سير وأعلام

صالح العباد: الصارم الصامت!

صالح العباد: الصارم الصامت!

صحيح أن المعلومات المتوافرة لديّ عن رجل الدولة الشيخ صالح بن عباد العباد (1320-1399) أقل مما أتمنى؛ ومع ذلك ففيها دلائل واضحة على سيما الرجل الذي ولد في بلدته عنيزة، ودرس على يد والده، ثمّ في مدرسة الشيخ القرزعي أول محاولة جريئة -حسب علمي- لتطوير التعليم في نجد، وعقب ذلك عمل في الهند مبكرًا بواسطة بلديه الشيخ عبدالله السليمان الحمدان، إلى أن استقر في مكة للعمل في ديوان النائب العام، فغدا قريبًا من الأمير -الملك- فيصل، ورئيس ديوانه الشيخ إبراهيم السليمان العقيل.

فهذه المعلومات على اختصارها تعطينا عدة ملامح عن الشيخ العباد ونشأته، منها أنه ولد في بيت يحب العلم ويقدره، ويجتهد في طلبه ونيله حتى لو نقص المال وزادت تكاليف الحياة وضغوطها، فوالده أحد معلميه، وذهابه المبكر لمدرسة القرزعي يؤكد هذا الاستنتاج، علمًا أنه الوحيد من رجال الدولة الذي أعلم أنه من طلاب هذه المدرسة، خلافًا لمدرسة المربي ابن صالح، ومدرسة الفلاح، فعدد المسؤولين الدارسين فيهما كثير، وفوق كل ذي علم عليم، ولعلّ تاريخ المدرسة القرزعية أن يكون فيه بيان وتوضيح، وهذا واجب لها ولأشياخها الأوائل.

وفي ملامح هذا الموجز نرى الجرأة والثقة بالنفس في السفر الباكر إلى الهند، وهي سمة ظاهرة في إنسان بلادنا وفي أهل القصيم خاصة، وربما أن الشاب العباد حينها قد فتح عينيه على عالم أبعد من الجزيرة العربية، ومارس أعمالًا من التجارة والإدارة، وتعامل مع أجناس جديدة إن من الهنود أو الإنجليز، واستمع إلى لغاتهم، ولاحظ طرائقهم ومسالكهم، وعالج القضايا المشتركة معهم بطبائعها المتباينة. وفي موجزنا إشارة إلى كثرة المسؤولين الذين تخرجوا على يد الوزير الأول عبدالله السليمان، وهي صفة ملازمة له، وبادية في سيرة الأمير مساعد بن عبدالرحمن.

ثمّ حين قفل العباد إلى بلاده توجه صوب مكة التي يوجد فيها عدد من بيوت عنيزة، وعمل في ديوان الأمير فيصل عندما كان نائبًا عن والده الملك عبدالعزيز في الحجاز متدرجًا في سلّم الوظائف حتى وصل إلى منصب رئيس المكتب العام، فنائب رئيس الديوان. وصحب الفيصل في مهامه الداخلية والخارجية بحكم كونه أول وزير خارجية سعودي، وكان قريبًا منه في النقاش اليومي، والاستماع لتوجيهاته كما سنقرأ بعد قليل، وفي إنهائه لمسائل المواطنين؛ ولذلك فليس بغريب حين نجزم مع عارفيه بأن الشيخ العباد موظف الصرامة صفته، والإنجاز الصامت ديدنه، فتلك خصائص فيصلية ظاهرة حتى انطبعت في أحد أقرب الرجال إليه، ومن الحتمي أنه مستعد لها فطريًا؛ فالقابلية في المحل شرط أساسي للانتفاع، وإن الكتمان الرشيد لخصلة أساسية في كل من رافق السلطان، وتقارب إليه.

