عبدالله القصبي: نحت الكلمات والصخور والرجال!
هاهنا تطواف مع سيرة الشيخ الوجيه عبدالله بن عثمان القصبي (1342-1436) الذي تعود جذوره إلى أسرة القاسم القحطانية في القصب من إقليم الوشم النجدي، وهي أسرة عريقة كريمة ذات أعلام ومآثر. درس القصبي في مدرسة النجاة بالزبير، وفي جامعة فؤاد الأول “القاهرة” بمصر وهما قلعتا علم وأعلام وتعليم، وتخصص في الصحافة مبكرًا، وكاد أن يصبح أول سعودي يحصل على درجة الدكتوراه في الإعلام لولا أن العمل الحكومي استقطبه في وزارة المواصلات مع وزيريها المتعاقبين الأميرين طلال وسلطان، فصارت له يد مباركة على هذا القطاع في المملكة.
ومع أن القصبي غادر عالم الكلمة والفكر والأدب إلى العمل حول أتربة الطرق، وصخور الجبال، وحديد السكك، ومناقشة المسؤولين، ومتابعة الموازنات، والانغماس في شؤون العمل الإداري المنهك تأسيسًا وابتداءً، والرتيب إدارة ومتابعة، إلّا أنه لم يهجر قلمه تمامًا بل ظلّ يلح عليه كثيرًا، فيمنعه من السكون أو الرقاد، حتى يسيل حبره نورًا على الورق، وتلك وخزة لها من القداسة والتقدمة ما لا يفهمها إلّا الكتّاب.
لذا ظلت الصحافة والكتابة وقضايا الإعلام هواجس تسكن الشيخ الأديب القصبي ويسكنها، ولا غرو فهو القارئ النهم، ورجل الدولة الشغوف بخدمة وطنه، والعربي المسلم الذي لا يغفل عن هموم أمته ومحيطه، فكتب مقالات كثيرة تحوم حول الشأن الداخلي والخليجي والعربي والإسلامي، وعن شؤون الحج والأمن الوطني والقومي، وتوسع إقليميًا خاصة نحو مصر وإيران، ولربما أن انزواء القاهرة آلمه، وغلواء ملالي طهران أقلقه مع فصله التام بين الشعب الإيراني من فرس وغيرهم وبين الحكومة العقائدية، وله آراء في العلاقات العربية الصينية، والعلاقات العربية الفرنسية، إذ يدعو لتنشيطها واستثمار هاتين القوتين حتى لا تكون علاقاتنا الخارجية أحادية الاتجاه.
ومن بصيرته تفهمه للسياسة الغربية والأمريكية على وجه الخصوص، وتحذيره المتكرر من أن نُستدرج كما فعلوا مع دول وزعماء أوقفوهم عند موارد الهلاك، وعلى شفا الجرف المنهار بنهايات محزنة، ويسترجع التاريخ بوعي لنعرف كيف غدر بنا الكبار فيما مضى، كما أنه خبير في قراءة التصريحات الغربية والبيانات المعلنة، وتكمن الحقيقة لديه في أن مصالح الغرب مقترنة باستمرار بؤر الصراع كي نظل مختلفين، وفي سوق أسلحتهم زبائن منفقين، والله يعجل لأمتنا بالاستقلال الكامل في جميع أمورها من الريشة فما فوقها.
كما لا تغيب قضية فلسطين عن مشاعر الكاتب الشيخ القصبي وأحاسيسه، ولذلك يعدُّ أيام الانتفاضة أيامًا مشرقة أعادت الوهج لفلسطين وأحوالها، ويتابع السياسة الإسرائيلية وتصريحات زعمائها، ومواقف القوى الغربية وخاصة أمريكا منها، وهذا أمر لا يستغرب من رجل عربي مسلم يعيش في جزيرة العرب، وبجوار الكعبة المشرفة التي أسري منها بنبي الإسلام إلى بيت المقدس.
ثمّ كان من حصافته دعوته عام (1408) للاحتفاء بالمفكر الأمريكي “بول فندلي” الذي دعاه آل الجفالي الكرام إلى جدة فأكرموه ولم ينل من غيرهم ما يستحقه مع أنه فقد مقعده في الكونجرس بسبب مواقفه التي تصب لصالح عالمنا العربي والإسلامي، وبعد ربع قرن استضيف الرجل في مهرجان الجنادرية، وقال لي أحد الذين حضروا: لولا اسمه، ومظهره، ولغته، لظننته عربيًا مسلمًا! ويؤكد القصبي على ضرورة العناية بالغربيين المنصفين والرموز؛ ولأجل هذا فرح بالاستقبال الرسمي الكبير للزعيم النمساوي “فالدهايم”، واستقبل هو الملاكم العالمي محمد علي كلاي مع أن حضوره للمملكة تزامن مع انشغال الشيخ بزواج ابنه.
