صالح آل الشيخ: العالم ورجل الدولة الكبير!
هل فكرت بشعور من يصعدون إلى قمم الجبال قبل الإقدام على الخطوة الأولى؟ وهل تأملت في حال الغواصين لحظة اندفاعهم إلى أعماق البحار؟ إذا لم تكن قد فعلت فحاول، أو قس الحال على نفسك حينما تعالج أمرًا يجمع المشقة والإشفاق من التبعة، فربما تتضح لك حقيقة ما يجده أولئك القوم من هواجس وموانع. وأشهدكم بأنه أمر مهيب واجهته عند العزم على الكتابة عن شخصيات وسير أعلام، إذ تشبه الكتابة عنهم الصعود إلى مرتفع يستوجب جمع الأنفاس، وتحاكي الغوص في لجة المياه الذي يستلزم كتم الأنفاس! وفي كلا الأمرين عسى أن يبلغ المرء القمة لرؤية الصورة كاملة، أو يصل للقاع بما فيه من جواهر وأسرار.
وإليكم نموذج من تلكم السير، فالحديث عن صاحب الفضائل والمعالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب يجمع الكثير من معالي المعاني، والأكيد من فضائل الأحوال ظاهرها وباطنها، وهذا من عظيم نعمة المولى على عبده حينما يجعله وسيرته من الشواهد الثابتة الصادقة على هاتيك المكارم والمناقب للعصر والبيئة والبقاع وأهلها؛ فلا يقوى أحد على إنكارها؛ وهل ينكر إشراقة الشمس عاقل؟ ولا يمكن أن ينجح شيء في صرفها عن وجهها، فالماء لا ينبغي له إلّا حفظ الحياة واستدامتها.
إن الشيخ صالح سليل أسرة علمية عريقة، حرصت على حمل العلم والذب عنه طيلة ثلاثة قرون وأزيد، وهي من جملة أسر كريمة كبيرة حفظت العراقة في مجتمعنا على اختلاف صنوفها، وعلى رأسها عراقة الحكم في الأسرة الملكية، وعراقة العلم، وعراقة التجارة، وعراقة العمل المجتمعي، إضافة إلى عراقة أخرى في العمل الأسري، والحكومي، والوجاهة المجتمعية، والأدب، والحميد المحبوب من الخلال والأخبار، وهي بمجموعها تشير إلى توافر سمات العراقة في المجتمع السعودي منذ القدم؛ ولا غرو فهو المجتمع المسلم في دينه، العربي في عرقه، الفصيح في لسانه، القوي في بأسه، الكريم في أخلاقه، المتآلف في تكويناته، المتماسك في بنيانه.
لذلك نال الشيخ صالح العلم الشرعي وبلغ فيه مرتبة عالية سمت به إلى مصاف كبار علماء المسلمين في عصره دون أن يضطر للرحلة الطويلة أو الانقطاع عن بلاده لتحقيق هذه الغاية، مع أنه جالس علماء الأمصار إما بزيارتهم، أو باغتنام قدومهم للمملكة. والذي يعنينا من هذا الملمح اللافت أن الرياض عاصمة للعلم الشرعي كما هي عاصمة للقرار السياسي العربي، وعاصمة للاستثمار والاقتصاد، وعاصمة للمعارض والمناسبات، وعاصمة للثقافة والسياحة، وهذه الخصيصة العلمية لعاصمتنا جديرة بالعناية والاستثمار، وإنها لعاصمة جديرة بأن يفرد لها كتاب حافل يقف جنبًا إلى جنب مع ابن عساكر والخطيب البغدادي في كتابيهما عن دمشق وبغداد، وهذا مشروع علمي تاريخي حقيق بمن يتبناه وينهض له بمنهج علمي رزين.
