سير وأعلام عرض كتاب

السديري: رجل دولة وتاريخ ونسب

Print Friendly, PDF & Email

السديري: رجل دولة وتاريخ ونسب

 ترتبط الدّول منذ قديم الزّمان بأسر وأفراد لدرجة التّلازم أحيانًا، وهذا قاسم مشترك على اختلاف العصور، وتباين الثّقافات، وتنوّع أنظمة الحكم، وهل تقوم الدّول إلّا على رجال اصطنعتهم أو صنعوها؟! ولذلك كان الحفاظ على تاريخ هذه الأسر وأولئك الرّجال، طريقًا للحفاظ على تاريخ الدّول والأمم، ولعلّ فنّ التّراجم يشفع لهذه الفكرة؛ فضلًا عن دواوين التّاريخ ومراجعه الكبار.

ولأجل ذلك؛ كتب الملك سلمان تقديمًا للكتاب أدناه، وصف فيه أسرة السّديري بالعراقة، والتّأثير السّياسي، والمواقف المشرّفة، والمشاركة العمليّة في إدارة الدّولة، ونوّه إلى أنّ لهم تاريخًا يستحق التّوثيق؛ فقد كان أفرادها نعم القدوة الحسنة التي جمعت صدق القول، وصلاح العمل، ولها نسب ومصاهرة مع أسرة آل سعود.

والكتاب المقصود عنوانه: عبدالرّحمن بن أحمد السّديري: أمير منطقة الجوف.. فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال، ويقع في (512) صفحة، وصدرت الطّبعة الثّانية منه عام 1437=2016م عن مركز عبدالرّحمن السّديري الثّقافي، بعد عقد تقريبًا من ظهور طبعته الأولى، وهو من تأليف سبعة عشر باحثًا، وتحرير د.عبدالرّحمن صالح الشّبيلي.

يتكوّن الكتاب مع التّقديم الملكي من توطئة، ثمّ تمهيد، يعقبها اقتباسات تشبه الشّهادات من وزراء ومسؤولين سابقين، ويحوي أخيرًا أربعة أقسام تضم سبعة عشر فصلًا، ثمّ الملاحق فالمراجع، وفي الختام صور وكشّاف أسماء، وطباعته فاخرة أنيقة، ومحتواه عذب آسر.

القسم الأول عنوانه أسرة وسيرة وفيه ثلاثة فصول، عن تاريخ الأسرة، والأب الرّئيس، وحياته، كتبها على التّوالي د.عبدالفتّاح أبو عليّة ونجلا الأمير فيصل و د.زياد. وعنوان القسم الثّاني مراسلاته وشعره وفيه فصلان كتبهما السّعدان د.البازعي، وَ د.الصّويان، والأمير خال الأوّل منهما.

ويستطلع القسم الثّالث ما في عيون الآخرين، وفيه أربعة فصول عن آراء الشّعراء، ورؤى الغربيين، وذكريات أهل الجوف، ورصد الصّحافة، وكتبها حسب التّرتيب: د.فائز الحربي، د.ميجان الرّويلي، عبدالرّحمن الدّرعان، يوسف العتيق.

ويغوص القسم الرّابع في خدمة الجوف، تاريخيًا، ومن خلال أرشيف الإمارة، وثقافيًا، وتعليميًا، وتنمويًا، وزراعيًا، ويقف قبل النّهاية عند توطين البادية، ويختم بتنمية الأسرة، وبحثها كلّ من: د.خليل المعيقل، أحمد آل الشّيخ، د.عبدالواحد الحميد، د.عارف المسعر، إبراهيم السّطام، فيصل السّديري للمرة الثّانية، د.خالد الرّديعان، وتتشارك لطيفة السّديري مع هداية درويش في الفصل الأخير.

وفي الملحق لقاء طويل مع صحيفة الجزيرة أجراه محمّد الوعيل، وقصائد لم تنشر جمعها د.زياد السّديري، والملاحظ أنّ جميع من شارك في التّأليف يرتبط مع عبدالرّحمن السّديري ببنوّة، أو خؤولة، أو اهتمام مشترك، أو معايشة، أو مزاملة، وجلّهم ممن عاش في الجوف، ولهم حضور باذخ في البحوث التّاريخية ،والتّراثية، والوثائقية، ويحمل أكثرهم شهادات عليا، ولغالبهم خبرات إداريّة، وأكاديميّة، وإعلاميّة.

ولا يخفى أنّ هذه الأسرة الماجدة هم أخوال الملك المؤسس عبدالعزيز، وثلاثة عشر ابنًا من أنجاله، منهم الملك فهد وسلمان، هذا غير الأميرات، وأجيال من الأحفاد وباقي فروع الأسرة. وعلاقتهم بالدّولة السعودية ابتدأت بمناصرة الدّعوة والدّولة، ثمّ توثّقت بالمشاركة العسكريّة، والسّياسية، والإداريّة، وكانت هذه الأعمال تهيئة للنّسب والمصاهرة فيما بعد، مع إدارة مناطق حدوديّة، وقبليّة، امتدّ بعضها لقريب من نصف قرن كما في سيرة أمير الجوف.