كذلك يؤكد أبو ماجد على ضرورة التغيير، وإصلاح المنظومة الإعلامية من أجل البيان والتثقيف ورفع الوعي، ويستعيذ بالله من شرور النفاق والمنافقين الذي أفسدوا وغشوا وكذبوا، ويركز على استشراف المستقبل للاستعداد والتفاعل معه، ويخشى من الاستسلام للرخاء والاعتياد عليه كي لا يصعب على الأجيال التخلص من أغلال الترف وقيود الرفاهية، فيثقل عليهم التكيف مع أيّ أوضاع ومستجدات، وللرخاء خيانة يسميها القصبي سلبية، ونعوذ بالله منها ومن حلولها وفجاءتها.
بينما بقي الإعلام حاضرًا في وجدانه ولم يغلبه العمل العام أو الخاص أو الأسري، وكانت أطول مقالاته ومحاضراته عن الإعلام الأسود، وحقيقة عمل رئيس التحرير، والحوار مع قلمه، ويرى أن الكاتب عين ورقيب لأمته وأناسه حتى يشارك في تجويد الأعمال، وتحسين الخدمات وتقليل الهدر، ومن ولعه بالإعلام أنه يتحين الفرص لزيارة مطبعة الصحيفة عله أن يجد روائح الحبر والورق، ويسمع أصوات الأجهزة، بعد أن حيل بينه وبين الكتابة بسبب مقالة كتبها على عجل.
وعنده أن في إعلامنا خبرات صالحة تسقيها خبرة الكهول ويعيقها نفاق بعضهم، فالنفاق في صحافتنا ظاهرة يتمنى زوالها لأنه يدنس إعلامنا ويفسد حياتنا، ولا غرو أن يكون هذا رأيه وهو الصريح في إعلان ما يعتقده ولكن بلطف ومنطق لا يحفِظ المخالف العاقل، ولا يطغي الموافق الحكيم، وكم نحن بحاجة لإعلام محترف يسوّق قصتنا الحقيقية داخليًا وخارجيًا بعد تنقية أجهزة الإعلام من طمع أشعب، وحمق هبنقة، وعياية باقل، وافتراء جوبلز، ومبالغات ابن هانئ، وتحريض ابن أبي دؤاد، وزندقة الراوندي، وتلبيس صبيغ، وهي غاية عسيرة شاقة بيد أنها ليست مستحيلة إذا شاع فينا قدر من الشفافية، والحرية، وحسن الظن، والتعاذر؛ ليسلم مجتمعنا من التفاهة والتهافت والخداع.
أما على الجانب الشخصي فقد أبدع الشيخ عبدالله العثمان القصبي في أعماله التجارية عبر شركته “كرا” الشهيرة في منطقة مكة، وضمن مجالس إدارات الشركات والصحف التي قادها أو أصبح عضوًا فيها، وأحسن في التأثير على إخوانه السبعة وصناعتهم ومؤازرتهم حتى نعتوه حبًا وتقديرًا بالأخ الوالد، وأجاد في تربية بنيه والتفاعل مع أحفاده وأسباطه دون أن تلهيه أعماله أو تحول سفراته وارتباطاته مع الزعماء والأمراء والعلماء والوزراء والأدباء عن القيام بهذه المهمة الأساسية على خير وجه حتى أقر الله عينيه بتميز أفراد أسرته بجميع طبقاتها، وعلى اختلاف درجات قربها منه، وأسعدته إسهاماتهم في مجالات النفع العام.
وكان مدرسة في البر والصلة مع والده الوجيه المثقف وأحد أعيان بلدته، وأيضًا مع غيره من قريب أو صديق أو جار أو موظف ومع أهل الإعلام على وجه الخصوص، وورّث الصلة والبر لإخوانه وعقبه، وأنعم بهما من خلتين تضفيان البركة والتآلف والأُنس على البيوت والأسر والمجتمعات، ومن لطيف أخباره نقاشه مع المازني في البصرة، ومع طه حسين في القاهرة، وهي نقاشات تدل على ثقة وثقافة في مكانهما.
أيضًا أخبرني من عاشره أنه لم يرد طالب عون أو شفاعة دون منفعة قدر استطاعته، وتكفل بمصاريف أسرة غاب عائلها زمنًا طويلًا، وفتح حملة للحج سنوات عددًا يقصدها من شاء من المسلمين لأداء الفريضة على حسابه، وظهرت آثار مكرماته حين تعرض لحادث مع سائقه فتقاطر الناس صوب غرفته من جميع المستويات للدعاء والاطمئنان، وكتب عن هذه التجربة قطعة نفيسة، وليت له غيرها عن ذكرياته وتأملاته، وفيها كلمة بديعة عن العودة لعالم المُثُل، واحتضان المجتمع العريق لعاداته وتقاليده التي يفاخر بها القصبي، ولا يخجل منها.