ليس هذا فقط؛ إذ أصبح الشيخ واحدًا من أربعة عشر وزيرًا من المشايخ في تاريخ مجلس الوزراء السعودي الموقر، وهذا الحضور المشيخي نادر في المجالس النظيرة لدى كثير من الدول العربية والإسلامية. وللشيخ صالح خصائص مجلسية بعضها من الفرائد أو النوادر، منها اجتماعه مع عمه وزير العدل السابق الشيخ د.عبدالله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، واجتماعه مع خال أولاده وزير التعليم السابق ووزير الدولة الحالي د.حمد بن محمد بن حمد آل الشيخ. ومنها كذلك أن الشيخ صالح ثاني من أصبح نائبًا لوزير دون احتساب للوزارات العسكرية، وأول نائب وزير يصبح وزيرًا لوزارته من غير الأمراء فيما أعلم، وهو واحد من بضعة عشر وزيرًا أصبحوا أعضاء في المجلس مرتين، منهم سبعة وزراء من غير الأمراء.
وخلال عضوية الشيخ في مجلس الوزراء تنقل في ثلاثة مسميات وزارية أحدها وزير الدولة، وهو المنصب الذي يشغله أعضاء من طراز فريد، ولهم سمات شخصية تؤهلهم له، وأصبح الشيخ عضوًا في مجلس الشؤون السياسية والأمنية منذ تكوينه في مستهل عهد الملك سلمان -حفظه الله-. كما أسندت إليه نيابة وزارة العدل، وتولى رئاسة لجنة خاصة بإنجاز مدونة الأحكام القضائية، وكان خير معين بالنصح والرأي لعدد من الوزراء والمسؤولين مثلما ذكر وزير العمل والشؤون الاجتماعية أ.د.علي النملة، وهو ما كرره رئيس جهاز الإرشاد الديني في الحرس الوطني د.إبراهيم أبو عباة.
وقد امتاز الشيخ بتطبيقات إدارية موفقة يُشهد بها له، منها الذهنية المنظمة والمنطقية، والدقة في المتابعة، والحرص على اتباع الأنظمة المرعية قدر الطاقة، وتحقيق السلامة المالية قدر الوسع، مع فتح الباب للحوار مع فريقه ومراجعيه وشركائه في المجال، حتى لو وجد أيّ اختلاف طبيعي في الرأي معهم، وهذا الفتح المبين يقابله قفل الباب بإحكام أمام أيّ وشاية، ولو كانت بالتعريض والتلميح؛ والغاية تنظيف بيئة العمل من التشاحن والتشاكس، وقطع الطريق على من يحلو له مضغ الأعراض، والتقرب بالوشاية أو البهتان، وما أكثرهم! ومنها الكفّ عن أي تعبير مسيء، فلسان الشيخ عفُّ عذب، ولغته فصيحة تؤدي المعنى المبتغى بلا تجريح، ومكنونه نقي تقي -أحسبه ولا أزكي على الله أحدًا-.
كذلك فمن حسن النظر والتوفيق عند الشيخ، التمييز بين طبقات الناس ومراتبهم في كيفية التعاطي والتفاعل، فالناس بالنسبة لكل إداري وذي منصب إما تابع أو متبوع أو نظير، ولكل مقام مقال، ومن ساوى بينهم فقد البوصلة، وخالف الحكمة والتوجيه الشرعي، وهذا التفريق لا يعني غياب الأصول المركزية في أي تعامل أيًا كان الطرف الآخر، وتشمل هذه الأصول: الصدق والعدل والوضوح وحسن العبارة وثبات الشخصية والمبدأ، وهذا الثبات يمنح للإداري في نظر الآخرين صورة مفهومة تحدد إطاره العام، وتحمي من زوابع المفاجآت.
كما أن الشيخ أجاد في إعمال السياسة الشرعية، وتطبيق الفقه بأحكام الشريعة وقواعدها ومقاصدها، وبدا ذلكم جليًا في صفاته السابغة عليه بالعلم والمنصب؛ فهو رجل دولة ورجل سياسة، لكنه يستند فيهما لقاعدته الشرعية في مقاصدها وأحكامها بلا محيد أو تحايل. وهو عالم شرعي وفقيه كبير، بيد أنه منضبط بأطر سياسية دون أن تطغى عليه. وإن فقه السياسة الشرعية، وفهم أحكام المصالح والضرورات، ومراعاة المقتضى والعرف والحال والمآل، لمما يحتاجه الحاكم والعالم كي يجري أموره وفق مراد الله، وحتى لا يطبَّ زكامًا فيحدث جذامًا، ولو أن أيّ مسؤول وعى أسس هذا الباب من العلم؛ لوقعت جلّ أعماله في باب الاجتهاد المأجور عليه، ولسلم من طغيان جانب على آخر، وكانت تطبيقاته على سنن قويم مصان من الزيغ غالبًا.
