سير وأعلام عرض كتاب

جميل الحجيلان في عهد سبعة ملوك

Print Friendly, PDF & Email

جميل الحجيلان في عهد سبعة ملوك

عاصر ستة وخمسون وزيرًا من أعضاء مجلس الوزراء -من غير الأمراء الوزراء- حكم أصحاب الجلالة ملوك المملكة العربية السعودية، وخدام الحرمين الشريفين، منذ عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إلى عهد الملك سلمان -حفظه الله- حسبما أحصيته. وقد تجاوزت أعمار ربع هذا العدد عشرين عامًا زمن وفاة الملك المؤسس، علمًا أن الوزير الشيخ جميل الحجيلان ينفرد -حسب علمي- بأداء مهام عملية مباشرة مع الملوك السبعة خلافًا لغيره من الوزراء الذين بدأوا في العمل الحكومي ومقابلة الملوك من الملك سعود فمن بعده، والله يرحم الأموات، ويسبغ على الأحياء الصحة والعافية.

فإذا ما أردنا تتبع مسيرة المهام “الملكية” التي أداها الشيخ جميل الحجيلان مع ملوك المملكة بناء على ما ورد في سيرته الجاهزة للنشر، فسوف نجد أن أول مهمة وأصعبها -ربما- كانت إسناد مسؤولية الترجمة بين الملك عبدالعزيز ووزير الخارجية الإسباني السنيور “روبرتو خوزيه ارتاخو” عام (1371=1952م)؛ إذ رشحه لهذه المهمة المهيبة الشيخ يوسف ياسين بعد أن أعجبته ترجمة الحجيلان بينه وبين الضيف الإسباني، فطلب منه الاستعداد للسفر مع الوزير إلى الرياض للترجمة بين الملك عبدالعزيز والوزير!

وليس بعجيب أن يشعر الشاب الذي لم يمض على عمله في وزارة الخارجية السعودية سوى بضعة عشر شهرًا بالخشية والتوجس من اللقاء بأحد أعظم الرجال في بلاده وقرنه وتاريخ أمته؛ بيد أن الشيخ يوسف طمأنه ومنحه جرعة من الثقة، وحثه على الظفر بفرصة اللقاء مع الملك الكبير، وأخذ بيده أخذة المربي الشفيق ناصحًا إياه بأبيات الشاعر التونسي الشابي التي تنهى عن التهيب من صعود الجبال، وتنذر من فعل ذلك بالعيش أبد الدهر بين الحفر.

لذلك تشجع الفتى العشريني، وسافر مع الوفد الإسباني للرياض على الطائرة المقلعة من جدة، وحضر مأدبة العشاء مع الأمير سعود -ولي العهد آنذاك-، وترجم له مع ضيفه، وهذه أول مقابلة ملكية للحجيلان، وفي الغد ترجم للملك المؤسس مع الوزير الإسباني المبعوث من الجنرال “فرانكو”. وقد أبدع الحجيلان في وصف مشاعر الانبهار من مشاهدة الملكين عبدالعزيز وسعود، ومن جلوسه بين يديهما، وهي من مواضع السيرة التي أطلق أبو عماد لقلمه العنان كي يغترف من مشاعره الحقيقية دون تحفظ، ولها أخوات محلية ودولية وشخصية في مجريات السيرة، تجعل القارئ لها معايشًا لا مجرد قارئ فقط، وتلك مهارة روائية في الكاتب والمؤلف.

ونقل الحجيلان عن ذلكم اللقاء أن الملك عبدالعزيز تحدث لضيفه بحماسة وتأثر عن الاحتلال الأوروبي لدول المغرب العربي، وما يحدثه ذلك من ألم في نفوس العرب والمسلمين، وقال للوزير الإسباني في سياق حديثه الملكي الجاد: “العزم أبو اللزم أبو الظفرات، والترك أبو الفرك أبو الحسرات”؛ فترجمها الحجيلان من فوره بلا تردد ولا تلعثم، حتى تعجب الملك من مهارة مترجمه لكلمة ربما لم يسمعها من قبل!

ويعود سر هذه الترجمة الفورية إلى أن الشيخ يوسف أخبر الحجيلان أن هذه الكلمة محببة للملك، وشرحها للمترجم حتى وعى المقصد منها. وبعد الترجمة لعبدالعزيز وسعود أفاض كل واحد منهما على جميل كلمات من الشكر والمؤازرة والحنان مما طمأنه لنجاح عمله، وتأكد من ذلك لاحقًا برواية من الشيخ يوسف. ومن التوفيق أن هذه الترجمة أعانت الحجيلان ماديًا بهبة سنوية من الملك سعود، وكان حينها في ضنك ويصرف على أسرتين، ومن اللطائف أن استقبل الجنرال “فرانكو” بعد خمسة عشر عامًا من هذه الحادثة الوزير الحجيلان محملًا برسالة من الملك فيصل.