هكذا بدا لي الشيخ عبدالله بن عثمان بن عبدالله القصبي حين أنهيت قراءة كتاب أهداه لي الصديق الأستاذ سليمان بن أحمد التركي عنوانه: رحلة قلم، تأليف عبدالله القصبي، صدرت الطبعة الأولى منه عن دار المرسى للنشر عام (1431)، ويقع في (578) صفحة مكونة من تصدير ومقدمة ثمّ قسمين عن عودتين إلى بلاط صاحبة الجلالة، ولكل منهما فاتحة، وتحت العودة الأولى سبعة عناوين تضم ثلاثًا وتسعين مقالة، فيما اكتفت العودة الثانية بثلاثة عناوين واثنتي عشرة مقالة.
وقد حظي الكتاب بتصدير من معالي الوزير د.عبدالعزيز الخويطر، ومقدمة بقلم الأستاذ الأديب عبدالله مناع، وعلى الغلاف الخلفي كلمة مختصرة من معالي الوزير د.غازي القصيبي، كما اُستعرض عبر مقالات وتقارير أولها فيما روي لي ما سطره الإعلامي والمؤرخ د.عبدالرحمن الشبيلي، وفي شبكة الانترنت مقالات أخرى كتبها أدباء وإعلاميون وأقارب للراحل، ولربما أن لسيرة الرجل مكان مخبوء من القدر لما يؤذن له بالانبثاق بعد.
كما لا يفوتني أن أشير إلى موافقتين برزتا لي من تتبع المتاح من سيرة هذا الرمز، أولاهما ظاهرة الأخ الوالد التي توجد في مجتمعنا المترابط بفضل الله وكرمه كما نجدها في سيرة الملك فهد، والشيخ السفير عبدالعزيز العبدالله الصقير، والشيخ محمد السليمان العقيل، ومعالي السفير الشيخ محمد الحمد الشبيلي، وسماحة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين، والشيخ صالح بن عبدالعزيز الراجحي، والشيخ محمد البراهيم السبيعي، ومعالي الشيخ الوزير محمد بن إبراهيم بن جبير، ومعالي الوزير الشيخ عبدالرحمن العبدالله أبا الخيل، ومعالي الوزير الشيخ د.عبدالله بن عبدالمحسن التركي، والحصر أمر صعب في هذه المنقبة المرتبطة بالأسر العريقة الكثيرة والحمدلله، والله يرحم الأموات ويمتع بالأحياء.
أما الثانية فهي أن القصبي اقترب من سكة الحديد التي نقل الوزير القصيبي في كتابه “حياة في الإدارة” عن الأمير سلطان أنها مصنع للوزراء، ومع أن الشيخ القصبي لم يصبح وزيرًا لانشغاله بالعمل الخاص في الغالب إلّا أن نجله الأكبر معالي د.ماجد أصبح وزيرًا، ومن اللافت أنه تولى أربع وزارات-أصالة أو نيابة- كان لوالده ارتباط باختصاصاتها وهي الشؤون الاجتماعية، والتجارة، والبلديات، والإعلام.
ألا ما أحسن العيش مع أهل الجدية والعصامية، وما أجمل ترداد سيرهم وروايتها، وما أجدر الحاضرين والقادمين بمعرفة أحوال من سلفوا؛ ليكون في عبرها الفائدة، وفي مكارمها الاقتداء، وفي قصصها السلوان، وهو واجب يحمله أصحاب التجارب، وأهل الرواية، وحملة الأقلام، وإنه لحمل ضخم لا مناص منه حتى تستبين الدروب للسالكين، وننجو وأجيالنا من المتاهات والغياهب، ونغنم استمرار الفضل والخير.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 29 من شهرِ رجب عام 1441
24 من شهر مارس عام 2020م
One Comment
رحم الله الشيخ الوجيه عبدالله بن عثمان القصبي وجعل مثواه جنة الفردوس هو ووالديه واحبته .وبارك الله له في اولاده واحفاده . جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه ورعاه . لقد اخذت القارئ معك في [في رحلة قلم] وانت تكتب هذا المقال القيم . رحله ممتعة بقراءة المقال المملوءة بالعمل الدؤب والاخلاص فيه والتفاني فيه والاستفادة من العبر والحكمة التي تفيد القارئ ا في حياته اليومية . كثر الله من امثاله والاقتداء بافعاله. رحم الله الكتاب المتوفين . وبارك الله في عمر ورزق الاحياء منهم
اخت في الله