سير وأعلام

عبدالمجيد: أمير مدائن القداسة والتاريخ

عبدالمجيد: أمير مدائن القداسة والتاريخ

هو الابن الرابع والثلاثون للملك المؤسس عبدالعزيز، وفيما أعلم فهو أول من حمل هذا الاسم الفخم في أسرته الملكية، ويبدو أن الملك عبدالعزيز قد اقتبس بعض الأسماء من أسر حكم عاصرها، ولم يحل دون ذلك وجود خلاف سابق أو منازعة قديمة معهم، وهذا مما يؤكد عظمة المؤسس، وارتفاعه عن صغائر الأمور. وفيما بعد شاع اسم عبدالمجيد داخل الأسرة الحاكمة، فأطلقه الملك سعود على أحد أنجاله، وسمى به الأمير عبدالإله -شقيق الأمير عبدالمجيد- نجله البارز، واختاره الأمير سلطان ليكون اسمًا لأصغر أولاده سنًا، وبالمناسبة فالأمير عبدالمجيد بن سلطان هو أصغر أحفاد المؤسس من الأبناء سنًا، وأصغر الحفيدات من البنات سنًا هي الأميرة نورة بنت عبدالإله شقيقة الأمير عبدالمجيد بن عبدالإله -رحم الله الراحلين وحفظ الباقين-.

تلقى الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز (1361-1428=1942-2007م) تعليمه داخل المملكة وخارجها، وفيما بعد أصبح أميرًا على تبوك عام (1400)، وفي عام (1406) خلف أخاه وابن خالته الأمير عبدالمحسن على إمارة المدينة النبوية عقب وفاته، وفي عام (1420) عين أميرًا على مكة، وبالتالي فهو الوحيد من أمراء البيت السعودي الذي صار أميرًا على المدينتين المقدستين، وزاد على ذلك عندما دخلت تحت إمارته مدن تاريخية مثل: تبوك، وبدر، والعلا، وجدة، والطائف، وغيرها، ودامت إمارته قريبًا من ثلاثين عامًا.

اشتهر عن الأمير عبدالمجيد جديته الصارمة في العمل، وإشرافه عليه بنفسه، ومزجه بين العمل الرسمي، والعمل التطوعي، مع تشجيع رجال الأعمال في منطقته على التجارة، وفتح المنافذ لهم، وتسهيل السبل، ولأجل ذلك المسلك لم تغب عن حكمته الفرص الزراعية التي تختص بها منطقة تبوك؛ فنشأت تحت إدارته أعمال ومشروعات زراعية، ومثلها في المدينة ومكة على التوالي، هذا غير الأعمال التنموية والتنظيمية التي نشط لها إبان إمارته، حتى أن عددًا من المشروعات العملاقة ابتدأ بها، أو خطط لها، ثمّ جاء بعده من خلفه من الأمراء الكرام فأكملها وأضاف عليها مما وفقهم الله إليه من أعمال ومنجزات، وهذا من محاسن السابق واللاحق.

أما العمل المجتمعي والخيري فسمة تتصل بعبدالمجيد أينما حلّ، ولأجل ذلك ارتبطت بالأمير الموفق أوليات اجتماعية وخيرية، وأفكار تطوعية، ومشروعات وقفية، ويشهد العمل المجتمعي والتطوعي في هذه المناطق الثلاث على المساعي الحميدة لأبي فيصل، ومن أمثلتها مراكز الأحياء، وأوقاف كبرى على الجامعات وعيون الماء والمكتبات وغيرها، ومساندة مؤسسات الأيتام، واجتهد لاسترجاع أموال الأوقاف من البنك المركزي، وقال للجان الاستثمار: دونكم هذا المال لاستثماره بما يحقق الغبطة للوقف، وقد كان العمل المجتمعي أحد أسباب معرفة الأمير بذوي الكفاءة والهمة والأمانة، وبأصحاب التخصصات المتنوعة. ومن أعماله إنشاء مراكز الأبحاث التي تخدم المدن المقدسة، مع صرف الجهد والوقت لخدمة الحجيج لأزيد من عشرين عامًا، والعناية بالحرمين الشريفين وأئمتهما، حتى أنه سأل إمامًا حديث التعيين في المسجد النبوي عن تأخره في الحضور للمدينة عقب تسميته إمامًا، مما يدل على حرص الأمير ومتابعته، فقال الإمام: إنه كان مرافقًا لولد له في المستشفى.

هذا غير شفاعته الشخصية لكل من بلغه خبره من ذوي الحاجة، أو قصده طالبًا منه العون والمساعدة، وإن السعي في حوائج المساكين والملهوفين من قبل ذوي القدرة لعظيم الأجر عند الرب الغفور، فخير الخلق أنفعهم لعباد الله، وقد أعانه على تكرار صنائع المعروف تجاوب ولاة الأمر والديوان الملكي مع مقترحات الأمير عبدالمجيد وشفاعاته، وفي بعض الأحوال العاجلة يتكفل بعلاج السائل، أو قضاء دينه من أمواله الخاصة.