وبعد سبع سنوات عجاف قضاها الدبلوماسي الشاب في طهران وكراتشي، شاء الله أن يختاره الملك سعود مديرًا عامًا للإذاعة والصحافة والنشر، وكانت المدة التي عمل فيها مديرًا لهذا الجهاز الإعلامي على قصرها مثيرة غاصة بالأحداث، ومشكلات النشر، والتفسيرات المتشككة لما ينشر ويذاع حتى كاد أن يعصف لوي أعناق النصوص بمصير عدد من الكتّاب لولا لطف الله ثم تدخل الحجيلان، وسيادة صوت العقل والحكمة من ذوي الأمر والنهي، وأصحاب الألباب والنُّهى.

ثمّ بعد سبعة أشهر ثقيلة أعفي الحجيلان من مهمته إعفاء كريمًا راقيًا، ومن هذا المنصب بدأ مسيرة الصعود، وغدت جميع وظائفه بإرادة ملكية، ولأجل ذلك اختاره الملك سعود ليصبح أول سفير في تاريخ الكويت بعد استقلالها، ودخل بهذا في التاريخ السياسي الحديث للكويت، وكان له مساس بقضية استقلال الكويت وانضمامها للجامعة العربية وهو في منصبه الإعلامي، وواصل توثيق علائقه الكويتية انطلاقًا من عمله الدبلوماسي الذي تقارب فيه مع حكام الكويت وشيوخها من آل الصباح، ومع الأسر النجدية هناك. وكان شاهدًا معاصرًا لمحاولة عبدالكريم قاسم احتلال الكويت، وموقف المملكة الشجاع منه، وراصدًا لآثار انفصام عرى الوحدة المصرية السورية، وراويًا لمتانة العلاقات بين المملكة والكويت؛ فحين طلب الشيخ عبدالله السالم السماح لبعثة كويتية تبحث عن الماء بالدخول إلى الأراضي السعودية الحدودية؛ أجابه الملك سعود بالإذن لهم ولو وصلوا إلى الرياض!

عقب ذلك أسند إليه الملك فيصل ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء مسؤولية وزارة الإعلام عام (1382)، وهي وزارة جديدة تحتاج إلى تأسيس إداري وتنظيمي وهيكلي بالموارد البشرية والمادية والفنية؛ فنهض بها الحجيلان فيما يخصّ التحول من صحافة الأفراد إلى المؤسسات، والتوسع الإذاعي، وافتتاح التلفزيون، وفي جميع هذه الأعمال واجهته مشاق ومعارضات من مصلحين أو غيرهم. وخلال هذه الحقبة أعلن الحجيلان للشعب السعودي خبر انتقال الحكم من سعود إلى فيصل، وفي سياق الخبر سرد لنا مشاعر فياضة تشبه الأمواج المتلاطمة، وأبلغ الملك فيصل وإخوانه عن وفاة الملك سعود بعزف حزين من قلم وزيرنا، وكان شاهد عيان على نبل الملك فيصل مع الرئيس عبدالناصر بعد هزيمته من الجيش الإسرائيلي عام (1967م)، ومتابعًا لموقف المملكة من حرب عام (1973م)، وختم علاقته المباشرة بالعهد الفيصلي وزيرًا للصحة بين عامي (1390-1394) بعدما استعفى، وآثر الرجوع للعمل الدبلوماسي.

فأصبح أول سفير للسعودية في ألمانيا الغربية بعد عقد من المقاطعة، وبلغه هناك خبر استشهاد الملك فيصل، ومبايعة الملك خالد بالملك؛ وكانت تلك اللحظات من المواضع التي انسابت فيها أحزان الحجيلان بلا مواربة على رحيل ملك يراه بعين الإجلال والتوقير والمنّة والأبوة. وبعد سنتين صار الشيخ جميل سفيرًا للسعودية في باريس، وعندما انتخب “ميتران” رئيسًا لفرنسا، ورغبت الرئاسة الفرنسية بأن يزور الملك خالد فرنسا إذ كان آنذاك يقضي إجازته قريبًا منها؛ رتب الحجيلان تلك الزيارة، ونجح بإقناع المراسم الفرنسية بأن يستقبل الزعيم الفرنسي الزعيم السعودي في المطار خلافًا للمعتاد.

وفيما بعد، واستشعارًا من الملك خالد لكفاءة سفيره في فرنسا، رأى أن يعينه مندوبًا دائمًا للمملكة في هيئة الأمم المتحدة بعد وفاة المندوب الأول البارودي، وهو الأمر الذي لم يرغب به الحجيلان، فتدخل الأميران -الملكان- فهد وسلمان، وأقنعا الملك خالد بضرورة بقاء هذا السفير المتألق في فرنسا وهو ماكان. ومن إعجاب الملك فهد بأداء الحجيلان أن طلب إليه عبر وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل أن يطلع باقي السفراء السعوديين في الدول الأوروبية على تجربته في بناء علاقات وثيقة مع مجتمع الإعلام والسياسة في فرنسا، وكان الملك فهد مغتبطًا بمتابعات الحجيلان، وتفاعله، وعلاجه لمشكلات سوء التفاهم، وتعاونه مع الجالية المسلمة لبناء مركز إسلامي لهم.

