مساءلة التاريخ!
أثناء قراءة النسخة الكاملة الجاهزة للطباعة من سيرة معالي الشيخ جميل الحجيلان، لفت نظري فيها عدد كبير من الموضوعات والأحداث والقصص إبان نشأته ودراسته وعمله الحكومي في مناصب عادية أو عليا، ومن أغزرها المدة التي قضاها في فرنسا سفيرًا لبلاده عقدين من الزمان. وبما أننا في سياق اليوم الوطني الذي ترافق معه انطلاق القناة الثقافية الجديدة، فقد يناسب الإشارة إلى هذه الحكاية، وبيان دلالاتها المهمة والكبيرة.
فقد كان من عادة السفير الحجيلان أن يفتح قنوات اتصال مع رجال الإعلام والفكر والسياسة في البلد الذي يعمل به، وهكذا فعل في فرنسا. وفي يوم سعيد حضر الكاتب والمؤرخ الفرنسي “آلان دوكو” مناسبة غداء في منزل السفير، ورأى صورة الملك عبدالعزيز في إحدى القاعات؛ فقال للسفير: لا يعرف الفرنسيون إلا القليل عن “ابن سعود” هذه الشخصية العظيمة! فاقتنص السفير الفرصة للحديث مع ضيفه عن الملك المؤسس، وانضم إليهما رئيس تحرير صحيفة لوموند “آندريه فونتين” مؤكدًا أنه لا يوجد في الفرنسية عن الملك عبدالعزيز سوى كتاب “جاك بنوا ميشان“، وهو لم يقابل ابن سعود بنفسه، وإنما نقل عن مصادر ومراجع أخرى.
ورشح “فونتين” أن يتولى “دوكو” هذه المهمة الصعبة كونه الأقدر عليها في فرنسا، فلم يتوان السفير عن اغتنام هذا المقترح، وعرض على “دوكو” الفكرة؛ لكنه أبدى عسر الأمر عليه خشية انعدام مصادر لا تنالها الشكوك، وهذا من حرص المؤرخ على الحياد والمصداقية، وعلى سمعته العلمية؛ ولذلك اقترح عليه السفير الاعتماد على ما كتبه فيلبي والريحاني وشكسبير؛ فكلهم ليسوا موضع التهمة لدى الغرب، واستثار الحجيلان بذلك فضول الكاتب الفرنسي حتى ردد كلمة مدهش غير مرة، وبدأ يفكر جديًا في خوض هذه المغامرة والدخول في معترك التحدي.
فواصل السفير الموضوع مع المؤرخ كي لا تفتر همته، وعرض عليه الذهاب بنفسه للرياض، حتى وإن كانت بيئة غريبة على رجل طوى من عمره ستين عامًا، فضحك الكاتب الفرنسي وقال لمحدثه الدبلوماسي السعودي: أوافق إن كان السفير سيرافقني! ولم ينتظر الحجيلان إذ أكد لدوكو أنه سيرافقه، وهذا مالم يتوقعه الكاتب الذي عاود الاتصال بالسفير بعد أسبوع ليستوثق من جدية عرض المرافقة؛ فقال له السفير كي يقطع أي شك لدى الكاتب: بل سنكون في مقعدين متجاورين!
وحينها صرح الكاتب للسفير بأنه يجد حرجًا تجاه أسرته التي تخشى عليه الذهاب لعالم يجهل كل منهما الآخر، بيد أن السفير طمأنه بأنه سيصبح موضع الرعاية والعناية، ولن يطاله سوء البتة، مع خشية في نفس السفير على الوضع الصحي للمؤرخ. وبعد أسبوع اتصل الكاتب مقررًا قبول هذه المهمة التي منحت أعماله تفردًا وتوسعًا عن المحيط الغربي المعتاد عليه في منتجاته التاريخية، وفتحت آفاق الفرنسيين على شخصية لا يعرفون الكثير عنها.
ثمّ وصل الرجلان للرياض في بداية شهر ديسمبر عام 1985م، وأقاما في فندق واحد في غرف غير متباعدة، والكاتب تزداد حماسته لهذا الباب من البحث الجديد عليه، والكتابة الشائقة الجذابة عنه، وفي كل نهار يتنقل الكاتب مع بعثة التلفزيون الفرنسي إلى الرياض والدرعية والمصمك، ويتحدث على العشاء مع السفير عمّا صنع في نهاره، والسفير يلمس من طرف خفي حماسة المؤرخ، وإعجابه. وقد التقى المؤرخ بالأمير -الملك- سلمان، وبالدكتور عبدالله العثيمين المتخصص بالتاريخ السعودي، وجاب الأماكن التاريخية غير مرة، يتلمس فيها ومنها نبض التاريخ وكلمته التي تحفظها ذاكرة المكان، ولا تبوح بها الأمكنة عادة لغير باحث جاد حريص سؤول.