ومن أخبار الأمير عبدالمجيد أنه فتح مجلسه للناس عامتهم وخاصتهم، وأظهر ابتهاجه بسماع الأخبار الفريدة المستطرفة، والتزامه بالاستماع بإنصات لمن تحدث معه، وإن مجالس الحكم في المملكة لتجربة رائدة يحتفى بها، وقد جعلها الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود موضوعًا لدراسته العليا، وصدرت هذه الدراسة في كتاب قدّم له خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -متعه الله بالصحة والعافية وأمده بعونه وتوفيقه-. ومن تداخل الأمير مع المجتمع زيارته لوجوه الناس في منازلهم، والمشاركة مع الأندية الرياضية والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، ورعايته للاحتفالات الموسمية. وقد قادته قدراته الرياضية إلى التعامل بمهارة مع سيف العرضة، ومزمار الأهازيج الشعبية، ومكنته روحه الشابة من مخاطبة الجمهور الرياضي واللاعبين بما يهمهم ويفهمونه.

ولأن الأمير عبدالمجيد بهذا الأفق الواسع، والقبول الأصيل للحوار، والاستعداد الكبير للسماع، أحال له مدير مكتبه في إمارة المدينة النبوية اتصالًا هاتفيًا من فتاة صغيرة أصرت على محادثة الأمير، وخلاصة القصة أنها قالت للأمير: أنت حاكم للمدينة مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم، واقترحت عليه بعض الأمور التي فيها مزيد تعظيم لطيبة الطيبة، ولم يزد الأمير على أن كرر الاستغفار توقيرًا لمقام النبي، ووعد بصنع أيّ خير يقوى عليه، ويخدم المدينة، وختم بشكر الفتاة المتصلة، ثم سأل عن اسمها وهاتف والدها شاكرًا إياه على حسن التربية.

كما أن للأمير قصة تفاعل ثقافي مع مقال كتبه الأستاذ خالد السليمان أحد أبرز كتّاب الأعمدة الصحفية في المملكة والخليج، وتصرف الأمير متسق مع شخصيته الصارمة، وأسلوبه العملي المتجه صوب الأثر والنتيجة، إذ أبدى الأمير للكاتب انزعاجه من النفاق الذي يجري على ألسنة بعض الناس وأقلامهم، فلم يفوت الكاتب النبيه الفرصة، واهتبلها مقترحًا على الأمير أن يكتب رأيه وينشره على الملأ، وهو ماكان مما زاد من رواج المقالين، علمًا أن ضجر الملوك والأمراء والمسؤولين الكبار من المداحين، والكاذبين، سمة تكاد أن تكون عامة، وربما أنشط يومًا لجمع مادة فيها، والله يكفينا شر أولئك القوم؛ وليتهم أن يعلموا أن ما يرجونه لا يتحقق بما يصدر منهم من غثاء وغثاثة!

هذا هو الأمير المنجز عبدالمجيد بن عبدالعزيز، الذي استقبله في مطار قاعدة الرياض الجوية الملك عبدالله وولي عهده الأمير سلطان، وكبار أمراء الأسرة الملكية، وهو نوع من الاستقبال النادر، ثمّ شاء الله أن يستقبلوه بأنفسهم مرة أخرى في المكان ذاته، ولكن محمولًا على الأكتاف لا ماشيًا على سلّم الطائرة، بعد أن أراد الله أن يقبض إليه روحه، والله يرحمه وجميع الراحلين من المسلمين، ويبارك على ذريته الباقية المتسلسلة من نجله الوحيد الأمير فيصل بن عبدالمجيد، والله أسأل أن يجعل في صالح عمله القدوة وجميل الأثر، فقد شُهد له بمكارم ومآثر ومفاخر، منها ما سبق، وأنه يوصي أيّ أمير يخلفه على إمارة المنطقة بما ينفعه في أداء مهامه الجسام، وبما يخدم البلاد وأناسها، ويحقق مطلوب ولاتها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 12 من شهرِ محرم عام 1446

18 من شهر يوليو عام 2024م

Please follow and like us:

6 Comments

  1. حين اطلعت على هذه المقالة كنت بمناسبة تعج بالصخب واللجج، ولولا أنها من الوصل والرحم لفضلت الهدؤ على الحضور، لكن كعادة مقالاتك تأخذني من الجميع إلا إليك، لا تفارقني الدهشة والإعجاب، فلك كاتبنا القدير الفضائل و الفواضل لجمال ما كتبته، ولك الشكر والثناء لحسن أدبك وبديع نقلك، مقالة في غاية الحصافة والمعرفة، ولا عجب أنك فارس هذا الميدان في كتاباتك وانتقائية معلوماتك عن السير الغيرية، فلسان فصاحتك يصافح بيان معانيك، كتبت ثم أوفيت وأجزلت عن هذه الشخصية النبيلة لسمو الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز غفر الله له، الذي اجتمعت فيه مكارم الأخلاق والشيم، جليل الفضل سليل الاكارم، واستحثتني مقالتك للبحث عنه والقراءة بعمق عن مآثره..ليس فقط عنه بل حتى عن تاريخ رموز مملكتنا. شكرًا لهذه المقالات العاطرة الفاخرة التي تفوح بسير النبلاء ..

  2. حديثكم عن الأمير عبدالمجيد يسر الخاطر وطريقة كتابتكم طريقة مميزة ليست سردية وإنما استيعاب وفهم للشخصية ثم التعبير بما يناسب الحال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)