محمد سرور الصبان: رجل الدولة والأدب والإحسان
لا يحتاج بعض الناس الكبار إلى سابقة أو لاحقة تقترن بأسمائهم، وإذا تجاوزنا القدماء فمن المعاصرين نستطيع أن نحصي دون عبارات تبجيلية عددًا من الشخصيات التي زانت أماكنها ومواقعها ولم تكتسب من تلك المناصب وهجًا مضافًا يزول بمجرد بعدهم عنها. وإن المرء سيفارق في يوم قادم لا محالة كلّ صفة دنيوية ارتبط بها فلا يبقى له إلّا اسمه وأعماله وخصاله، وتلك من آثاره التي تصدِر الحكم عليه في الدنيا، والله هو الحكم العدل العليم الرحيم العزيز في يوم القيامة الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.
من أولئك الأماجد محمد سرور الصبان (1316-1391)، الأديب المفكر، والتاجر المحسن، والوزير المخضرم، ورجل الدولة البصير، والرائد في العمل الخيري والمجتمعي والإصلاحي. والذي يبدو لي من تتبع سيرته عبر كتب ومقالات ونقولات أن معالي الشيخ محمد سرور الصبان أبى على نفسه أن يسير في الناس دونما نجاح أو إنجاز مشهور أو مغمور، حتى غدا بين الذين عرفوه السند والمعلم والقدوة. وقد حلبت الدنيا أشطره فما انقلبت مبادؤه، ولا تبدلت سجاياه، واستمر كما هو نسيج وحده في التجلد للمكاره وبذل المعروف حال الرخاء أو الاستطاعة، ولربما أن هذا من أسرار تألقه في محياه، وعذوبة سيرته بعد مماته.
ولد الصبان في القنفذة عام (1316=1898م) ثمّ انتقل بعد أربع سنوات مع والده وإخوانه إلى مكة مرورًا بجدة، ودرس في كتّاب صادق ومدرسة الخياط، بيد أن المتاح آنذاك لم يروِ نهمة شاب طلعة فأكبّ على القراءة والمطالعة في علوم الشريعة واللغة والأدب والاجتماع والسياسة والاقتصاد، واستثمر الجوار المكي في التواصل مع الحجيج والإفادة من رموزهم العلمية والفكرية والنضالية، ومما يجلبونه معهم من أفكار وكتب وصحف وتجارب؛ فغدا صاحب وعي لافت، ولربما أن هذا الوعي المبكر أصابه بشيء من الصداع أيام الأشراف الذين غلب على أواخرهم سوء الظن وسرعة التأثر بالوشايات والاعتداد بالرأي كما يقول الكاتب الأستاذ عبدالله عريف في كتابه عن الصبان قبل أن يسمى وزيرًا بعنوان “رجل وعمل”، وكتب مقدمته د.طه حسين.
وفي حياة الصبان كلّها صار الوعي المتزايد لديه أحد محركات العمل عنده بعدما تكيّف مع ذلكم الوعي ومع آثاره سيئها قبل حسنها، إذ علِمَ عِلْم اليقين أن الإدارة القاسية لا يعجبها وجود رؤوس مفكرة مستنيرة، وأن البلاد لن تزدهر إلّا بوجود شبيبة متعلمة، وأنه لا إصلاح مع الرياء، وألّا مناص من الصراحة والجرأة بأدب. ومن هذا الباب يمكن تفسير احتشاده لصالح الأفكار التي آمن بها، حتى صار قبلة المفكرين، وجامع الأدباء، وتعانق لديه الهم الوطني، مع المبادئ القومية، ثمّ سارت جميعها بتوافق تحت راية الإسلام عقيدة وشريعة دون مناكفة أو مصادمة.
لأجل ذلك فلمعالي الشيخ مشاركات مؤثرة في جوانب عديدة، ففي الثقافة والأدب سبق إلى تأليف أول كتاب أدبي مطبوع معروف في العهد السعودي، إذ أصدر كتابين يعرف فيهما بأدباء الحجاز من كتّاب وشعراء هما “أدب الحجاز” و “المعرض”، وسطر مقدمة الأول في اليوم العشرين من شهر مضان عام (1344). ثمّ أنشأ مكتبة في مكة توافرت فيها الكتب والصحف من مصر وغيرها. وافتتح شركات نشر وطباعة في زمن مبكر مما يدل على استطلاع صائب لمستقبل واعد في عالم النشر والتأليف، وامتلك صحفًا مكية تحولت في عصره إلى يومية. ومن ضمن إسهاماته الثقافية إشرافه في وزارة المالية على الإذاعة، واستقطابه عددًا من الأدباء للعمل في تلك الوزارة الأم مما ارتقى بأسلوب الكتابة الحكومية.
