لا أحب الخوض في جدل أكثر مبعثه الاستعراض و”التميلح” والبحث عن كتف تؤكل، أو موجة تركب. الوفاء خلق نبيل، وطبع أصيل، يكون من الرجل، ويكون من المرأة. الوفاء يصاحب الرجل الكبير نحو زوجته، ويرافق المرأة الرزينة تجاه زوجها. إن حسن العهد من الإيمان. إن الوفاء لمن أدل الدلائل على طيب المنبت والمحتد وكريم الأعراق والأخلاق. ما سوى ذلك من شطط، وشقاق، لا يمكن أن يؤخذ منه حكم عام؛ خاصة في مثل مجتمعاتنا العربية مكارمها، الإسلامية شعائرها، الثابتة فيها ركائز العراقة والنبل.
فيما مضى استعرضت كتابًا ضخمًا عن رثاء الشعراء العرب لزوجاتهم، وقد هاجني للكتابة عنه مع أن الوقت كان قبيل عشر رمضان الأخيرة أنني شاركتُ في تشييع جنازة راحلة فجع القلوبَ زوجها المكلوم قرب القبر. وبعده رأيت كتابًا عن رثاء الشواعر لأزواجهن؛ لكن العجلة وتأخري في القراءة حالا دون شراء نسخة منه والكتابة عنه. إن الشعر، وشعر الرثاء تحديدًا، لواجهة صادقة عن طبائع النفوس والبيئات.
كذلك فيما سلف كتبت عن مؤلف احتفائي بعالم لغة كبير من بلادنا. هذا الكتاب رعت فكرته وبذرته وشجرته وثماره حتى صار متداولًا بين أيدي الناس زوجة وفية مباركة عالمة باللغة أيضًا. عنوان ذلكم الكتاب: أبو أوس الشمسان: كلمات وأبيات، شهادات وقراءات، أبحاث مهداة. ثم شاء الله أن يرثي المحتفى به زوجه بعد مدة غير طويلة من صدور ذلكم الكتاب، ولم يكتف بذلك إذ سعى للاحتفاء بها عقب رحيلها بكتاب على نسق كتابها عنه، عنوانه: وسمية عبد المحسن المنصور: كلمات وشهادات وأبيات أبحاث مهداة، أعده وحرره أبو أوس إبراهيم الشمسان، وصدر عن دار اليمامة للبحث والنشر والتوزيع عام (1445=2024م).
يقع هذا الكتاب في (662) صفحة، ويتكون هذا السفر من شكر ومقدمة، فالسيرة الذاتية للراحلة، ثم كلمات الأسرة فكلمات في تأبين المرحومة، يعقبها ندوتان، وشهادات، وأبيات، وأبحاث مهداة. تزين الغلاف الأمامي للكتاب الذى رعى مركز حمد الجاسر الثقافي طباعته بعلمي السعودية والكويت -صانهما الله القوي العزيز-. إن هذا الكتاب مع صنوه لمن المؤلفات التي ستظل شاهدة على الوفاء في عصرنا عبر مستويات مختلفة، وعلى تقدير العلم، وعلى ما يبقى بعد غياب الأجساد وذهاب الأسماء والألقاب وشؤون الدنيا كافة.
ذكر أ.د.أبو أوس في المقدمة أنه قرأ كل حرف في الكتاب، وحقّ له؛ فبكى وابتسم في مواضعهما، ورأى إجماع الكتّاب على صفات صاحبته الحميدة. إن الناس هم شهود العليم الخبير على هذه الأرض، وتواتر الآراء بالحمد مظنة خير، ومئنة على الخيرية والنقاء. جاءت بعد هذه المقدمة كلمات الأسرة في قسمين، الأول منهما لعائلة أم أوس مرتبة وفاق العمر، والثاني للأسرة بأطرافها مرتبة حسب حروف الهجاء.
عقب ذلك توالت المشاركات التي كتبت بعيد رحيلها، أو تفاعلًا مع ملف أعدته عنها في حياتها الجزيرة الثقافية، أو وقائع ندوتين أقيمتا عنها، الأولى أقامها مجمع اللغة العربية الافتراضي بمكة وأدارها د.ياسر المرزوق، والثانية استضافتها الأميرة نورة بنت محمد حرم الأمير فيصل بن بندر أمير الرياض في قصرها وأدارتها أ.د.نوال الثنيان. يضاف لذلك قصائد وأبحاث علمية في اللغة العربية مهداة لها، ولم لا يكون والعلم أحد ركائز حياة هذه السيدة الحصان وافرة العلم كريمة الخلق.