ومن حرص المؤرخ وحدبه أنه لم يكتف بالقراءة، أو السماع، بل مشى على الأرض وتحت السماء في الدرعية والمصمك والمربع ومواضع من صحراء الجزيرة التي شهدت على تلك الملحمة العظيمة خلال ثلث قرن سوف يستوعبها برنامجه المكون من خمس وسبعين دقيقة. كما أفاد الكاتب من محفوظات أرامكو ودارة الملك عبدالعزيز ووزارة الإعلام المرئي منها والمكتوب، واستعان بالحرس الوطني لتصوير الماضي بتوثيق سينمائي باهر فيه الفرسان، والخيول، والجمال، والخيام، والدلال، والقهوة، والنار وغيرها من بيئة صحرائنا الجميلة، وأمضى مع فريقه أسبوعًا كاملًا من العمل المضني الممتع، الشاق الرائق، وكان سعيدًا منبهرًا مأخوذا بما استقر في نفسه، وطوى عليه صدره، واستودعه في ذهنه، وشاكرًا للسفير على المساندة الاستثنائية؛ حتى أنه أخبر سفيرنا الناجح بتردده في الموافقة لولا أن دفعه لهذه المهمة جمع من إعلاميي فرنسا الذين يعرفون السفير السعودي حق المعرفة، وتلك منقبة ظاهرة لسفيرنا.
وكان من مهنية السفير وحذره أنه لم يوح إلى الكاتب المؤرخ بشيء لا من بعيد ولا من قريب؛ كي لا يجرح فيه كبرياء التاريخ، أو يغمز من الاعتداد بالنفس والحرية العلمية، واتكأ السفير في موقفه الحكيم على أن الكاتب مؤرخ جاد، وباحث منصف، وهو يجتهد لكتابة مادة تسجل في تاريخه العلمي، على أن تكون متوافقة مع قناعته ورأيه، وتثري مشاهده الذي يثق به وبأمانته التي يحاذر أي موفق من المساس بها، وهكذا يجب أن ننهج دومًا؛ فنحن لا نخشى من الماضي الذي تشاركنا في سيرورته أمم كثيرة في أزمنة مختلفة.
وفي يوم 18 من شهر يناير عام 1986م أخبر المؤرخ السفير عبر اتصال هاتفي بأن البرنامج سيعرض على القناة الفرنسية الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم 22 من شهر يناير عام 1986م، وسيكون عنوان الحلقة “الملك ابن سعود أو ملحمة الصحراء“، فتحفز السفير للمتابعة، ولاحظ أن “دوكو” كان خلال العرض متحمسًا بالأداء الصوتي المناسب لكل مشهد وحدث، ومتفاعلًا بما يعني أنه عاش معها عيشة المؤرخ الفاحص المستبين، وجعل من شخصية البرنامج حدثًا كبيرًا ينغرس في ذاكرة مشاهديه؛ ولا يكاد أن ينسى.
كما أشاد الكاتب في برنامجه ببراعة الملك العسكرية، وفحولته وإنجابه عددًا كبيرًا من الأبناء، وتوقف عند حوار الملك عبدالعزيز مع الرئيس الأمريكي “روزفلت” في السفينة، ونقل الحوار مترجمًا، وهذه الفقرة كانت منتظرة لدى السفير لما فيها من تجلية منصفة متوقعة من باحث مثل هذا المؤرخ الذي لم يسعه إلّا أن يشهد للملك عبدالعزيز، ويروي مواقفه من قضايا محلية وعربية بما فيها من العزة والاستقلال والحرص على المصالح العربية؛ فخرج الملك البصير من اللقاء بما يستطيعه من المكاسب الفعلية والتاريخية.
