عبدالرحمن الصقير: لواء يسرد تجربته
إذا كان المرء ينتمي لعالم يحيط به الغموض مثل العسكرية، وتُشاع حول محيطه المفاهيم التي قد لا تكون دقيقة؛ فمن المثير أن يكتب سيرته الذاتية، ويطلِع القراء على زوايا من حياته. وهكذا فعل اللواء الركن عبدالرحمن بن صالح الصقير عندما نشر سيرته الذاتية بعنوان: تجربة حياتي الإنسانية والعسكرية من عهد الملك عبدالعزيز إلى عهد الملك سلمان، التي صدرت طبعتها الأولى عام (1441=2020م) عن الدار العربية اللبنانية، مكونة من إهداء وعشرين عنوانًا مختلفًا عن المعهود. ويقع الكتاب في (324) صفحة مطبوعة على ورق أبيض صقيل لامع، وعلى غلافه الأمامي صورة صارمة للمؤلف بالزي العسكري، وفي ملحق الصور صورة حالية له وقورة تباين تمامًا صورة الغلاف.
أهدى المؤلف كتابه لزوجته الراحلة ولأبنائه وبناته، وأشار في قصة كتابه لإلحاح الأصدقاء عليه كي يكتب خبرته، فاستجاب لأنه يرى بأن خبرته ليست ملكًا له، وأن بيانها واجب عليه تجاه المجتمع، وختم قصة هذه المذكرات جازمًا بأعظم درس وجده في الحياة وهو الإيمان الذي يورّث اليقين، ذلك اليقين الذي يمثّل قمة الحرية للإنسان. وأكدّ أن مذكراته شهادة على العصر من منظوره يمكن أن يستفيد منها الباحث والمؤرخ خاصة وهي تحوي خبر تسعة عقود حافلة بالكثير.
ثمّ كتب اللواء تعريفًا بمنطقة بالقصيم الخصيبة في أرضها والخصبة بالرجال، وتحدث عن بلدته “القرعاء” الواقعة في شمال غرب بريدة على حافة المليداء، وهي أرض آبائه وأجداده منذ ثلاثة قرون حينما اشتراها جده الأكبر حمد بن عبدالله بن نجيد الذي ترجع إليه أسر كثيرة عريقة منها أسرة الصقير وأسرة الرميح، ومن أعلام أسرة المؤلف رجل الدولة الكبير الشيخ عبدالعزيز العبدالله الصقير. وذكر بأن منطقة “الجواء” تبدأ من القرعاء، ولذلك فعلاقة أسر القرعاء بعيون الجواء وما جاورها وثيقة، حتى وإن تشعبت بعض الأسر القرعاوية إلى عنيزة وبريدة.
كما تحفظ السيرة -وهذا من حسناتها- وصف البلدة كما عاصرها الكاتب، وطريقة الحياة فيها سواء في الجانب الاجتماعي، أو شؤون الطب، وأخبار الطعام والقهوة التي ارتبطت بإنسان هذه الأرض حتى سُمى بها مجلس الاستقبال، ومنها التعليم في كتّاب الشيخ إبراهيم الحميداني، وصيد الطيور، والتجارة سواء داخل البلدة أو في محيطها، أو ضمن قوافل العقيلات. وهو سرد مبين عن الجدية، والتكافل، وقسوة العيش آنذاك؛ حتى أن أهل البلدة يتشاركون في قيمة لحم ناقة واحدة بعد بيع زوائدها من شحم وجلد، وفي “المشَرَك” حكايات من لطف الله وتدبيره، وهو التدبير الحكيم الذي وقف معه أبو خالد مؤمنًا مسلّمًا، ونقل عن أهل بلدته وعيهم الديني، وحسن ظنهم بمولاهم لدرجة أنهم ينظفون مجاري المياه قبل الاستسقاء ثقة بربهم المنعم سبحانه.
ولد الصقير عام (1353=1934م)، بعد أن مضت ستّ سنوات على زواج والديه حتى أصابهما القلق من تأخر الإنجاب وفزعا نحو الوهاب كي يرزقهما بالذرية، وبعد خمسة أعوام من مولده رزق والداه ببقيّة إخوانه وأخواته. وروى المؤلف حكايات أجداد وجدات بما فيها من حنان وحب، وتكلم عن منزل الأسرة ومزرعتها واجتماعاتها وانشغال أفرادها بالزراعة والرعي والسقي، ووصف المنزل وصفًا دقيقًا، وشرح عملية استخراج الماء بالسواني التي يستمتع المعاصرون بمنظرها وصوتها دون أن يعرف بعضهم كبير الكدّ وعظيم النَّصَب فيها. ومن أخبار المزرعة طروق الأضياف خاصة من البادية ليلًا، وما يجدونه من استقبال وقِرى، فلولا خلّة الكرم العربية لمات أبناء يعرب في الصحراء.