والشيء بالشيء يذكر، إذ صاحب العباد في عمله الطويل مع الملك فيصل رجال دولة كبار، مثل الشيخ إبراهيم السليمان العقيل، والسيد أحمد عبدالوهاب نائب الحرم، وتزامل مع الشيخ محمد عمر توفيق الذي رأس المكتب التحريري للنائب العام في الحجاز، ثمّ ترأس المكتب الخاص له، وليس ببعيد أن الملك فيصل حينما اختار الشيخ توفيق وزيرًا للمواصلات عام (1382) استشار فيه الشيخ العبّاد، وكان رأيه فيه حسنًا لما يستحقه من ثناء، وهو الثناء المتبادل بينهما كما قرأت في حوار مع أبي فاروق امتدح فيه العباد، وهذا آية على سلامة قلب الرجلين. وليس عندي إحصاء لمن عمل قريبًا من العبّاد ثمّ برز نجمه، لكن يكفينا أن نعرف منهم الشيخ محمد النويصر أطول رئيس للديوان الملكي في تاريخه حتى الآن، وما أعظم الرجل الذي يقتبس من إشعاع غيره، ويغدو هو نبراسًا لمن بعده.

لذلك ظلّ الشيخ صالح يعمل مع الملك فيصل وهو نائب في الحجاز، ثم رافقه إبان ولايته للعهد إلى أن أصبح ملكًا، وكان هو المسؤول الأول عن الديوان الملكي وديوان رئاسة مجلس الوزراء سنوات عددًا، وإن كان التعيين الرسمي له عام (1391) بمنصب مسماه رئيس الديوان الملكي بالنيابة ورئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء، ويبدو أن الغاية من إسناد الديوانين له أصالة ونيابة كي يكون قريبًا من مجلس الوزراء الذي رأسه كثيرًا في تلك السنوات حسبما لاحظت النائب الثاني الأمير فهد -الملك لاحقًا-، وهذا من باب التأهيل والتدريب المسبق، بينما يكتفي الملك فيصل بتحريك ملفات الدولة المهمة، ومتابعة العمل لضمان سيره وسلامته، وحضور بعض جلسات المجلس المهمة لإقرار الموازنة، أو الخطة الخمسية، كما حكى الوزير هشام ناظر في سيرته فيما يخص الخطة الخمسية.

وحين أصيب الشيخ العباد بمرض أواخر عام (1394) طلب الاستعفاء من منصبه عام (1395) مع بداية حكم الملك خالد، كي يعطي الفرصة لغيره، ويرتاح من عناء العمل المرهق، وهو ما تم بالفعل إلى أن توفي في التاسع من شهر شوال عام (1399). وهاهنا ملمحان مهمان؛ أولهما أنه لم يتمسك بالبقاء في منصبه مع وضعه الصحي، ووجود ذوي أهليّة بعده، وبداية عهد جديد، وهذا من البصيرة الإدارية وبعد النظر. والملمح الثاني أن العمل اليومي في الديوان الملكي مرهق للغاية؛ ذلك أن كل معاملة -مهما كان موضوعها- تعرض على الملك فيصل، وهي الطريقة التي رأى الملك خالد وولي عهده الأمير فهد تغييرها إلى إجراء جديد، فلا يُعرض على المقام السامي إلّا المهم، ويفوض غيره من المسائل إلى الموظفين الأمناء لحسمه دون تأخير، ولكل رأي وجاهته.

ومن أخبار الشيخ العباد التي يرويها الوزير د.عبدالعزيز الخويطر أنه دخل على الملك فيصل وهو نائب عن والده في الحجاز، ودخل عليه وهو ملك في الرياض، فوجد العبّاد لديه ومعه الأوراق وقلم رصاص بممحاة، وحين يقرأ على الملك مضمون المعاملات يتناقش معه أو مع صاحب الاختصاص، ثمّ يكتب العباد الرأي بقلم رصاص، فإذا استقر لهما النظر على ما ذهبوا إليه أعيد كتابة التوجيه بالحبر الحي، ويجزم الخويطر أنه استفاد من هذه المنهجية وذلكم الحوار، ومن أسلوب الملك، وكان رفيقه في زياراته إلى ديوان الملك بالرياض الشيخ محمد أبا الخيل، والرجلان حينها في مناصب دون الوزارة بيد أنها في مجالها القريب.

