إدارة وتربية سير وأعلام

معهد الإدارة: عراقة وبراعة

معهد الإدارة

معهد الإدارة: عراقة وبراعة

هل سبق أن دلفت إلى مبنى حكومي يناهز عمره نصف قرن، فرأيت فيه من النظافة والسعة والتنظيم والانشراح ما جعلك تشعر أنك في بناء حديث عهد بالتشييد؟ وهل عبر فيك فيمن عبر موظفون لديهم من الولاء والمحبة لجهازهم الحكومي مثل ولاء موظفي الشركات العالمية الكبرى لشركاتهم الذي نشاهده ونسمعه عن موظفي أرامكو وغيرها من أمثلة دولية لافتة؟ إذا أجبت بنعم فلربما أوشك على القطع بأنك تتحدث عن معهد الإدارة العامة؛ الذي بني بتكلفة مالية تساوي ربع المبالغ السائدة آنذاك؛ بسبب حرص مسؤوليه على السعر العادل، مع التنفيذ المتقن؛ ولذا بقي متشامخًا، ونخرت عوامل سوء التنفيذ وفقدان المسؤوليةوالزمن براءفي هياكل غيره من أبنية زامنته أو جاورته.

هذا المعهد شاهد من شواهد البناء التاريخي في عهد الملك سعود وإبان رئاسة الأمير -الملك- فيصل جلسات مجلس الوزراء؛ إذ نشأ المعهد بموجب مرسوم صادر عام (1380=1961م)، وهو من توصيات البنك الدولي للإنشاء والتعمير، والبنك مع أخيه الصندوق يوصون كثيرًا، وفي جملة من توصياتهم ينبغي الحذر والفحص دون تسليم؛ ولذلك طلبت الحكومة من الأمم المتحدة المعونة؛ فبعثت خبيرها الإداري د.محمد توفيق رمزي، وقابل الخبير وزير الدولة للشؤون المالية والاقتصادية الشيخ عبدالله بن عدوان، ووزير الدولة الشيخ أحمد جمجوم، وكان أصل الفكرة مقتصرًا على وزارة المالية، وبعد مداولات حكومية، ذهب الرأي إلى تعميمها لتستفيد منها جميع الأجهزة الحكومية؛ وهو الرأي الرشيد الأوفق الذي تأتي به المشاورة وسماع الآراء، وتلك سمة بادية في رجال الدولة بكل العصور.

ويُعدّ المعهد أول مؤسسة أكاديمية تقدم برامج عليا في القانون بالخليج العربي، وهو برنامج قديم تعود بداياته إلى عام (1391=1971م). ولعراقة المعهد ورسوخه في حقله؛ فقد ترأس اجتماعات المعاهد الإدارية العالمية مدة من الزمن، وله هالة من الحضور اللافت محليًا وإقليميًا ودوليًا، فمن ناحية هو مؤسسة تعليمية لها أساتذة وطلاب، وهو معهد عال بشهاداته وبرامجه، ومؤسسة تدريبية رصينة للغاية يضبط وجودها سوق التدريب المتلاطم، وهو مركز بحثي بناء على الحاجة أو المتوقع، وبيت خبرة واستشارة، ودار تأليف ونشر لإصدارتها قيمة علمية وتاريخية، وقبل هذا وبعده مصنع للرجال الأقوياء، فأيّ عراقة عنها يُحكي، وأيّ براعة مثلها يوصف؟!

ويهدف المعهد بدرجة رئيسه كما يظهر من اسمه وشعاره إلى التنمية الإدارية للمؤسسات الحكومية، وللموظفين، فما زاغ عن أهدافه يمنة أو يسرة؛ ولو فعل لتلاشى ذكره وتوارى أثره؛ ولذلك فليس غريبًا أن يكون المعهد مشاركًا فعالًا في اللجنة العليا للإصلاح الإداري ثمّ خليفتها اللجنة العليا للتنظيم الإداري، وليس عجيبًا أن يصبح من قيادات المعهد وأساتيذه وزراء كبار، وأعضاء مجلس شورى متميزين، ومسؤولين بارزين، مثل الشيخ محمد أبا الخيل، والدكتور مطلب النفيسة، والأستاذ حمد السياري، والدكتور فهاد المعتاد الحمد، والدكتورة حنان الأحمدي، وحتمًا لو وجد وقت للاستقصاء فستظهر لنا أسماء مسؤولين آخرين من الوزراء ونوابهم وأعضاء مجلس الشورى والمسؤولين المؤثرين، والمهمحتى بغير حصر الأسماءأنهم ممن خدم الوطن في نواح عديدة علمية وعملية.

