مواسم ومجتمع

لفتات رمضانية

Print Friendly, PDF & Email

لفتات رمضانية

سبحان ربنا الذي وهب لرمضان جمال القدوم، وكمال المكوث، وجلال الوداع، وعاطر الذكرى، وصادق الاشتياق، ومنحه من البركة في ذاته وآثاره ونفحاته ولفتاته وتأملاته وتاريخه، ما جعله موسمًا محببًا، وموردًا لا يكاد أن تغيض فوائده، ولذلك لا يخيب من قصده بشيء. ولأن من شأني القديم الحديث كثرة الكتابة عن رمضان، فإني أشهد له عن تجربة بهذه الخصيصة ذات الثراء الدفاق، فما ظننت أن قد بقي شيء للكتابة حوله، بيد أن المعاني عنه تتوارد بلا انقطاع.

فمن لفتات هذا الشهر العظيم أنه في الترتيب تاسع الشهور، ويتلوه مباشرة يوم عيد الأعياد بالفطر السعيد ويوم الجوائز والفوز، ويشبه بذلك حمل الجنين ومدته ومآله البهيج؛ فلكأن النفس تحمل من أثقال العام وهمومه وربما آثامه، فيأتي هذا الموسم ليمسحها بفيوضه وقداسته، حتى تغدو نتيجة المجتهد المحسن عيدًا وفرحًا. ويرتبط بهذه المسألة أنه شهر يعزز الانتماء إلى التأريخ الهجري والتقويم القمري، فلو اجتمع علماء التقاويم قاطبة لما استطاعوا إيجاد حلّ لاستقبال رمضان دون الاعتماد على تقويمنا الشامخ.

ومنها أنه موسم ينتظره الناس كافة بجميع فئاتهم على اختلاف نوع الانتظار وسببه وثمرته وطريقته، فحتى الأطفال يحسبون حسابه لما فيه من مباهج وما يعقبه من مسرات. وللتجار فيه أسواق رائجة في المطعم والملبس والعطور والهدايا وشؤون المطبخ وغيرها. كما تتسابق الأجهزة الإعلامية لاستثماره فمنهم محسن سابق بالخيرات، ومنهم مقتصد، وفيهم ظالم لنفسه مبين، وحتى للسياسة معه تداخل واستثمار. وأما معاشر المذنبين -وكلنا ذياك الإنسان- فهو وقتهم للتوبة والإنابة. وهنيئًا للعابد فيه الحسنى وزيادة، وللحافظ الضبط والمراجعة، ولهاجر القرآن النهل منه، ولربما أن الأموات في القبور ينتظرون في رمضان المزيد من دعاء الأبناء والمصلين في المساجد والمحاريب، إضافة إلى ثواب الصدقة وأعمال البر. ويبنى على هذه لالتفاتة أن رمضان يغرس فينا فضيلة الانتظار والتأني والاستعداد والترقب والتخطيط وطول النفس والسلامة من الاستعجال.

كما أن شهر رمضان المبارك يعطي لأهله درسًا في الجدية والمصابرة والمضاء على الأمر الرشيد، فمن شرع في الصيام يستمر فيه ولا يقطعه إلّا بعذر شرعي مقبول وله ما بعده من قضاء وتكفير، وتلك من أكبر سبل غرس المسؤولية والانضباط في النفوس، فلا هزل ولا تراخ أو تماوت وتفويت واجب وقت أو زمان أو حال، ولا بحث عن خطوط رجعة بلا موجب يرفع الحرج، ولو أن هذه البذرة نمت في نفوس أمة محمد عليه الصلاة والسلام لما تأخرت وتقهقرت وعلا عليها الآخرون.

وفي رمضان تتجلى درجة رفيعة من درجات العزة والحرية؛ حينما يقطع المرء نفسه بنفسه دون رقيب من شهواته كافة، وهي شهوات مرتبطة بأجزاء جسدية ذات لجج وإلحاح على المرء، ويا له من انتصار يهب للإنسان المسلم قيمة مضاعفة، ويعتقه من أكثر من رق كما قال شيخ العربية محمود محمد شاكر في مقالة جميلة له برأ فيها معنى الصيام من أن يكون قاصرًا على أشياء لا تتفق مع طبيعة الصيام العامة السامية، وهي العبادة التي يسميها أبو فهر عبادة الأحرار ويصفها بأنها مدرسة لتحرير الإنسان من كل نقيصة.

كذلك يلفت رمضان النظر إلى أهمية التوازن فالحياة ليست خيارًا واحدًا بين المنع التام أو الرتع الدائم ولا مناص من الالتصاق بأحدهما، فثمت أحوال متوسطة تأخذ من كل طرف أحسنه. ومن لفتاته أن الأوضاع لا تبقى على نمط واحد مهما اجتهد الناس أو تظافرت القوى، ولذا تتغير في رمضان مفاهيم أوقات وطبائع ومناسبات وأطعمة وغير ذلك، وتلك لفتة نفيسة تؤكد لنا أن التغير سنة ثابتة مستمرة.

وهذه التغيرات إيجابية في مجملها، تثبت بقاء الفطرة، ونقاء أصل الإيمان في النفوس، وفشل مشروعات الإفساد بجميع مستوياتها؛ فإن ديننا وأمتنا قد تعرضا لكيد لو استحضر لكان من العجب العجاب بقاء الدين والأمة والمساجد والآذان والعربية والقرآن والسنة. والحمدلله المتكفل بإظهار دينه وإتمام نوره ولو كره الكافرون والمنافقون، وإن مجيء رمضان الدوري مما يعزز هذه الحقيقة، ويزيدها تفاعل المجتمعات والناس مع وافدهم الحبيب.

ولا يخلو شهر رمضان من لفتات قرآنية لكثرة قراءة القرآن الكريم والاستماع له، وفيه لفتات تربوية بالتئام الأسرة واجتماعها، ولفتات مجتمعية من خلال الأنشطة المجتمعية، ولفتات تاريخية بالنظر إلى سجل رمضان عبر التاريخ، ولفتات أدبية من أقوال البلغاء والشعراء، ولفتات لغوية عبر كلمات ألبسها رمضان من المعاني مالم يكن مطروقًا، أو قصر معناها على ما يتصل برمضان فقط، وفيه لفتة إلى مركزية المسجد في المجتمع المسلم، فإليه يهرع الصائمون حتى لو كانت علاقتهم به قبل رمضان وبعده مبتورة أو غير متوالية.

إن شهرنا التاسع لشهر غزير الفوائد الظاهرة والخفية، المادية والمعنوية، الحالية والمستقبلية، ولو نطق لقال بصوت جهير وبيان واضح: إن التحسين ممكن، والخلاص من المشين ممكن، والرجوع إلى الصواب غير عسير، والثبات على المنهج ليس بمستحيل. وإن العوامل التي تحوم حولنا تكاد أن تتظافر لتشهد على خيرية هذه الأمة، وكمال هذا الدين، وخلود الرسالة المحمدية التي جاء بها خير البشر، بعد أن حمل إليه خير الملائكة الكتاب العزيز المجيد المهيمن، في الليلة المباركة من الشهر الأجلّ.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت غرة شهرِ رمضان المبارك عام 1443

02 من شهر إبريل عام 2022م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. بارك الله فيك الكاتب الفاضل احمد .وانت تكتب عن شهر رمضان المبارك. يحس القاريء باعتزاز وفخر وقوة ارادة وهو مسلم يؤدي هذا الركن العظيم من اركان الاسلام على وجهه الصحيح صوم عبادة لا صوم عادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)