وصف “المحافظ” لا علاقة له بالمصطلحات التي تجعل الساسة أوزاعًا منبسطة على شريط طويل من التسميات المختلفة، ومنها المحافظ والنسبة إلى يمين ويسار ووسط، والله يحمينا من سبل التفرقة والتشتت. هذا الوصف الذي جعلته عنوانًا للحديث عن معالي الشيخ عبدالعزيز بن زيد بن علي القريشي يصدق على أعلى المناصب الحكومية التي تبوأها، فقد كان وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء، ثمّ انتقل من عضوية المجلس ليصبح رابع محافظ لمؤسسة النقد –البنك المركزي-؛ وعليه فهو الوزير المحافظ، وله شريك بهذه التسمية مثلما سنرى.
هذا الانتقال من المجلس يؤكد على أهمية هذه المؤسسة الحكومية المؤثرة جدًا، العريقة جدًا، التي سبقت كثيرًا من مثيلاتها. هذا الانتقال اللافت تكرر مرة واحدة بعد نصف قرن من انتقال القريشي لكن مع الوزير د.فهد المبارك الذي عمل محافظًا للمؤسسة خلال مدة سبقتها عضويته في مجلس الوزراء بمنصب وزير دولة. يكتسب هذا الانتقال أهميته ودلالته من ندرته على صعيد أعضاء مجلس الوزراء الموقر، باستثناء التحول من العضوية المجلسية لأعمال دبلوماسية واستشارية كما يحدث في دول عديدة.
كان الشيخ القريشي أول مدير سعودي يترأس أصالة لا نيابة السكة الحديد التي أنشأتها أرامكو، وتولى إدارتها موظفون أمريكان، قبل أن تسند بالنيابة للشيخ عبدالرحمن بن سليمان آل الشيخ، الذي لم يبخل بإسداء أي معلومة لخلفه بالأصالة عبدالعزيز القريشي، خاصة أنهما تزاملا معًا في الدراسة الجامعية بمصر. من لطيف ما يشار إليه هنا ملاحظة د.غازي القصيبي بأن مؤسسة سكة الحديد كانت أشبه بمدرسة تأهيل الوزراء. هذه الملحوظة يصدقها أن بضعة مديرين للخطوط الحديدية -وليس مدراء- أصبحوا وزراء فيما بعد سواء أكانت إدارتهم للسكة بالنيابة أم بالأصالة. لم تستمر هذه الميزة لتلك المدرسة بسبب كثرة مؤسسات الدولة التي باتت موئلًا لصناعة رجال الإدارة المؤهلين لما هو أعلى. فكرة المؤسسة المدرسة باقية؛ لكنها لا تقتصر على واحدة؛ فتنوع المشرب مطلب.
كما كان الشيخ عبدالعزيز القريشي أول سعودي يترأس مؤسسة النقد العربي السعودي مع أنه المحافظ الرابع لها بعد محافظين اثنين من أمريكا، وبعد عالم الاقتصاد الباكستاني أنور علي الذي نال الجنسية السعودية. إبان عمل القريشي محافظًا لمؤسسة النقد لمدة تقترب من عقد، حرص على سعودة ملكية المصارف، وسعودة إداراتها على اختلاف درجاتها، وهذا يفتح الباب واسعًا لتأهيل الشباب السعودي علميًا وعمليًا. في أيامه محافظًا وضعت صور الملوك على العملة الورقية السعودية في إصدارها الثالث لأول مرة، وأصبحت العاصمة مقرًا للمؤسسة بدلًا من جدة.
عمل الشيخ أبو عادل في قطاعي النقل والنقد، فجبر الله به النقص في الكفاءات الوطنية التي بدأت تحلّ بالتدريج مكان غيرهم بعد أن تحصنوا بالعلم والتجربة والخبرة، والتوفيق من الله العزيز الرحيم. ليس عيبًا الاستعانة بالآخرين، ليس عيبًا الوقوع تحت وطأة الضرورة، إنما العيب في عجز القادرين على التمام، وفي تكاسل المقتدرين عن الخروج من دائرة الضرورة. يبدو أن هذا الملمح الإداري للتغيير والتحسين كان حاضرًا في قرارات القريشي، ونهجه الإداري؛ ولذلك تخرج على يديه بطريق مباشر أو غير مباشر جمع من قدرات وطنية متسلحة بالعلم المتين، والفعل المكين.
لا تفوت الإشارة إلى أن الشيخ عبدالعزيز أصبح بعد سكة الحديد رئيسًا لديوان الموظفين، وله فيه آثار تطويرية على طرائق العمل وإجراءاته وصولًا لإصدار نظام محكم يكفل العدل والوضوح لموظفي القطاع العام، وله في جلائل الأعمال هذه شركاء أصبح بعضهم وزراء أو في مناصب رفيعة -رحم الله الراحلين منهم ومن المذكورين -. لا تفوت الإشارة كذلك إلى أن الشيخ عبدالعزيز المنتمي لمدينة حائل، والمولود في الزُّبير، والناشيء في الأحساء، والدارس في مصر وبريطانيا وأمريكا، يعطي المثال على السعودي الذي يخدم بلاده كلها دون التفات لأي مكون آخر، ويجعل مهجره سبيلًا لتحصيل العلم الذي يخدم به دياره وحكومتها وأهلها، وهذه الفضيلة ظاهرة جدًا في أهل الزُّبير والعقيلات على وجه الخصوص الذين سبقوا غيرهم في نيل العلم واكتساب الخبرة.