كما رأس مجلس إدارة المعهد ستة وزراء مالية أولهم الأمير طلال بن عبدالعزيز، وهو أول رئيس لمجلس إدارة المعهد على الإطلاق، ومنذ عام (1416) أنيطت رئاسة مجلس إدارة المعهد بالديوان العام للخدمة المدنية فوزارة الخدمة المدينة وأخيرًا وزارة الموارد البشرية، وبالتالي رأس المجلس خمسة وزراء أولهم الأستاذ محمد العلي الفايز، وهذه الإزاحة المنطقية مع أخوات لها تحسب من حسنات المدة القصيرة التي قضاها د.سليمان السليم وزيرًا للمالية، ولغير هؤلاء الرؤساء عضوية في مجلس إدارة المعهد أذكر منهم للتمثيل وزير الزراعة الشيخ حسن المشاري، وشيخ الوزراء الدكتور عبدالعزيز الخويطر، ومعهم آخرون من وزارات وجامعات ومؤسسات حكومية.

وقد تعاقب على إدارة المعهد خلال سبعة عقود (1381-1444) ثمانية مديرين أولهم الوزير أبا الخيل، وعقبه الأستاذ فهد الدغيثر وهو أحد أهم مديري المعهد، وربما يصدق عليه وصف المؤسس الثاني، ويليه في الترتيب الزمني والأهمية الدكتور محمد الطويل؛ وفي كل مسؤولي المعهد خير ولهم إنجازات لا تُنكر، وليت أن المعهد أو غيره يبادر لكتابة سيرة مديره الراحل الدغيثر، وأما د.الطويل فلعله أن يفعل بنفسه سراعًا؛ فإن التوثيق والتأريخ عمل إداري بصير، يروي الفكرة، ويتابع نمو النبتة، ويحفظ المنهج العلمي الرزين الذي يلتزم به المعهد وفروعه الخمسة، والشيء بالشيء يذكر فقد صدر عن المعهد أكثر من كتاب يحكي مسيرته وتطوراتها.

أما لطائف المعهد فمنها أنه لمن غادره من موظفيه بالتقاعد أو بغيره لقاء سنوي دوري قديم متواصل لم ينقطع، وربما يكون اللقاء هذا من فرائد معهدنا، وآخر لقاء لهؤلاء الأوفياء انعقد السبت الماضي، مما يدل على عمق الصلة ومتانتها بين الإنسان والكيان. ومن طريف الأخبار المعهدية أني قرأت مرة حوارًا أظنه مع الدكتور صالح العميرنائب وزير الماليةذكر فيه أن بعض موظفي المعهد اتفقوا على ارتداء اللباس الأجنبي أثناء الدوام الرسمي، وطبقوا الفكرة أيامًا أو أسابيعالنسيان منيثمّ حين لم تنجح هذه الطريقة، آبوا إلى درب الرشاد المريح، وعادوا إلى الثوب والزي الوطني، ولسان حالهم يقول: ما أحلى الرجوع إليه! ويا قوم إن الثوب أليق بنا، ونحن به أجمل، وهو لنا أستر، وأيّ جسم غريب على الجسد فمآله ألّا يبقى بعد زراعته بغير علّة تحيط به، مثلما يحدث مع الذين يزرعون الأعضاء؛ فيضطرون لدحر المناعة الطبيعية، وفي دحرها مكمن الخطورة، وسبب الهلكة، والله ربنا يشفي ويعافي ويطيل العمر بصحة وعافية وسعادة وتقوى وإيمان.

والحمدلله مولانا أن المعهد باقً بين ظهرانينا بفكرته الأساسية العريقة التي تمكث في الأرض، وتنفع الناس، فإن العراقة كفيلة بنفي العوالق والقوارض والطفيليات، والحمدلله ربنا أن المعهد حظي ببراعة في التنفيذ والتطبيق في مناهجه ومكتبته المتعاونة ونظامه ووثائقهولا يسلم عمل بشري البتة من الملاحظاتحتى كانت نتائجه باهرة في الرجال، والتنظيمات، والبحوث، والكتب، وهي مما يذكره المنصفون بإجلال، ويشيدون به عن اعتقاد، بل ويستعذبون تاريخ المعهد وذكرياته وأيامه الخوالي؛ وتجلجل في أسماعهم كلمات د.إبراهيم التركي المسجلة للترحيب بالمتصلين على هاتف المعهد، وهو الرجل الفصيح لسانه، القويم بيانه، الجاذب أداؤه، المسمع صوته.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 08 من شهرِ شعبان عام 1444

28 من شهر فبراير عام 2023م

 

 

 

 

 

Please follow and like us:

One Comment

  1. محظوظ اي كيان او شخص تتصدى للكتابة عنه بنهجك الموضوعي و دقة المعلومات و الأسلوب الجميل المميز و الفريد.
    دمت للعطاء و التميز …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)