وذكر د. الشّبيلي أنّ حكاية هذا الإصدار بدأت أبّان رئاسته لمجلس ادارة مؤسسة الجزيرة الصّحفيّة، باعتبار السّديري أحد مؤسسيها، ومن الوفاء له ولزملائه حفظ تاريخهم، ثمّ تلاقت هذه الرّغبة مع أختها الملّحة لدى نجل المترجم د. زياد، حين تجاورا تحت قبّة مجلس الشّورى، وكان جهد الشّبيلي تحريريًا لمواد الكتاب الذي استغرق إعداده أزيد من عامين.

والكتاب احتفائي بشخصيّة وطنية كبرى، وبالتّالي فقد خلا من النّقد، ولا يخلو إنسان من نقد سواء بباطل أو بحق أو بأمر يأخذ من كلّ صفة طرفًا، بيد أنّ هذا السّجل ليس مكانه، وإيراد النّقد يوجب الرّد والتّوضيح، مما سيزيد من حجم الكتاب الكبير أصلًا، ويبقى المجال متاحًا لمن شاء الكتابة الموضوعيّة.

ويظهر من بحوث الكتاب سمات الرّجل المتمثلة في الجدّية، وعدم التّكلف، والكرم، وعشق التّعليم، والولع بالزّراعة، والعناية بالثّقافة، والمتابعة الشّخصيّة للعمل، والقرب من النّاس حتى كانت من سماته الأبوّة المشاعة، والباب المفتوح، ومراعاة حقوق النّاس، وله اهتمام بالشّعر، والخيل والأنعام، ومن عاداته اليوميّة المشي، وجلسة عائليّة، ودكة ليليّة فيها عمل وسمر، وأخبار وأشعار، وحوار وطعام، ومتابعة ومؤانسة.

ومن لطائف الكتاب، قصص عن أناة الأمير حتى مع أوامر صادرة عن الملك عبدالعزيز مع ما له من هيبة، وجرأته على الرّيادة والمبادرة، ومخالفة المألوف دون خرق ديانة، أو خرم مروءة، ولذلك أقام المعارض، والجوائز، والمسابقات، قبل انتشارها.

وله محاولات وملاحقات لمصالح المنطقة، حتى استطاع اختطاف مدرسة ثانوية للجوف بعد أن تنازعت عليها بريدة وعنيزة! وحاول إقناع المسؤولين فيما يخصّ المعاهد والكليات، واجتهد في التّوطين من خلال التّعليم، والتّوظيف، والزّراعة، والقروض الحكوميّة للسّكن والفلاحة، وتشهد له طبرجل، وبسيطا، وغيرهما، وكم في بلادنا من مناطق خصبة، وسلال غذائيّة، تحتاج لمن يلتفت لها كي تكون واحات أمن غذائي لنا ولأجيالنا، وكم في توافر السّكن والمعاش من أمن يتجاوز جانبهما الخدمي!

وقد هجر السّديري القنص مع شغفه به، ومعرفته العميقة بالصّقور؛ لأنّ الّلهو لا يجتمع مع الإنجاز والمسؤوليّة، ولم يتاجر إذ لا يستقيم اجتماع حكم مع تجارة. وكانت له مواقف طريفة مع من شكاه للملوك، وتصرفات حكيمة في التّعاطي مع رجل ثمل، ومراجع أساء الأدب، وفتى وفتاة قادتهما صبوتهما للمحظور، كما حثّ المتخاصمين غير مرّة على الصّلح والتّحكيم بعيدًا عن التّدخل الرّسمي الذي له توابع ووقت قد يطول، وسعى بحاجة أسر متعفّفة، وأصحاب دين معسرين، وأصلح بين أزواج متخاصمين.

وإذا كانت هذه الأسرة العريقة تشتهر بالفروسيّة، والدّهاء، والشّعر، والزّراعة خاصّة للنّخيل، فقد كان من الطّبيعي أن تُعرف بالكرم، فجدّهم أحمد الأول يسمى “معشي الشّجر”، وصاحبنا هو عشير الضّيف، وما يزال الكرم ممدوحًا محبوبًا عند الله وعند عباده، وكم يستر الكرم من خلل.

ويظهر من سيرته حسن تربيته لبنيه وبناته، واهتمامه بتعليمهم داخل المملكة وخارجها في مصر، ولبنان، والأردن، والقدس، وأمريكا. كما يستبين حرصه على الّلغات حتى أن نجله الأكبر تلقى مبادئ الّلغة الإنجليزيّة على يد صيدلاني في الجوف! ويبدو أنّ النّخلة كانت عنده مثل أبنائه، يقتطع من وقته وماله وسفره لأجلها!