وقد ختم المؤرخ الفرنسي برنامجه قائلًا: إنه عند وفاة الملك عبدالعزيز وجدوا في جسده العملاق ثلاثة وأربعين جرحًا بالسيف والرصاص من أثر كفاحه الطويل. هذه هي الحكاية الواردة في السيرة الحجيلانية، وهي عن برنامج تلفزيوني شهري يتناول القضايا الكبرى في التاريخ الإنساني خاصة المثيرة منها للجدل والنقاش. وقد امتاز صاحب البرنامج “آلان دوكو” بحرصه على حماية لغته الفرنسية من التلوث بأي لغة أجنبية، وعلى حماية التاريخ من مزوّريه؛ ولذا يسهب في السرد الجميل كما هو معروف عنه، وكما قرأت في سيرة الكاتب الوزير السفير الجميل.
وعقب عرض البرنامج توالت رسائل الثناء والإطراء والاندهاش تصل للسفير خاصة من الجالية المغاربية المقيمة في فرنسا، ومن الأفارقة المسلمين فيها. وبعد مدة تواصل السفير مع المؤرخ الفرنسي الذي ظلّ أسيرًا لتلك المنة من السفير وبلاده عليه وعلى مسيرته في العمل التاريخي. ويبقى السؤال قائمًا بعد النجاح في مساءلة التاريخ: أين هذا البرنامج عن وسائلنا الثقافية والإعلامية؟ ولم لا يعاد عرضه مترجمًا لنا ولغيرنا من أهل اللغات الأخرى؟ وإن الموفق من سيسبق إليه من هذه الوسائل، ومن نافلة القول أن يرد على الأذهان سؤال آخر مفاده: من سيفعل من السفراء مثلما فعل الحجيلان؟!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأربعاء 12 من شهرِ ربيع الأول عام 1445
27 من شهر سبتمبر عام 2023م
2 Comments
سرد راااائع
وتساؤلات لاهبة 👌
حالة الشغف التي لا تود الانفكاك عني قد لازمتني منذ يومين حين قرأت في مدونتك عن شذرات من سيرة الشيخ ” جميل الحجيلان” ، من يقرأ هذا الموقف سوف يقرأه بطريقة اعتيادية، سفير يؤدي واجب الانتماء الحقيقي تجاه وطنه، لكن من يعيد قراءة المشهد بسرد سياسي يجد أن الحجيلان لم يكن رجلًا عاديًا وإنما استثنائيًا، لقد رسم في هذا الموقف محاولة خلق جو من الإرتباط العاطفي الإيجابي في ذهن الكاتب-المؤرخ دون أن يحاول فرض رسالته، بل سعى السفير لأن يولد لديه شعورا بالدفء والطمأنينة، وخلق جو إيجابي حول الهوية الوطنية السعودية بمصداقية دون أن يرغمه عليها، وهذا يسمى التخطيط الاستراتيجي للسياسة الناعمة، أن تحقق أقصى تأثير من خلال محاولة الاستحواذ على اهتمامهم وتحريك مشاعرهم، بعيدا عن محاولة عرض رسالتك الحقيقية والمباشرة وهي رفع الأفكار المغلوطة عن وطنك، لأنها لن تكون مقبولة للطرف الآخر والذي ينتابه الشك إزاء ثقافتك، لذا الحجيلان أستخدم أسلوب الترويج الناعم لفكره وثقافته وأسلوب الحياة في دولته من خلال جعل المؤرخ يعيش تجربة حقيقية ويشعر بإيقاع العصر ويرى بعينيه، وهذه الاستراتيجية أن تأخذه لما تريد الوصول إليه دون أن يشعر أن لديك مغزى أخلاقي تريد أن تظهره، ويتضح من خلال هذا السرد الملهم أن الحجيلان حقق أهدافه حينما قام بمحاكاة أفكارهم وأعاد صياغتها على أرض الواقع حين جعلهم يخضون التجربة بكل حواسهم، ويعيدون كتابة أفكارهم بأنفسهم دون أن يتدخل “جميلنا” بكلمة واحده منه، والدليل أن المؤرخ يعتقد بأنه هو المسيطر حين اعتقد بأنه سيثني الحجيلان تعجيزا وتحديًا حين قال لمحدثه الدبلوماسي السعودي: أوافق إن كان السفير سيرافقني!
إلا أن الحجيلان كان هو المسيطر الفعلي حين قال للكاتب: بل سنكون في مقعدين متجاورين!
موقف دبلوماسي من الطراز الرفيع العريق؛ يستحق أن يُدرس في الاعلام السياسي بكل اعتزاز!
شكرًا كاتبنا الرائع في سردك لمواقف هذا الرجل النبيل، كم لبثنا في هوّة التفاهات وضاعت سنوات ونحن لم نعرف الحجيلان!