مداخلة لن تقرئيها عنوان حزين اختاره أبو أوس ليكتب عن زوجه ورفيقته في العلم والحياة. كان أبو أوس يطمئن إذا دفع شيئًا من أعماله للنشر بعد مصادقة أ.د.وسمية عليه، وأواه لعمل سيضطر لدفعه دون بصمات وسمية أو وسم القبول منها! إننا حين نستعرض سير الأزواج المعاصرين من المثقفين والعلماء والمفكرين، سنضع أبا أوس وأم أوس في مكان عليٍّ من تلكم القائمة، وسيكونا خير ممثلين لبلادنا وجزيرتنا العربية.
ثم كتب النجل الأكبر أ.د.أوس كلمته بعنوان مطر الربيع الأول، وقد كان بأمه متعلقًا، وبسمتها شبيهًا، حتى أنه في طفولته ينتظر عودتها لا بالفرجة على أفلام الكرتون وإنما على محاضراتها! هذه الأم المعطاء بمعنى العطاء الواسع المادي منه والمعنوي، حتى أنها تتقن فن المفاجآت السعيدة، وتحرص ألّا تكلّف أحدًا شيئًا حتى استجاب الله دعاءها فترجلت عن منصة الحياة دون أن تصبح عبئًا ثقيلًا على أحد، وختمت حياتها بهدوء وبلا عناء مثلما أرادت.
وبدمع لا يغالب، ومداد يقطر وجعًا وألمًا، سطرت بنتها الكبرى ديمة كلمتها مقتبسة من أمها قولها ما شبعت منكم، وكيف تشبع الأم المتلذذة بمعاني الأمومة والأسرة من بيتها المتآلف وأركانه الميامين؟ قالت الكريمة الكبرى إن فراق والدتها غصة باقية، وأنها لم تكن أمهم فقط بل أم القصمان كذلك في إشارة عميقة المعنى، ولا غرو أن يتولد هذا الإحساس لدى وسمية بما حباها الله من قدرة عجيبة على الاحتواء، وعلى الجمع بتفوق بين الحياة الأكاديمية بصرامة الجامعة، والحضور الاجتماعي بما يتطلبه من ليونة وبشاشة ومراعاة حتى لصبي تتعمد سوق الفرح إليه. لقد كانت وسمية فنانة محبة للجمال، وفي داخلها طفل بشوش يكبر. ولها كلمات رواها عنها كبيراها، منها: ” لولا المربي ما عرفت ربي”، ” اللهم اجعلني في عيونهم كبيرًا وفي عيني صغيرًا”، ” من حَبه ربَّه جمّع ضيفانه”، ” من عَنَا إلينا وجب حقه علينا”.
أما ابنها بدر فيجزم أن أمه غابت ولكن الذكريات ما غابت، وهل تغيب ذكرى أم كانت تحفّظ أبناءها القرآن الكريم، والأدعية والأوراد، وتحثهم على صنائع المعروف؟ ومما ذكره لفتة جميلة إذ جعلته والدته مرجعها فيما يحسنه، ثم اصطفت له زوجة من إحدى طالباتها. وأخيرًا سطرت بدور رسالة إلى ماما وسمية من وسمية الصغيرة، وهي التي تفاجأت كثيرًا بالدنيا بعد فقد أمها، ويا له من فراغ مؤلم لا يمكن تصويره ولا حتى التعبير عنه، حتى أن الفؤاد ليكاد أن يفرغ من أثر هذا الفراغ! إن مساحة الأم لشاسعة لايقوم مقامها قائم، ولعل العزاء والسلوان بما يرجى لها عند الرحمن، مع ما تركته من إرث كبير بالمحبة والثناء، وهو ما عبرت عنه الحفيدتان ميس بنت أوس، وموضي بنت خالد بنت خالد السويدان وختمتا به هذا القسم من الكتاب.
وفي كلمات الأسرة نقرأ الكثير، منها وصف حنان بنت عبد العزيز الخميس للراحلة بأنها سيدة التفاصيل الساحرة التي تبث الحب بين طيات تفاصيل حديثها وإعطائها وتصنع البهجة ببراعة. منها إشارة أختها ربيحة المنصور إلى استحواذ وسمية على أي مجلس تحل به بما رزقها الله من بركة وقبول. منها شهادة شقيقة زوجها السيدة الجليلة سارة بنت سليمان الشمسان بأن وسمية لم تكن زوجة أخ فقط بل صديقة وأختًا لم تلدها أمها، وأن جلستها كلها فرح وأنس ورحمة بالضعفاء والخدم.