واشتهر عن الشيخ صلته الواقعية والوجدانية بالكتاب، والسعي الحثيث للحصول على مطبوعه ومخطوطه ولو بتتبع مضني، وشراء المكتبات والنوادر، وتجليد الكتب أفخم ما يكون التجليد؛ حتى لكأن الكتب لديه عرائس تُكسى بأجمل الحلل. ومن صنيعه المروي بالكتب جمع الكتب الصغيرة في مجلد واحد، وحرصه على عمران الوقت والجلسات بالمفيد، والمسابقة للنفيس والثمين من الكتب، والتدارس مع الأشياخ والقراء ومن ترتجى منهم الفائدة، والإقبال على متين العلم وشوارده بنهمة لا تعرف الشبع، وليس بغريب عقب ذلك أن يكون لدى الشيخ واحدة من أكبر المكتبات الخاصة في المملكة، وربما في العالم العربي، وليس بعجيب حين ينفي الشيخ عن نفسه أي صداقة مع غير الكتاب؛ ولأجل هذا فلن تجد روايات عن الشيخ إلّا لدى المفتونين بالكتب، ولعمركم إنها لفتنة بها للمولى يُتعبّد!
لذلك ترتبط حياة الشيخ وثمار جهوده، ومشروعات عمره بالعلم، والتأليف، واللقيا مع المشايخ والمفتين والجمعيات الإسلامية، وافتتاح الجوامع والمساجد والجمعيات والمؤسسات المرتبطة بحفظ القرآن، ونشر علوم الشريعة، ويسترخص لأجلها نفاسة الوقت، ويستسهل الجهد مهما كان. ويلفت نظره أي شيء يرتبط بهذا الباب، وربما انتبه لكتاب وقلّبه، أو فاتش ذي معرفة فيما يحسنه، فإن للمعرفة والحكمة لذة وقليل من يستطعمها، فقد رأيته في معرض مصاحب لمؤتمر عالمي عقد في مكة، يقف باهتمام، ويسأل بعناية، عند ركن خاص بتعليم الصم البكم وصناعة معجمية خاصة لهم، علمًا أن للشيخ التفات مبارك نحو التقنية واستثمارها علميًا.
ولا يتسارع إليك ظنُّ بأن الشيخ قد حصر نفسه على القراءة في حقول الشريعة مع أنها أهل لذلك وبها المكتفى، ولا تقصر ظنك إذا مددته على علوم الأدب والتاريخ واللغة التي قرأ فيها لسان العرب بناء على نصيحة من العالم الأديب محمود شاكر، ولا تعتقد أن المقصود ينصرف فقط إلى دراسة الهندسة والرياضيات التي شغف بها الشيخ في شبابه الأول، بل إن الشيخ وهو عالم الشريعة، ونجل أسرة العلم المنيفة، وأحد رؤوس المدرسة العلمية السعودية، والمشار إليه بالبنان ضمن علماء العصر، قارئ عميق في الفلسفة الغربية والإسلامية، وليس هذا فقط، بل لديه مكتبة فلسفية كبيرة، وليس هذا فقط، بل يناقش أهل الاختصاص فيها نقاش بصير خبير، ويزين ذلك كله أنه يقرأ دون انبهار أو تبعيه؛ فالوحي عنده يعلو، ويأبى الله أن يكون لشيء تعقيب أو حكم على وحيه المقدس المنزه.