ومن خبره إقناع الحكومة بصرف إعانة للطّلاب من البادية والحاضرة، وكانت الإعانة من أكبر الحوافز التي حطّم بها السّديري عقبات تحول دون دراسة أطفال وبنات وأيتام، وبعضهم الآن ينعم بعلم وعمل وخير وفير، كما سعى لبناء دار للعجزة، واجتهد في حفظ حقوق المواطنين ومصالحهم والتّخفيف عنهم. وممّا استقر في روعه أنّ المرأة الصّالحة ثروة وطنيّة، وأنّ الطّمأنينة والسّعادة تنالان بالقرب من الله.

وتبين مراسلاته متابعته الحثيثة، وهاجسه الإنساني، ومعايشته للمجتمع، وعنايته بتطوير المنطقة، وتواصله الخيري مع الأثرياء لرفع الفقر والعوز، والتفاتته الثّقافيّة الباهرة، لدرجة أنّه اشترى خمسمئة نسخة من المعجم الجغرافي الذي أشرف عليه علّامة الجزيرة الشّيخ حمد الجاسر. وقد تسامى كثيرًا وأبدع في الوقف الثّقافي الفريد الذي أنشأه مبكرًا، والمكتبة التي افتتحها بثلاثة آلاف كتاب، وغدت تضم اليوم مئة وستين ألف مجلّد، وزارها خلال ربع قرن نصف مليون فتاة وامرأة؛ هذا غير الرّجال.

وقد أينعت جهوده، وظهرت ثمارها، فأبناء الجوف اليوم يخدمون منطقتهم وباقي أرجاء المملكة بتأهيل عالٍ واحترافيّة مشهود لها، بعد أن كان مدير البرقيّة من تركيا، ومهندسها من إندونيسيا، وطبيب الجوف من باكستان، أو يستقدم الأمير استشاري جلديّة من أمريكا لعلاج البهاق.

كما أثمرت أعماله بتكاثر الإدارات الحكوميّة في الجوف، وتيسير سبل المواصلات، وبلوغ منتجات المنطقة لنواحي المملكة وغيرها من البلاد العربيّة، وقد مضى زمن كانت الجوف تستورد فيه التّمن “الرّز” والوقود من العراق! فالحمدلله على آلائه ونعمائه التي تستحق الحفظ بطاعة الرّحمن وتوقير أمره كما يؤكد كثيرًا مترجمنا عبدالرّحمن.

ومن الّلافت أنّ د. زياد حين سرد تعريفًا مختصرًا بإخوانه وأخواته، تجاوز ذكر ميلاد البنات خلافًا للأولاد، مع أنّ غالبهن فيما يبدو قد بلغن الآن مرحلة “الجدة”، وهذا من تلّطفه وبرّه بأخواته، فالعمر والوزن عند كثير من النّساء سر من أخطر الأسرار، وليس الذّكر كالأنثى! ولا غرابة من صنيعه الجميل فقد كان أبوه لطيفًا مع أخواته حتى أطلقن عليه صفة الدّيمة، وهو الغيث المبارك بلا برق مخيف، ولا رعد مزمجر!

وكنت أتمنى أن يحذف من الكتاب المتشابه والمكرّر الذي يمكن الاستغناء عنه، وأن يكون لكلّ فصل خلاصة قصيرة من صفحة واحدة، تغني المستعجل، وتذكر النّاسي، مع أهميّة إعادة تحرير بعض التّعابير، وتصحيح معلومة غير دقيقة عن الشّاعر مالك بن الرّيب، ومعلومة أخرى عن عدد طلاب أوّل مدرسة رسميّة عام 1362 حيث ورد بعددين مختلفين.

ومن المقترحات الاكتفاء بالمهم من الأشعار ونقل الباقي للدّيوان والإحالة عليه، مع تغيير صورة الغلاف؛ وهي وإن كانت معبّرة، إلّا أنّ أرشيف الشّيخ الأمير يحوي أفضل منها قطعًا، وقد يناسب توزيع الصّور داخل الكتاب، وإضافة صور لمزارعه وأوقافه، وأخيرًا لو أسهبت إحدى بناته في الكتابة عن الأسرة والمرأة في حياة والدها بقلمها وأسلوبها المشبع بالحياة.

ولا شك لديّ أنّ هذه الشّخصية الجامعة لخصال كثيرة، قد طغت عليها سمة بارزة تستحق أن تفرد بكتاب، ولعلّ ذلك أن يكون حاضرًا في خطط أبنائه الذين سلكوا طريقًا آمل أن يحذوه غيرهم مع أكابرهم الذين خدموا البلاد والعباد؛ فهذا ليس حقّاً للرّاحل فقط، بل واجب للتّاريخ، وللأجيال كي يعرفوا شيئًا من سير رجال الدّولة والتّأثير.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الرِّياض

ahmalassaf@

الأربعاء 19 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1439

الأول من شهر أغسطس عام 2018م  

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)