كذلك من التاريخ الإداري للشيخ عبدالعزيز أنه أحد الوزراء الذين تخصصوا في المحاسبة ثمّ الإدارة في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، وأنه أحد ثلاثة وزراء باقين إلى اليوم وهم من وزراء عهد الملك فيصل -رحمه الله-، ويشاركه في هذه الأقدمية سابقه الشيخ جميل الحجيلان، وزميله الشيخ محمد أبا الخيل، والله يمتع بهم على سعادة وطاعة، ويرحم الراحلين. للعلم كان الشيخ عبدالعزيز عضوًا في مجلس الوزراء بين عامي (1391-1394=1971-1974م)، حتى رشحه وزير المالية الأمير مساعد بن عبدالرحمن -رحمه الله- ليصبح محافظًا لمؤسسة النقد. امتاز القريشي بالمحافظة على وقته ومواعيده، حتى نقل عنه د.عبدالرحمن الشبيلي أنه يضع على مكتبه جدولًا واضحًا لما عنده من أعمال ولقاءات وزيارات في عام كامل.
وقد أثنى عميد الوزراء د.عبدالعزيز الخويطر على القريشي في مواضع كثيرة من يومياته وأديمه، ومما قاله عنه في أكثر من موضع بعد دمج واختصار وتصرف يسير من قبلي: ” عبدالعزيز صديق حميم، محبوب من جميع الطلاب، لا يأتي منه إلّا الخير، أما الشر فلا يعرفه ولا يجرؤ الشر أن يقترب منه. نفسه صافية مضيئة، فيه هدوء، وطيب نفس، ورزانة، وعقل يقظ. وأسرته كلها كذلك. سئلت من تمنيت أن تكون لو لم تكن عبدالعزيز الخويطر؟ قلت: عبدالعزيز القريشي؛ لأن فيه ميزات تخطب: عقل، وهدوء، وكفاءة، وصمت، وحب للخير”.
ولا تفوت الإشارة إلى أن الشيخ زيد بن علي القريشي -والد عبدالعزيز-، قد ولد وتعلّم في الزبير، وتدرب على ممارسة العمل فيها مع أكابر تجارها النجديين، ثم استقطبه الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-، ليتولى العمل في مالية الأحساء. إن العمل المالي مرهق غاية الرهق، خاصة في الابتداء والتأسيس مع قلة المعين والخبير. إن العمل المالي يحتاج إلى الصادق الكفء الأمين الدقيق، وإن بصيرة الملك العارف بالرجال لا تقع إلّا على من يستأهلها. وقد حرص القريشي الأب -رحمه الله- على خدمة بلاده بنفسه، ثم بابتعاث ابنه للدراسة في مدارس النجاة المتميزة جدًا بالزبير، ثمّ ابتعاثه للدراسة فيما بعد خارج المملكة، فكان زيد فينا حقًا وصدقًا زيد الخير الطيب المبارك.
إن سيرة الشيخ عبدالعزيز بن زيد القريشي تحمل في طياتها العديد من صنوف العراقة التي تتزايد في مجتمعنا الأصيلة منابته، الرفيعة شيمه، السامية مرجعياته. من هذه العراقة عراقة الانتماء والولاء للبلاد وقيادتها وأهلها حتى لو نأت الديار وبعدت المساكن. منها عراقة الوفاء المتبادل بين الوطن والمنتسبين إليه، وعراقة اصطفاء أصحاب الكفاءة والأهلية كما حدث مع القريشي الأب والابن ومع جملة من رجال الدولة. ومنها عراقة التربية التي صرفها الأب مخلصًا لتوجيه نجله، وعراقة ابتغاء النفع العام، والجد فيما يؤول إلى تحقيق مصالح البلاد العاجلة والآجلة؛ حتى لو كان في الإجراءات والنظم ما قد يصعب تنفيذه، أو لا ترتضيه بعض المصالح الفردية.
إن سيرة الشيخ عبدالعزيز لتجلّي لنا ببيان مثل فلق الصبح لا يحتاج إلى دليل على قدرة السعودي على العمل والأداء والإنجاز بما يفوق الأجنبي، وزيادة على ذلك أنه يؤدي مهامه بما يتواءم مع تاريخ البلاد وتقاليدها وثقافتها، وينفع الحاضر منها والمستقبل. إن سيرة هذا الرجل العزيز لتؤكد لنا أن المناصب العالية، والتمكين، باب مفتوح لأبناء البلد وبناته كافة بلا استثناء ما داموا على استعداد واستحقاق، مع ضرورة توافر ما تستلزمه بعض الأعمال من شروط علمية وعملية. لقد كان القريشي مثالًا على الطالب المجتهد الناجح، والمسؤول المنجز المقدام، ورجل الأعمال اليقظ النشيط، وقبل ذلك وبعده على المواطن المحب النافع، الثابتة مبادئه، البادية مآثره، والله يبارك له وعليه، ويعظم لنا وله المثوبة والأجر.
الرياض- الثلاثاء 14 من شهر ربيع الأول عام 1446
17 من شهر سبتمبر عام 2024م