الشيخ صالح الحصين وقمم أربع!
شاعت عن الشيخ الجليل غزير المعالي صالح بن عبدالرحمن الحصين (1351-1434=1932-2013م) خصال كريمة شامخة يستحقها من الزهد والترفع عن الدنيا، والانغماس في العمل الخيري والدعوي، والانكباب على العلم والقراءة. فمما يُروى عنه أنه اعتذر من الملك عبدالله عن إمامة الصلاة؛ لأنه يحمل فوق ظهره أثقال سبعين سنة، وسمعت من رجل قابله فطلب منه الدعاء فجلس الشيخ على الأرض ينتحب أن يُطلب منه الدعاء وهو بنفسه أبصر! وكان أبو عبدالله حاضرًا ومؤثرًا في مجالس مؤسسات خيرية كبرى، ومنهمكًا في المعرفة وسبلها، وربما أن جلّ ما هو متداول عن الشيخ عبر المحاضرات والمقالات والكتب لا يكاد أن يخرج كثيرًا عن هذه المعاني البديعة، والحقول الرفيعة، التي نحتاجها بل وتتزايد الحاجة لها كلما تقادم الزمان، والله يغفر له ويرحمه وجميع موتى المسلمين.
بيد أن شيخنا الذكي الزكي ليس محصورًا بهذه الأبواب على أهميتها وفائدتها وعلو كعبه فيها فلا يكاد أن يُدانى، فللشيخ صالح مزايا أخر، ومناقب ظاهرة حتى لو لم يتناقل أكثر الناس أخبارها. فهو -مثلًا- فقيه صاحب نظرات مستقلة في الفقه والفتيا، والاجتهاد، وشؤون الاقتصاد والمجتمع، ومسائل السياسة الشرعية، وفقه النوازل بعد إحكام تصورها وتكييفها. وقد عمل عضوًا في لجان شرعية بالمصارف، وعضوًا في هيئة كبار العلماء بالمملكة، وفي مجالس ولجان يعرض لبعضها موضوعات لا مناص فيها من فتوى وحكم، وهذا باب من العلم المهم ينادي على من يبحث فيه وينقب بعد الحصر؛ كي يستخرج معالم منهج الشيخ فقيهًا ومفتيًا، مع أمثلة على فتاويه واجتهاداته، وسيجد الباحث في متونها ما يؤكد على بقاء الاجتهاد، وعظم أثر العلماء الربانيين.
كما أن الشيخ إداري جلد ناجح، وسيرته الإدارية فيهما قسمان كبيران: الأول تأسيس وإدارة، والثاني إدارة وتجديد، فمن القسم الأول عمله في شعبة الخبراء التي أصبحت فيما بعد هيئة الخبراء، ورئاسته لهيئة التأديب التي كان الشيخ يصفها بهيئة الرحمة؛ لأن الرحمة مطلب يشمل التأديب وزيادة، وتعمّ الرحمة ببركاتها المجتمع والحكومة والموظف. ومنها تأسيس الصندوق العقاري، ورئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وإدارة مركز الملك عبدالعزيز للحوار، والمشاركة في إنشاء مؤسسات خيرية أو عضوية مجالسها، وهذه الأعمال بعضها من تأسيس الشيخ، أو أنها موجودة قبله لكن شيخنا زاد من فعالية الجهاز وإنجازه، أو أداره بتجديد وإبداع، وما أحرى هذه الإدارة المشيخية الفذة بالإبراز.