ومن لفتاته الثقافية دعوته لإنشاء مجمع لغوي محلي ومجامع لغوية عربية تتعاون فيما بينها، وتكفله بطباعة كتب أو شراء مراجع لمن يحتاجها، وكتابة مقدمات لكتب وتحقيقات جديرة بأن يحتفى بها. واجتمعت في خزائن الشيخ المثقف مكتبة ضخمة فيها المطبوع والمخطوط، وبعد رحيله أهداها ورثته إلى جامعة الملك عبدالعزيز بجدة عام (1397)؛ استكمالًا لمشوار والدهم الضخم في بث الوعي، وتعميم المعرفة، وإنارة العقول، ولا غرو فهي تضم خمسة آلاف ومئة وستة وسبعين كتاباً، منها أزيد من مئتي مخطوط، وربما يكون عليها هوامش وتعليقات بخطّ يده مما يعلي من قدرها ونفاستها.
كما عمل في المجال الحكومي ضمن بلديات ومجالس أيام الشريف حسين، وواصل العمل في عهد الملك عبدالعزيز، وارتقت به المراتب حتى صار الرجل الثاني في وزارة المالية بعد الوزير الأول الشيخ عبدالله السليمان، ولذلك اختير وزيرًا للمالية خلفًا لابن سليمان بعد استقالته، فهو ثاني وزير للمالية، وأول وزير للمالية والاقتصاد الوطني بعد ضم الوزارتين معًا. وفي وزارته أو في آخر أيام السليمان صدرت أول موازنة سعودية، وحظيت هذه الموازنة بتعليقات من الدبلوماسي العراقي أمين المميز في كتابه “المملكة العربية السعودية كما عرفتها” الذي ألّفه بعد أن عمل ممثلًا لبلاده في السعودية أعوامًا ليست بالطويلة توافقت مع زمن إعلان تلك الموازنة. ومما يذكر له في هذا الباب جهوده في صياغة كثير من الأنظمة التي تحتاجها دولة حديثة النشوء، كي تساعد في ضبط العمل إداريًا وماليًا.
أما في حقول شؤون المجتمع والعمل الخيري والمدني فللصبان فيها يد مذكورة محفوظة، فهو أول من أسس “جمعية الإسعاف الخيري” التي شهدت في يوم من أيامها محاضرة شهيرة للأديب حمزة شحاتة، وأنشأ “جمعية قرش فلسطين” لدعم الأرض المباركة وأهلها وتخفيف أثر العدوان اليهودي عليهم، ومن جهوده في هذا المسار الشريف إطلاق “لجنة الدفاع عن فلسطين”، وهذه أعمال مبكرة في تاريخنا المحلي نوعًا ما، وتقع جميعها بين عامي (1352-1356=1934-1937م)، مما يخبر عن ذهنية متدفقة تأبى الجمود، ويشير لهمة حركية تضجر من السكون.
ولم يقف الشيخ الكبير عند هذا الحدّ، فله مع التجارة خبرة منذ يفاعة شبابه، فأنشأ مكتبات وشركات ومصانع، وبادر إلى نشر مفاهيم اقتصادية بحكم اطلاعه وقراءته وتأثره بمصر، ومنها فكرة تأسيس الشركات والحرص على حفظ الأعمال والمشروعات والثروات وأصول الأسر المالية من خلالها. وتتنوع شركاته التي عمل فيها أو افتتحها ما بين السيارات، والطباعة والنشر، والصحف والمكتبات، والكهرباء والخدمات، ومن أجلّها واحدة لطباعة المصحف الشريف الذي طبع لأول مرة في مكة التي نزل فيها أول الأمر، وأهديت منه نسخ لزعماء محليين وإقليميين.
وعن إحسان الشيخ يستمر الحديث ولا يقف، فله مجلس يبدأ من العصر ولا يختتم قبل تلبية حاجات قاصديه، وهو يعطي -بشهادة من حوله- دون خوف من الفقر، ويحسن قدر مستطاعه حتى في أيام ضوائقه المالية. ولم تنحصر هباته على القريبين منه بل شملت كل من وصل إليه دون سؤال عن مكانه وبلدته، وبلا استقصاء عن أحواله. وتجاوزت مبراته المملكة إلى خارجها، وشملت أفرادًا وأسرَ ومؤسسات، فنسب الفضل بذلك لبلاده وأناسه، وهي بركة اختصّ الله بها بعض عباده. ولأن الرجل شغوف بالإحسان كتب لوحة خلف مكتبه فيها عبارة عظيمة هي: “لا يراك الله إلّا محسنًا”، وشهد له بصنائع المعروف وإعالة المحتاجين الأستاذ المؤرخ المكي محمد مغربي، والوزير د.عبدالعزيز الخويطر، والعلامة الشيخ حمد الجاسر، وغيرهم.
ومن أخباره الجميلة أنه كتب رسالة على لسان الملك عبدالعزيز إلى بعض أهل البادية، ومن نصحه أن جعلها فصيحة أعجبت الملك الحكيم حين سمعها، بيد أنه طلب إرجاع النص إلى أصله؛ لأنه يخاطب أقوامًا تغلب عليهم العامية وقد لا يفهمون مراده من رسالة بليغة. ومنها أنه تعذّر عليه الجمع بين العمل الحكومي مع العمل التجاري بعد صدور نظام يمنع الجمع بينهما، فتقدّم بالاستقالة إلّا أن الملك عبدالعزيز استثناه من النظام في واقعة لم تتكرر بأمر ملكي معروف.
