ليس بغريب أن يكون وزير المالية رجلًا مهمًا في أيّ بلد وحكومة، وهو في المملكة كذلك لأكثر من اعتبار؛ فوزارة المالية من أقدم الوزارات، ومن إداراتها ظهرت وزارات عديدة لها وزير يمثلها حاليًا في مجلس الوزراء. وظلّ الناس والمجتمع الحكومي في السعودية لمدة عقدين متتاليين لا يعرفون مسمى الوزير إلّا لوزير المالية الأول الشيخ عبدالله السليمان الذي كان واحدًا من خمسة أعضاء لأول مجلس وزراء سعودي عند تأسيسه عام (1373=1953م)، وبقية الأعضاء من الأمراء.
وهي من أكثر الوزارات التي يطول بقاء شاغلها في منصبه، فخلال سبعين عامًا أدار الوزارة أربعة وزراء فقط، مع أن آخرين بالمقابل أسندت إليهم هذه الوزارة فما استمروا فيها إلّا لشهور أو سنة ونحوها. وامتاز أصحابها بالحضور السياسي والثقافي والإداري، وأذكر منهم على سبيل المثال الأمراء طلال ومساعد بن عبدالرحمن، والشيخ الصبان، والدكتور السليم؛ ولأجل هذا كله تغدو شخصية وزير المالية السعودي معروفة لدى غالب الناس في الداخل، وموضع اهتمام المراقبين في الخارج.
من بين تلك الشخصيات معالي الشيخ محمد بن علي بن عبدالله أبا الخيل، المولود سنة (1351). وهو ابن أسرة عريقة لأحد فروعها إمارة في تاريخ بريدة. درس أبو علي في المملكة والعراق ومصر، ثمّ عمل في عدة وزارات قبل أن يستقر به المقام وزيرًا وعضوًا في مجلس الوزراء لمدة ربع قرن (1391-1416)، كان في خمسها آخر وزير دولة للشؤون المالية، ثمّ أكمل عقدين من الأعوام وزيرًا للمالية والاقتصاد الوطني.
هو رجل يجيد الصمت كما يحسن الحديث المختصر، ولا يأبه لغضب أو يطرب برضا؛ ذلك أن وزير المالية بحكم الارتباط مع المال والمشروعات والموازنات قد لا يرضي أحدًا البتة أو لا يرضى عنه الجميع دومًا؛ وعليه تكثر المناوشات مع الوزراء الآخرين. ولربما وقع الوزير في حرج مع رئيس سابق أو مسؤول لا يجرؤ أحد على رفض طلبه؛ بيد أن وزير المال يؤوي إلى ركن شديد. من صفات الوزير محمد أبا الخيل ندرة حديثه عن نفسه، والحرص على نسبة الفضل لفريقه أو لأهله، ولي في هذا تجربة مباشرة معه. ومصداقًا لذلك أنه أصدر عبر مكتبه الخاص بعد تقاعده دليلًا في أربعة مجلدات عن الوزارة وعملها، ولم يكتب فيه ترجمة لذاته.
في حياة الشيخ محمد لمحات كثيرة، وموافقات ومواقف، منها أنه تدرج في المناصب الحكومية حتى وصل إلى أعلاها؛ فحماه تاريخه الإداري المتسلسل عبر ذلك المسار من عثار أصحاب القفزات السريعة والمفاجئة. ومنها أنه عمل قبل الوزارة إلى جوار رجال دولة وإدارة وبصيرة مثل الأمراء سلطان و مساعد بن عبدالرحمن، ومع وزراء ومسؤولين مثل الشيخ حسن المشاري. أما بعد الوزارة فصار وزير المالية العامل المشترك في أحاديث كثير من المسؤولين، ولربما طاب للبعض إحالة أيّ قصور على وزارة المالية، وتبرئة النفس من أي غلط أو سوء.
كذلك ارتبط اسم الشيخ أبا الخيل بأعمال تأسيسية أشرف عليها، أو اقترحها، أو أدارها، مثل معهد الإدارة، وعدد من الصناديق الاقتصادية، وتنظيم وزارة المالية، وإنشاء بعض الشركات، والتوقيع اللافت بالاسم على العملة الورقية –أدام الله بركاتها-. ومثل ما أنه عمل حول أناس كبار وأفاد منهم؛ فكذلك أجاد الوزير في انتقاء العاملين معه، حتى أصبحت وزارة المالية أحد مصانع المسؤولين سواء في وكالاتها وإداراتها أو فيما التصق بها من مؤسسات ومصارف، وأذكر في هذا السياق أن د.منصور التركي انتقل من وكالة الوزارة إلى جامعة الملك سعود، وهو أحد أهم الشخصيات التي أدارت الجامعات المحلية.
ومن أجلّ الأعمال المرتبطة بمعاليه والقريبة من احتياج الناس، أنه اقترح عام (1394) على الملك فيصل إنشاء صندوق التنمية العقارية لمساعدة المواطنين على تملك المساكن، وحرص على مضاعفة رأسمال الصندوق أضعافًا كبيرة حتى يعظم عدد المستفيدين منه، وكان وراء إصدار لائحة الإعفاء التي أفاد منها المستحقون، وعمل مع طواقم الصندوق على نشر مشروعات الإسكان في جميع المناطق، وتحقيق العدالة قدر المستطاع، والفرار من الواسطة ما أمكنت إلى ذلك السبل!