فمن منهج الشيخ الإداري أنه حينما كتب نظام الصندوق العقاري وإجراءاته حرص على أمرين قلّما يجتمعان إلّا بتوفيق رباني، وهما: إحكام النظام لمنع الفساد أو تقديم المصالح الخاصة والفئوية، وابتعاد تطبيقات هذا النظام العملية عن التعقيدات لتسهيل إفادة الناس منه؛ إذ الحاجة لمنافعه عامة وضرورية ولا تحتمل التأخير، فمزج القانون بالإدارة لإنتاج نظام متماسك مفيد. ومن ملامح منهج الشيخ في الإدارة أنه لم يسارع إلى تغيير المسؤولين والقيادات الذين كانوا مع سابقيه، وإنما اجتهد في تغيير طرائق التفكير، وأساليب العمل، والتيقظ للفرص والعوائق القائمة والمتوقعة، وإعادة بث الروح السامية، وزرع النظرة المصلحية العليا في طواقم العمل.
ومما يلفت الانتباه عدد من الصور والأخبار المنتشرة للشيخ وعنه وهو يجلس مع عمال في مراتب إدارية دنيا، أو يركب في وسائل عامة، أو يمشي منفردًا، أو يحمل وجبة الطعام للموظفين في مكاتبهم، وهي وإن كانت تشير إلى تخففه من زينة الدنيا، وتجافيه عن أثقال المراسم، وانصرافه عن وهج المناصب، إلّا أن فيها حسًا إداريًا دقيقًا حين يشتبك المسؤول الأعلى مع الخدمة المقدمة للمستفيد النهائي مباشرة، ويلتقي بصغار العاملين دون وسيط، ويالها من حقائق ناصعة تتبدى للراعي والمسؤول، فلا يحتاج معها لبيان أو تقرير إداري مزوق! ولأجلها -على سبيل المثال- كان الشيخ يولي عناية فائقة لتسهيل مسارات الحركة والمخارج في الحرمين، وتأمين السلامة للمصلين والطائفين في مدخلهم ومخرجهم.
كذلك من جوانب الشيخ التي لم تأخذ حقها من الدراسة والبحث، جهوده القانونية، فقد ركز الكرام في الحديث عنه على دراسته القانون في مصر، ونقاشاته مع العلامة السنهوري، وإجادته اللغة الفرنسية والإنجليزية للاطلاع على مالدى الآخرين في هذا المجال المهم والحيوي. لكن موقف الشيخ المتوازن والعملي من مسألة التقنين، وآراؤه الناضجة حولها، لم تنل حظها من البيان. ومثلها سلوك الشيخ التشريعي سواء في صناعة التشريع أو صياغته؛ علمًا أن مشاركات الشيخ في هذا المضمار قديمة منذ كان موظفًا في وزارة المالية، ومستمرة إلى قبيل وفاته، وله حضور حتى في الأنظمة الأساسية التي تفاخر بها المملكة بلاد الدنيا، ومن أرقى خلاصات طريقة شيخنا القانونية الإفادة من القوانين الأخرى دون الخضوع لها، والتسامي بنصوص الشرع، والتفاخر بمخرجات الفقه الإسلامي، والاتساق مع ثقافة البلد.
لذلك فمن بديع تطبيقات الشيخ الحصين الجليّة في عمله القانوني أنه ينطلق من الوحي الشريف المقدس الذي لا يحقّ أن يُحاكم، ولا تجوز الجرأة عليه، ولا خِيَرة فيه لأحد، ويعتمد الشيخ أيضًا على الفقه الإسلامي الذي هو نتاج اجتهاد بشري قابل لأكثر من احتمال ورأي، ثمّ يستفيد من التجارب القانونية في طريقة الصياغة والتقسيم والتقعيد؛ فأفقه واسع في هذا الميدان مثلما هو واسع في ميادين أخرى، لكنها سعة منضبطة بأطر ومسلمات وقواعد محكمة، وبالتالي فلا تذهب هذه السعة بصاحبها بعيدًا، ولا تجنح به عن الصراط المستقيم والدرب القويم، ومن دعواته المتكررة التأكيد على تطوير الصناعة الفقهية حتى يبقى الفقه الإسلامي قادرًا على ملء الفراغ دائمًا.