كما وقعت على قصة ذات معنى في مقال للكاتب الأديب الكبير حمد القاضي، ولبّها أن أحد المواطنين في مكة تأخرت عليه مستحقاته من نزع ملكية منزله للصالح العام؛ فارسل برقية أو كتابًا للملك -النسيان مني-، وحين وصل الطلب للعباد عرضه على الملك دون تأخير، فأمر بتعويض الرجل المنزوع عقاره من فوره، وفي تلك الأثناء وصل مسؤول معني بالأمر على عجل، واقترح على العباد إرجاء عرض مشكلة صاحب العقار؛ كي تحلّ المسألة قبل وصولها للملك، فقال له العباد: لقد انتهت بأمر ملكي يقضي بصرف المستحق عاجلًا! والقصة أرويها بالمعنى، وهي من حسنات الإدارة وحكمتها، ولا غرو أن يفعلا ذلك وقد روي أن العباد عرض معاملة على الملك فيصل وهو في الطائف؛ فقال له الملك -ما معناه-: عجبًا لهذه المعاملة التي تلاحقنا من جدة إلى الطائف، ولو كانت لمسكين لبقيت في مكانها! وإن الانتصار للضعيف ومن لا يستطيع الدفاع عن نفسه لمن أعظم ما يعزّ القوي ويعينه.

أيضًا قرأت في مقال للأستاذ صلاح الزامل أن الشيخ العباد علم من وكيله العقاري عن وجود مبالغ مالية له من قيمة إيجارات أملاكه، ويصل مجموعها إلى خمسين ألف ريال، وهو مبلغ ضخم في عرف التسعينات الهجرية وما قبلها، فطلب منه الشيخ صالح توزيعها على أهل الاستحقاق من الفقراء والمساكين، على ألّا يعلم أحد بذلك، ولست أستغرب من هذه الرواية؛ فنحن بلد معطاء أهله، كريمة أعراقه، وتجري في دماء أكثرنا رغبات صادقة بالتطوع، وصنع المعروف، وخدمة المجتمع، وإدخال السرور على القلوب المعناة والنفوس الحزينة، بل وسوق البشرى لأهلها؛ فالعباد هو أول من بارك للشيخ حسن المشاري قبل تعيينه وزيرًا للزراعة بيوم واحد، وهنأ الخويطر بترقيته إلى مرتبة وزير وتعيينه رئيسًا لديوان المراقبة العامة مع أن العباد حينها مشغول بالسفر برًا إلى مكة لصحبة الملك فيصل في الحج.

أختم هذا المقال برأي جميل ذكره الأمير نواف بن عبدالعزيز في حواره مع الأستاذ الوعيل، علمًا أن الأمير عمل في أول عمره مع والده الملك عبدالعزيز رئيسًا للحرس الملكي، ثمّ مع أخويه الملكين سعود وفيصل رئيسًا للديوان الملكي، ووزيرًا للمالية، وكان مستشارًا مقربًا من الملك فيصل، ويستطيع تقييم رجاله والعاملين في مكتبه، إذ يقول في حوار صحفي عن الشيخ صالح العباد ما مختصره: كان جادًا ولا يعرف المجاملة في العمل، وهو حريص على التزام الحقيقة في نقل المعلومات إلى الملك فيصل، ونقل رأي الملك فيصل أيضًا، وللتاريخ أسجل أن هذا الرجل كان كفؤًا وذا شخصية تستحق التقدير والاحترام.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء غرة شهر الله المحرم عام 1445

19 من شهر يوليو عام 2023م

Please follow and like us:

6 Comments

  1. ماشاءالله تبارك الله … كالعاده يابو مالك احسنت وابدعت. سرد جميل ومشوق. لم اكن اعلم ان العم ابراهيم السليمان العقيل الحمدان عمل مع المرحوم العباد. معلومات ممتازه 👍🏻

  2. أبناء. هذا الرعيل من أعاظم الرجال بودي لو ترسلها للمجلة العربية على عنوانها مقال تعريفي جميل جدا رحم الله الجميع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)