ثمّ إن هذه الحسنات الصالحية قد ازدحمت في مجمع، ومسند، ولها زوائد، وشواهد، وشهود عدول، ورجال ثقات، فكلام الشيخ درر منظومة من العلم المتين، لو جمعت في كتاب كما نطق بها لما احتاجت إلى تحرير مثلما قاله بالمعنى الشيخ د.عبدالكريم الخضير وكفى به حجة. وامتاز الشيخ بقول تظهر عليه سيما التأصيل الشرعي، والضبط العلمي والمنطقي، وقابلية الضم في قواعد مختصرة تمثل خلاصات تجربة، ولباب علم، ونتائج فكر وتقليب رأي، وما أعظم الإنتاج العلمي والفكري الذي يُصاغ في عبارة مختصرة مركزة، أو قاعدة متينة مضطردة؛ فيسهل حفظها وتداولها وتتعاظم منافعها.
وقد أفادته دراسة علوم الحديث في بناء القدرة النقدية المنضبطة، والتبصر بتقييم الرجال، ومعرفة أن الكمالات موزعة، وأن النقص قد استولى على جملة البشر ودنياهم وشؤونهم. ووهبه الله ذهنية متوقدة من أثر تكوينه البيتي والأسري والمسجدي والذاتي؛ فيمكن أن يتفاعل مع أيّ موضوع ولو لم يكن على جدول الأعمال المعلن مسبقًا، إذ أعانته سنوات النشأة التي أخذ الكتاب فيها بقوة، على إبداء الرأي في كتب ومواقف ورجال بتوسط واعتدال وميزان.
وهذا حصر لجملة فوائد وتلميحات مما أورده الشيخ في لقاء مفتوح استضيف فيه للحديث عن تجربته العلمية والإدارية، وهو لقاء محفوظ على اليوتيوب لمن أراد العودة إليه، ومنها:
- لا تلازم بين النجاح والكمال.
- النجاح تيسير من الله وموزع بين البشر، وكل إنسان لديه قابلية للنجاح.
- يجب أن يكون النجاح تكامليًا وليس نسخًا متكررة.
- لا نجاح بلا حرص وبعد عن العجز.
- لا تفرط في استعداداتك التي جعلها الله فيك.
- بعض المعطيات لا يصنعها الإنسان بنفسه.
- استثمر ما يمر عليك من أحداث في صياغة تفكيرك.
- لانجاح دون شعور بالتحدي.
- كثرة المثبطين والنقد القوي من أعداء النجاح، وقد يكون النقد ممن حولك!
- كلما حققت هدفًا تساقط أشخاص حولك.
- بعض الأصحاب يجعلونك دائمًا صغيرًا.
- من المهم أن تحترق فيما ينفع لتشرق فيما يفيد.
- عمر الشباب هو زمن البناء والتكوين.
- يموج الناس بأفكار متنوعة ومتغيرة ولابد أن تكون معها فاعلًا لا منفعلًا، صانعًا لا مصنوعًا، مؤثرًا لا متأثرًا، فلا تنساق وتكثر التقلّب.
- الشخصيات المتضادة في الإنسان الواحد تلغيه!
إن سيرة معالي الشيخ صالح آل الشيخ لا تعبر عن شخصه العزيز فقط، ولا ترمز لأسرته العريقة دون غيرها، ولا تقتصر على بلاده المقدسة، فهي وإن كانت تنتمي لأولئك وتشرف بهم وتشرفهم، وتحسن تمثيلهم والتعبير عنهم، إلّا أنها شخصية عالم ووزير ورجل دولة، يتصل بها مسيرة أفذاذ في تاريخنا الإسلامي القديم والمعاصر، وتؤكد على بقاء الخيرية في هذه الأمة، وأن العمل الصالح الرشيد ممكن، وأن الحقّ يحضر وينافس ويدافع، وليس من شأنه الانزواء والابتعاد، ولا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها. وهي سيرة عطرة مثل صاحبها المولع بالبخور والأطياب والعطور، وقد كنا في سنوات جوار سابقة نعرف عبور الشيخ بالشارع، ودخوله للمسجد، من الروائح الزكية التي تسبقه، وتلحقه، وترافقه أينما حلّ!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 03 من شهرِ رمضان المبارك عام 1445
13 من شهر مارس عام 2024م
3 Comments
روعة قلم متين في رجل عظيم
احسنت واجدت وأبدعت أبا مالك
جزاك الله خيرا وبارك فيك
وحفظ شيخنا ومتعنا به
بعض المعطيات لا يصنعها الإنسان بنفسه.