عقب رحيل المنقور يوم الأربعاء الثاني من شهر ربيع الأول عام (1433)، الموافق للخامس والعشرين من شهر يناير عام (2012م)، أو بعيد الصلاة عليه ودفنه في مقبرة أم الحمام عصر يوم الخميس، ومنها مقالة للوزير الرشيد د.محمد الرشيد أفصح فيها عن فرحه بلقاء المنقور لما يجده فيه من عبق الشخصية العربية المسلمة، ونقل د.محمد الحقيل عن مجلس جمعه بالراحلين الوزير د.غازي القصيبي والشيخ عبدالعزيز المنقور، أنّ القصيبي حين رأى المنقور وطالعه بعمق قال عبارته المعبرة الحزينة بتوجع: “شيبت يا أبا أحمد”!
إن هذا الرجل الذي كان مهيبًا في النفس، حبيبًا إلى لقلب، قريبًا من العين، ثمّ الراحل تشيّعه الدعوات ومدامع المحاجر، حتى أصبح عزاؤه مشتركًا بين الجميع، واحتشدت له جنازة مهيبة في المسجد والمقبرة إضافة إلى جموع المعزين في بيته، لظاهرة اجتماعية يعزّ نظيرها كما قال وصدق د.أحمد الدعجاني، وهو بلا ريب عندي مثال على رجال أفذاذ في مجتمعنا، تساموا حتى أصبحوا ملء سمع الأبرار وأبصارهم، وارتقوا حتى غدوا بهجة قلوب الأحرار، وحلاوة أحاديث الألسن الأديبة، والله يرحم من سلف، ويحفظ من بقي، ويزيد في عدد من سيأتي من طرازهم النقي الباهر.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 03 من شهرِ رمضان عام 1442
15 من شهر أبريل عام 2021م
3 Comments
بارك الله في انجال وكريمات الشيخ المبارك الشيخ عبد العزيز المنقور المبارك .وحق لهم الافتخار والاعتزاز بمثل هذا الوالد الفاضل الذي يستحق الاقتداء به . رحمه الله واسكنه فسيح جناته فرجل كهذا يعتبر كنز ثمين لبلده ومجتمعه وعائلته . ومن كنا صغار كانوا معلمونا يلقونها على اسماعنا. حكمة عظيمة {من جد وجد .. . ومن زرع حصد}في دلالة على ضرورة الجد واجتهاد في الوصول الى مبتغانا . وهذا مافعله الشيخ الفاضل. وكل من يحب الوصول الى مبتغاه
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد وانت تكتب عن سيرة الشخصيات المتميزة . لتتيح لقراءك التعرف عليه
الله يتقبل
تعليق عبر الرسائل الخاصة في تويتر:
الأستاذ الفاضل/ أحمد العساف سلمه الله
تحية طيبة وبعد ..
فقد سرّني وأثلج صدري مقالك الأخير في مدونتك الثرية والذي هو بعنوان عبد العزيز المنقور المواطن المبارك.
ففضلاً عن شكري العميق وامتناني الجزيل لهذه اللفتة الطيبة، لقد أدهشتني ملامستك للتفاصيل المؤثرة الواردة في الكتاب، وتلخيصك لأبزر معالم شخصية الوالد، وإضافاتك التي تنم عن فكر مثقف وقلب محب.
فرغم كثرة من علّق وكتب عن شخصيته وحياته ومآثره قبل إصدار الكتاب وبعده، إلا أن كلماتك لها في نفس ابنائه الوقع الأعظم.
لقد عملتُ على إنجاز هذا الكتاب لمدة عام كامل، تخلله بحث عن تواريخ وأسماء ومقالات وصور وهوامش، ومشاورات وإضافات من بعض إخوتي، والكثير من التعديلات والحذف والإضافة، كنت خلالها أتوق لأن يرى النور ليس فقط لتخليد ذكراه وتجديد الدعاء له، وإنما بشكل أخص لأنها وصيته رحمه الله التي تأخرنا في تنفيذها، ولم يهدأ لي جفن حتى قمنا بتوزيع الكتاب على جميع من وردت اسماؤهم في قائمته. والحمدلله على البلاغ.
جاء مقالك اللطيف وكأنه يضع اللمسات النهائية على كعكة الاحتفال، ويعزز إنجازاً طال انتظاره، ويتوّج فرحتي بتحقيق رغبة أحب الناس إلى قلبي.
غفر الله له ولموتاكم جميعاً وجزاك عنا خير الجزاء.