وللشيخ إعمال مهيب للسياسة الشرعية، والقانون ومقتضياته، وابتغاء المصلحة ولوازمها، والانتباه للضرورة بقدرها، ويستبين ذلك في مخاطبة الزعماء والمسؤولين والمؤتمرات، والكتابة لهم حول شؤون العدل، والحفاظ على المال العام، وصيانة الأوقاف، وتقوى الله في الرعية والبلاد، والاهتمام بالأسرة والمرأة،؛ ولذلك فما أجدر الباحث الملهم بتتبع منهج الشيخ صالح الحصين القانوني واالإصلاحي، وسيجده في كثير من كلماته الافتتاحية، وسجل مراسلاته إن وجد، وسيصبح المسارع لذلك ذو حظ عظيم، فهو سيكون حتمًا إما فوق قمة جبل باسقة، أو وسط روض خصيب بهيج، مع منهجية متينة فيها العلم والحلم والحكمة، وتقديم المصلحة العامة والعليا، وتقدير منازل الناس ومناصبهم، وإبراء الذمة والإعذار للعزيز العليم القدير.
ثمّ نأتي إلى السمة الرابعة للشيخ صالح الحصين، وهي أحسن حظًا مما سبقها، فقد تحدث بعض الفضلاء عن الشيخ صالح الحصين مفكرًا، ومع ذلك فإن تراث الشيخ الفكري، وهو تراث عريض ضخم، يحتاج بعد الجمع التام إلى إجراء دراسة فكرية عميقة عن الشيخ من الناحية الفكرية، وبيان موارده وأسسه وأفكاره المركزية، وهي شأن عجاب، وفتح كبّار، فنظرته للحضارة الإسلامية، وللعلاقة مع الغرب، وللاعتدال، وللوطنية، ولشؤون المرأة، والحج، والحقوق العامة، وسياسة الحكم، يختلط فيها الشيخ الفقيه، مع الفقيه القانوني، مع عالم الاجتماع وأستاذ الفكر، وما أسعد من يقول أنا جاهز لتجليتها وبيانها.
وسيجد من سمات الشيخ الفكرية ذلكم التكوين المبكر والمتنوع، مع الذكاء والحافظة، والتفوق اللغوي والذهني، ورفضه التسليم المطلق لغير الوحي، وإعمال النقد دون أن يكون غاية في ذاته. وسوف يلاحظ أن الشيخ لا يقف بخشوع حقيقي أو متصنع أمام الشائع من المقولات البشرية والأفكار والأحكام أيًا كان قائلها أو المنسوبة إليه. ولأجل ذلك امتاز الشيخ بفرادة فكرية لافتة، وصدرت عنه مقولات لو جمعت وأعيد نشرها بصور حديثة لانتشرت مع مشرق الشمس، وربما ترجمت وتناقلتها الشعوب على أنها كلمات سعودية عربية إسلامية ذات دلالة رشيدة ووقع حميد، ومنها -بما معناه- ثناؤه على قاعدة تريح النفس مختصِرًا إياها إلى قوله: “كن كما أنت”، وجزمه الواثق بأن “الغلو في فكرة وتطبيقاتها سوف يجني على الفكرة نفسها”، ولو تفرغ لكلماته الموجزة العميقة موفق همام لجاء بمجموع مفيد، وفرائد تنفع الناشئة والشداة فمن فوقهم.
هذا هو الشيخ صالح الحصين الصادق مع ربه -أحسبه-، ولذلك طلب من نجله د.عبدالله ألّا يوافق على وضع أجهزة تنفس صناعي عليه لو قرر الأطباء ذلك، ورفضه هذا الإجراء الطبي ليس لأنه يفتي بحرمته؛ وإنما تحرزًا من تكذيب نفسه المشتاقة للقاء مولاها مع أنه شعور في مكنونه لم يبح به لإنسان ربما! وهو الشيخ الذي كتب مستعفيًا من المناصب عدة مرات مع عدة ملوك، بحجج منها أن الذمة به لا تبرأ، وهو الذي لا يأنف من الإعلان بأن والدته تستغرب من تعيين مثله وزيرًا! مع أنه والحقُّ يقال رجل دولة عزيز المثيل نادر النظير، والذمة باختياره بريئة.