وفي سنوات باريس العشرين أقيم معرض الرياض بين الأمس واليوم، وتجاوز السفير المستحيل عرفًا بإقناع حكومة فرنسا أن تستضيف المعرض في قصر الثقافة الكبير، وقد افتتحه الأمير -الملك- سلمان، وحضرته حشود ضخمة من الجمهور الفرنسي والمقيمين فيها، وزاره كبار رجالات الدولة. وخلال هذه السنوات لفت الحجيلان نظر أحد كبار المؤرخين الفرنسيين إلى شخصية الملك عبدالعزيز؛ وأوجد لديه الحماسة ليكتب لأهل لغته تعريفًا عن أحد أبطال الشرق والقرن، ففعل الفرنسي بنجاح في مادة توثيقية مرئية بعد زيارة مزدحمة بالأعمال إلى الرياض، وشارك خلالها في أحد مجالس الأمير -الملك- سلمان.

كما رشح الملك فهد الشيخ جميل ليصبح الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي ابتداء من شهر أبريل عام (1996م)، مع وجود منافسة ومسابقة للمنصب من قطر. وعمل الأمين البارع خلال ست سنوات قريبًا من الملك عبدالله إبان ولايته للعهد، وإدارته لملفات من السياسة الداخلية والخارجية السعودية، وارتبط الحجيلان بعلاقات متينة مع زعماء دول الخليج، وبمشروعات عمل ومتابعة دؤوبة مع عدد غير قليل من وزراء الخارجية، والداخلية، والمال، والعدل ،والإعلام.

وعندما أراد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في مستهل عهده استقبال عدد من قدامي الوزراء في المملكة، ظهرت صورة الشيخ جميل يتقدمهم إلى مجلس الملك البصير بالدولة، وتاريخها، ومسيرتها الإدارية، ورجالاتها. وجلس الشيخ جميل في أقرب مكان من الملك، ومن الموافقات أن الملك والوزير دخلا إلى العمل الحكومي المستمر في المناصب العالية معًا في عام (1382)، وإن كان للملك تاريخ من العمل الحكومي الرفيع قبل ذلك الزمان وإلى يومنا. ومن اللطائف أن الشيخ جميل ابتدأ أعماله الملكية مترجمًا، وانتهى وزيرًا سفيرًا أمينًا عامًا.

هذا ما لفت نظري من ناحية علاقة صاحب السيرة المباشرة مع سبعة ملوك من زعماء بلادنا رعاها الله وصانها، مع العلم أن سيرة الشيخ جميل الحجيلان تزدان بعدد من الصور التاريخية مع الملوك والأمراء والزعماء، ومنها الصورة الجميلة لاستقبال الملك عبدالعزيز لضيفه الوزير الإسباني، وجميع الصور المرتبطة بالأعمال المشار إليها آنفًا. وإن سيرة الشيخ الجليل أبي عماد لسيرة فيها من ملامح الإدارة، والفكر، والدبلوماسية، والوطنية، الكثير الكثير، هذا غير ما يكسوها من رائق البيان والأدب، وعميق الثقافة والتحليل؛ ولأجل هذا فلا يستغرب الكتابة المتوالية عنها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 15 من شهرِ ربيع الأول عام 1445

30 من شهر سبتمبر عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

  1. شهدت الشواهد على صدق مقالك، ولو سكتنا عن شكرك كاتبنا المتميز لنطقت المآثر في كل كلمة تكتبها بمدونتك، أبلغ المقالات حينما اقرأ كل ما تكتبه عن شخصية او رمز من الوجهاء، لأنك تكتب بعبارات إيجاز واستيفاء، بألفاظ من رقتها وجمالها كأنها كتبت بحب شديد في نحر الهوى، تصف لنا بكل اخلاص ووفاء وفخر واعتزاز عن شخصيات لم ندركها يومًا ولم نعرفها إلا حين كان يراعك هو نقطة الوصل لجيلنا الذي قصر حظه عن إدراك معرفة العظماء امثال الشيخ الحجيلان!
    بعد هذه المقالة لا أخفيك أني أصبت بشغف شديد للبحث عن كل ما يخص هذه الشخصية المتفردة، وصدقًا يقال أن الحجيلان من شرف كريم، أصله راسخ وفرعه شامخ، وله تاريخ في المجد عزيز ومهاب، وما أتته كل تلك المحاسن إلا من نباهة ونزاهة، طاب عوده في شبابه وفي كبره، كدوحة غناء بالمكارم والعلم والفضل سمق فرعها، وطاب عودها، وتفيأ الجميع من “جميل” ظلالها!
    حفظه الله وأمد الله بعمره، وبشوق لصدور سيرته ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)