كما قالت شيخة بنت عبدالله العقيل إن وسمية مع تعليمها العالي استطاعت التواصل مع جميع المستويات دون أن تشعر أحدًا باختلافها عنهم. هكذا كانت البروفيسور وسمية بشهادة من عرفها، وبعضهم -ياقوم- لو نال شهادة مزورة لانتفخ فلا يمشي إلّا متغطرسًا مهووسًا بزهو باطل! إن شهادات الأسرة، ونساء الأسرة على وجه الخصوص، لوسام لا تلبسه وسمية الراحلة فقط، بل وسام يطوق أعناق آل الشمسان ومن اتصل بهم بنسب أو سبب؛ ذلك أن الفضل إنما يعرفه، ويقدره، ويعترف به، ويشهد لأهله، الكرماء النبلاء فقط.
في بقية المشاركات كلمات تأبين ووداع، وتعليقات منبرية أو في السجلات والصحف، وشعر، وأبحاث علمية رصينة، وأخبار عن الراحلة، عن خيريتها، عن تعاملها مع طالباتها وتعاونها معهن، حتى جمعت الأوائل منهن بالأواخر، وتركت لها في مكان عبرت به ما يشهد لها بجميل الفعال قبل فصيح المقال، حتى قالت زميلتها أ.د. سعاد المانع: “أشعر أن مكان وسمية المنصور الروحي سيظل خاليًا في القسم”، وهو كذلك فمن سيبذل علمه ومكتبته ونصحه ولطفه للكافة بلا مثتوية؟ ومن سينادي الطالبات “بناتي” كما روت ثمرة البقمي، ومن سيقتطع من وقته لاختبار طالبة وحدها مثلما صنعت الراحلة مع سهى أبا حسين؟ أو اجتهادها لتقديم امتحان شعبة استباقًا لقدوم مولود؟ ومن ستجعل يدها ندية بالخير طبقًا لشهادة أ.د.أمينة الجبرين؟ ومن ستخصص ساعة لطالباتها يقرأن معها كتب التراث مثلما أخبرتنا عبير الطلحي؟ ذلك وغيره جعل البروفيسور نوال الثنيان تنعتها بأنها مجموعة إنسان! أقرأ هذه الكلمات وأتعجب من بعض بني أبينا آدم الذين ما نجحوا حتى في العيش بصفة جزء من إنسان خلق مع الطين الأرضي من روح علوية!
رحم الله إمام العربية من النساء مثلما كتبت د.وداد القحطاني، وغفر الله حسنة الضيافة حتى أن البيت بالأحباب دومًا يُعمرُ مثلما ترنمت بالشعر د.أمل الشقير، والأمل مع حسن الظن أن تصير مغاني لقانا الحوض والغرفا كما تضرعت بقصيدتها د.أسماء الجوير. وأسأل المولى ان يتقبل جهدها التربوي والمجتمعي الذي حكى عنه الكتّاب من الجنسين. والله أسأل أن يبقي لها عملها الصالح الذي باشرته أو كانت سببًا فيه، ومنه هذه الأبحاث، والرسائل، وعلمها الممنوح لمن طلبه، وكتبها ودراساتها ومشاركاتها التي حصرتها د.عزة الشدوي الغامدي. والله يجبر قلب أبي أوس وأهل بيته على فراق مثل هذا الفراق، وعلى رحيل تستهل من تذكاره العيون الجوامد بالدموع الهوامل.
الرياض- الأحد غرة شهر جمادى الأولى عام 1446
03 من شهر نوفمبر عام 2024م
2 Comments
من أين يأتي ألوفاء *** إن لم يكن له مرجع ينبع منه *** وذاك المرجع هو من عرف ويعرف بالوفاء نفسه لمن أثر فيه وتأثر به *** فإن لم تعرف شيء تتحدث عنه فلا غرو بجهلك في الحديث عنه *** وهكذا سيرة المرحومة المغفور لها يإذن الله *** كان ممن عرفها وعاشرها وتأثر بها سيرة وتجربة ومعرفة وأخلاقا فكان الحديث والوصف في مكانه
أحسنت وصدقت أخي علي.