ثمّ هذا هو الشيخ صالح الحصين الذي يقر بخطئه إذا لم تنجح فكرته أو مشروعه، لكنه يفر من نسبة أي مشروع ناجح لنفسه -مع أنه صاحب فكرته- فرار البشر من كواسر الوحش. وهو الرجل الذي أجاد لغتين فلم يخبر القاصي والداني بذلك مثلما يفعل غيره، وعندما اضطر لاستخدامها تعجب مرافقوه من تلك الإجادة وذلكم الصمت عن التباهي بها؛ فقال: “أنا لا أتكلم بغير العربية إلا عند الحاجة وعلى قدر الحاجة”.
وهو الشيخ الذي قادته عناية الرب العزيز العليم إلى الزهد والعمق والقوة والجدية؛ فكان منه ماكان، وما أحرى هذا الذي كان، بمن يعزم على رشد، ويمضي بخير سبيل لدراسته والتأليف فيه، فمن سيفعل! ومن سيخبرنا أن الشيخ تسامى كثيرًا؛ فأسقط نفسه وحقوقها أمام الآخرين وحقوقهم، وما أصعبها من مرتبة، وأعسرها على النفس من سمة. والأجلّ والأكبر منها، أنه زاد من مستوى التسامي إلى درجات عليّة من التأله والتعبّد بإحسان، حينما أسقط الآخرين وحقوقهم أمام مقام الرب الكبير سبحانه، وعند أوامر الإله الحكيم ونواهيه عز وجلّ، وتلك التي لايقدر عليها من الخلائق إلّا قلّة من الأئمة الهداة، وقلّة من أولي المبادئ الصادقة التي لا مساومة عليها، وقلّة من المخلصين المحبين لأوطانهم وأقوامهم.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 06 من شهرِ رمضان عام 1445
16 من شهر مارس عام 2024م
7 Comments
رحمه الله وجمعكم به في علييين
رائع حبيبنا
فأنتم خير من يكتب لخير من يكتب عنه
نفع الله بكم أخي
اللهم اغفر له وارحمه واسكنه فسيح جناتك بل الفردوس الأعلى من الجنة يارب.
وجزاك الله خيرا على هذه الترجمة
كم اجدت وأصبت فأفدت بوركت ، نحن بحاجة كبيرة الى ابراز مفكرينا وفكرهم وعلمهم من العلماء او السياسيين المفكرين ، وقد تم بحمدالله نشر الموسوعة الشاملة عن الشيخ الحصين رحمه الله، وكتاب رؤى تأصيلية في طريق الحرية ،،، وكتب أخرى تتناول شخصية الحصين من زوايا متعددة ،،، لكن لا زالت المكتبة العربية بحاجة جدا إلى استثمار كلمات وأفكار وأقوال الشيخ صالح وأمثاله في عصرٍ تزاحمت فيه الأفكار وتلاطمت فيه امواج العلم والمعرفة بعيداً عن الثوابت، فجزاك الله خيرا وبارك فيك.
جزاك الله خير ، النوافذ العلمية والفكرية كثيرة لشيخنا رحمه الله ، ومثلك وغيرك يستطيع ان يبدع بالكتابة عنه لثراء المعرفة لديه.
رحمه الله رحمة واسعه .. الحديث عن هذه القامة لا يُمل ، شخصية نادرة فعلاً .. نسال الله سبحانه ان يكثر من امثاله و ان يبارك في عقبه و ان يصلح اوضاعنا و يحفظ بلادنا و شعبها و علماءها و قيادتها 🤲🇸🇦
شخصية نادرة في الزهد والتواضع والوقار.
رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته.
رحمه الله