كذلك منها أنه عمل في الحكومة السعودية متدرجًا في الوظائف حتى وصل إلى أعلاها بعد ربع قرن مع أن حريته تقيّدت مرتين قبل عام (1350)، فلم يمنع ذلك الحكومة من الإفادة من قدراته وبراعته حتى في مجلس الوزراء وهذا رشد حكومي عميق، ولم تحل تلك الشهور الكئيبة دون أداء الرجل لمهامه بنشاط وإخلاص ونصح في جميع مواقعه الحكومية. وحين أصبح من العسير عليه التصرف وهو وزير آثر أن يبتعد في رحلة علاجية أوروبية أعفي من منصبه خلالها، وخلفه الملك فيصل-ولي العهد آنذاك- الذي كان يستطيع إدارة المال والنقد، ويقوى على مالا يطيقه غيره من الأمر والنهي والقبول والرفض.
ثمّ انصرف الصبان إلى خاصة نفسه، واستقر في مصر، وعندما تعكرت العلاقات السعودية المصرية أبى أن يكون ثغرة يُنفذ منها لزيادة هذا الكدر والشقاق في الروابط الأخوية، ورفض أن يصبح خنجرًا مسمومًا في يد خصم يصوبه نحو بلاده وأهله، وثبت على موقفه حتى لو فقد المزايا مثل الحراسة، ولم يخضع وإن هدّد بمصادرة أمواله. وعلى إثر هذا الموقف الذي لا يُستغرب قفل إلى بلاده مرَّحبًا به، واختاره الملك فيصل أول أمين عام لرابطة العالم الإسلامي مع بداية تكوينها عام (1381=1962م)، فحمل الرجل أعباء الأمانة بروح إسلامية تشتاق لنهضة أمته وعودة أمجادها، ولم يتقاضَ أجرًا على ذلكم العمل.
وفيما رأيت وقرأت، أُلف عن الشيخ كتابان أولهما في حياته للأستاذ عبدالله عريف كما أسلفت، والثاني من جزءين طبعته جامعة ام القرى في حفل تكريم الصبان وعنوانه “معالي الشيخ محمد سرور الصبان حياته وآثاره 1316-1391” لمؤلفه م.هانئ ماجد فيروزي، وكتاب ثالث لم أقف عليه جمعه د.إبراهيم عبده. وكتبت عنه مقالات كثيرة أودعها بعض المؤلفين في كتبهم عن تاريخ الأدب وأعلامه، فهو حامل شعلة الأدب الحديث في البلد المقدس عند إبراهيم فلالي، وأسهم بنثره وشعره وماله ونفوذه في بناء الحركة الأدبية كما قال عبدالله عبدالجبار، ووصفه الأستاذ محمد مغربي في كتابه “أعلام الحجاز” بسماحة النفس فكان من أكرم الرجال، ويسع الناس ببذله وكرمه كما يسعهم بأخلاقه وحلمه.
بينما رحب به أدباء مصر مثل هيكل وباكثير ووصفوه بأنه صدى الحرم، واستقبلوه بقولهم أهلًا بأنفاس الحجاز، وابتهج صديقه طه حسين بما كتبه عبدالله عريف عنه. وقال د.علي الطاهر في “معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية”: للشيخ محمد سرور الصبان مأثرة أدبية كبرى، ينفرد بها حين يكتب التاريخ الأدبي للحجاز، ونعته أحمد زكي أبو شادي بزعيم الحركة الأدبية في الجزيرة العربية. والكلمات المحفوظة عن الشيخ الصبان كثيرة يصعب حصرها ومنها على سبيل المثال ما كتبه الأدباء محمد حسن زيدان، وعزيز ضياء، وعبدالفتاح أبو مدين، ود.منصور الحازمي، ود.عبدالرحمن الشبيلي، وعبدالله عمر خياط، وغيرهم.
وحين شاء الله قبضَ روح عبده إليه في أوائل شهر ذي الحجة عام (1391) وهو في مصر، فجهزت له طائرة رسمية معها مسؤولون مصريون كبار، وحطت رحلته الأخيرة في مطار جدّة لتجد في استقبالها كبار الأمراء والوجهاء وموظفي الدولة، ونزل محمولًا على نعشه الطويل بعد أن كان يمشي على سلم الطائرة بقامته الفارعة، وعباءته العربية، ولونه الأسمر الفاخر الفريد حتى في تاريخ مجلس الوزراء. وصلي عليه في المسجد الحرام، ودفن في مقبرة المعلاة، وتواتر الرثاء له من محبيه وعارفيه، وبقيت سيرته علامة في سجل الأدب، وفي رحاب المجتمع، وفي دهاليز الإدارة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 28 من شهرِ محرم عام 1443
06 من شهر سبتمبر عام 2021م