كما اشتهر أبو علي بالمساندة بالرأي والخبرة، وله شهادات ثناء عبر كتاب حياة في الإدارة؛ إذ نصّ القصيبي على أن أبا الخيل اقترح عليه فكرة إنشاء سابك التي صارت شركة عملاقة. ويجزم د.غازي أنه لولا مواهب أبي علي الإدارية، وقوة الذاكرة، والجَلَد، والمهارة في الكر والفر، مع الصبر على العمل الطويل، لما استطاع الصمود في منصبه المرهق طويلًا. ومما ذكره لي رجل أعمال أنه تعرض لموقف عصيب للغاية، ففزع إلى أبي علي يستشيره وهو وزير؛ فقال له كلمة فاصلة حازمة معناها: مالك أنت ولهذا الأمر؛ فإنك لا تقوى على حمل تبعاته، والأولى بك أن تتركه لمن يستطيع! ويردف محدثي بأن ذلكم الرأي الرشيد أنقذه من ورطات وقع فيها غيره فيما بعد. وأخبرني زميل له في لجان عليا قائلًا: يكتب محمد أبا الخيل تحفظاته بوضوح أيًا كانت اللجنة موضوعًا ورئيسًا.
أيضًا من جوانب المساندة أنه وقف بقوته الشخصية والمتكئة على مكانة بلاده لعون مواطنه السفير عبدالمحسن السديري حينما عمل رئيسًا للصندوق الدولي للتنمية الزراعية “إيفاد“، وهو أول سعودي وخليجي يؤسس ثمّ يدير منظمة دولية بهذا المستوى، وقد أخبرني السديري بأن أبا الخيل ضغط على وزراء مالية أوبك لدعم الصندوق، ولم يتركهم حتى وهم في المصاعد ذاهبين إلى الاجتماع، وعندما سألت الشيخ محمد عن هذه الواقعة أجابني بأن هذا عملي وواجبي تجاه بلدي ومواطنيه، وليس لي به فضل! ومن مروءته شفاعته عند الملك فهد كي يعود المعارض السعودي عبدالله الجشي من خارج المملكة، عندما ضاقت به الأرض عقب الإشكالات السياسية والعسكرية في العراق منفاه الاختياري الأول.
وامتاز الوزير بأنه محافظ إداريًا فلم تكن آراؤه تروق لأحد من الوزراء! وعندما يقرر الملك فهد ألّا يستجيب لطلب من وزير أو مسؤول يحيله إلى مناقشة الموضوع مع وزير المالية كما روى القصيبي! ومن جوانب المحافظة لديه أنه تحاشى أضواء الإعلام قدر المستطاع؛ تلك الأضواء التي أحرقت آخرين حوله من زملاء ومساعدين، ولم يكن قراره هذا سهلًا خاصة أنه يزامل في مجلس الوزراء الشيخ يماني وزير النفط ذائع الصيت دوليًا، والدكتور القصيبي الشهير محليًا ودوليًا. يبدو أن الشيخ محمد ارتضى منهج زملائه الخويطر والتويجري والعنقري والنويصر الذين تأصل لديهم مبدأ الابتعاد عن الظهور قدر المستطاع، مع انتهاج التحفظ والتحرز إذا اضطروا للبروز عبر لقاء مكتوب أو مرئي.
أما الموافقات والطرائف المرتبطة بالوزير أبا الخيل فمنها أن سجله في الوظيفة الحكومية تقارب من ثلاثة أشخاص كلهم كانوا أو صاروا وزراء زراعة وهم على التوالي الأمير سلطان، والأستاذ عبدالرحمن بن سليمان آل الشيخ، والشيخ حسن المشاري؛ فكأن قدر أبي علي –وهو ابن بيئة زراعية– أن يكون قريبًا من هذه الوزارة المثمرة. كذلك شاهدت لقاء للملك فهد مع طلبة جامعة البترول والمعادن قبل أن تحمل الجامعة اسمه، فسأله طالب قائلًا: تسري إشاعة بأن مكافأة الخريج الجامعي الذي يعمل في الحكومة وقدرها خمسون ألف ريال سوف تُقطع! فلمح الملك فهد وزير ماليته واضعًا يده على قلبه، فالتقط الملك هذه الحركة العفوية من الوزير وأجاب: أرى الشيخ محمد أبا الخيل يضع يده على قلبه عند ذكر أيّ موضوع مالي!
هذه شذرات من سيرة رجل دولة عرف بالانهماك في العمل حتى أنه لا يكاد يدري أيّ طريق يسلكه سائقه بين المنزل والوزارة. وهي بارقة من سيرة وزير ذي خبرة بالأنظمة والإجراءات ومنبتها وغايتها، وهذا هو سبب دقته وحذره وأناته كي لا يقر شيئًا يناقض الأسس، وحتى لا يصير كمن يطبُّ زكامًا لكنه يحدث جذامًا! وهي طرف من شأن رجل يصدق عليه أنه بيت خبرة وكنز تجربة، ومجمع رأي جدير بأن يفاد منه ويقتبس، وكيف لا يكون وهو الذي مارس الإدارة بمستوياتها، وفهم المزاج المحلي، وعرف طبيعة عمل الحكومة، وتعامل مع الأجانب، وعاصر الأزمات بأنواعها فرأى أن قيمة الأزمات التي تمر بها الدول تتمثل في مقدار الانتفاع من عبرها، وعسى أن ينهض ناهض إلى أبي علي كي يقنعه بأن يكتب أو يتحدث، ولا أحسبه سيتأخر عن شأن غايته خدمة بلاده، وحفظ تاريخها، ونفع مواطنيه.
الرياض- الثلاثاء 04 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443
05 من شهر إبريل عام 2022م