وتذكر بألم أن الجدري حين أصاب طلاب الكتّاب الذي يدرس فيه مات نصفهم، ووقف بحسرة ظاهرة مع مزرعتهم التي انتهت بعد شحّ الأمطار، وتراكم الديون؛ فاضطرت الأسرة لبيعها بما فيها، وتفرق بناء على ذلك أبناء الأسرة في أنحاء المملكة، ويبدو أن هذه الحادثة رسخت في مخيلته فدفعته بعد التقاعد لشراء أرض كبيرة في ديرته “القرعاء” وزراعتها، وبناء بيت فيها، وكأنه يلقي السلام والتحية والدعاء بالرحمة على أرواح أوائله وعظامهم، ويقول بلسان الحال ها قد عادت وعدنا.
وبعد بيع مزرعة الأسرة سافر مع والده إلى الرياض عام (1366) تاركًا الأرض والذكريات وما هو أهم؛ فمع الوداع الباكي بقلب منفطر، يفارق الأم والأجداد بعطفهم وشفقتهم، ولئن كانت تلويحة اليد وداعًا، ففي الدموع المتغازرة انهمارًا وداع ثان مرير، وقضاء الله نافذ ولاريب. ومع طول الطريق ووعثائه وجد السلوى بأحاديث والده وإشاراته التربوية، تلك الإشارات التي أثنى عليها المؤلف ونسبها لجدّه ووالديه، وما أجدر الآباء بتقصي الأثر الحميدةِ مسالكه في التربية والتوجيه خاصة ونحن في زمن المنافسة على التوجيه المتجاوز للحدود عبر وسائط كثيرة تبدو أنها لعبة أو وسيلة، والأمر أعظم.
فبحث والده عن عمل عقب وصوله إلى الرياض دون جدوى، وكانت الخيرة لعبدالرحمن أن انتظم في المدرسة السعودية مع عمه علي، وفي المدرسة تعليم، ومأوى، ورفقة، وطعام، وتربية وضبط تحت قيادة مديرها الحازم من أصول ليبية الأستاذ عبدالمالك بن عبدالقادر الطرابلسي (1900-1996م). ومن حكايات المدرسة أنها أوكلت تعليم الصقير حروف الهجاء إلى طالب سابق عليه وأصغر منه سنًا، فأحسن التعليم مع تعثره في حرف الراء لأنه الطفل المعلِّم يلثغ به، ومنها أنه يتسلل فجرًا من مدرسته الداخلية مع بعض زملائه لدرس الشيخ عبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ لصغار الطلاب في مسجد دخنه، وكان في حلقة الشيخ فتى أكبر منهم تبين لاحقًا أنه الشيخ المحسن سليمان الراجحي.
أما الأب الذي اطمأن على ابنه مع أنه لا يستطيع رؤيته سوى مرة أسبوعيًا، فقد ضرب في مسالك الأرض حتى وجد الرزق في مدينة “عرعر” التي تسمى آنذاك محافظة خط الأنابيب، وبها أمضى أكثر عمره إلى أن ارتحل عن الحياة عام (1399). وفي صيف عام (1369) سافر الفتى إلى القصيم تسبقه أشواقه وذكرياته لينعم بلقيا الوالدة وبقية الأهل؛ ولكأنه يجد الرَّوح ونسيم الحياة منذ أقبل على الديار التي شغفت قلبه بمن فيها.
من ذكريات المؤلف سواء خلال الدراسة أو بعدها، أنه شاهد الملك عبدالعزيز خمس مرات، في واحدة منها وقف وهو وزملاؤه في طريق عبور الملك، وحين رآهم وهو في سيارته سألهم عن سبب تجمعهم، فأخبروه أنهم يعترضون على نقل مدير مدرستهم، فقال الملك للشيخ محمد بن إبراهيم المجاور له: ارجعوا لهم مديرهم. وفي مرة أخرى رآه في قصره عام (1369) على كرسي متحرك، وكان عبدالرحمن يسلّم ورقة للأمير مشعل أمير القصور، فناداه الملك ووضع في يده جنيهًا من الذهب. بينما زارهم الملك سعود في المدرسة فانبهر الفتى من قامته السامقة.
كذلك اختصرت دراسته من ستّ سنوات إلى أربع لتميزه، وفي نهاية العام زارهم وفد فاحص، فانتقى منهم ستين طالبًا، وركبوا في حافلة وهم لا يعرفون الوجهة المقصودة ولا الغاية المبتغاة، فقال له مدير المدرسة وهم في الحافلة: أنت يا عبدالرحمن قائد هذه المجموعة! وتحركت الحافلة نحو المطار، وفيه طائرة تنتظرهم لتنقلهم إلى جدة فمكة، ومنها إلى الطائف ومعسكر الجيش بالقشلة للدراسة والتدريب هناك، ويبدو لي أن هذه الفجائية هدفها استباق رفض الأهالي الشائع حينذاك.
ومن الطبيعي أن تكون المساحة في السيرة فسيحة للحديث عن المدارس العسكرية، والحرس الملكي، ونشأة الجيش، وافتتاح الكلية الحربية في 27 من شهر صفر عام (1374) بمبنى يتسع لستمئة طالب، وأصبح عبدالرحمن من الدفعة الأولى فيها إبان قيادة شاعر الجيش اللواء على زين العابدين لكلية الملك عبدالعزيز الحربية. وتمتد هذه المساحة إلى ذكر بعض الشخصيات والوقائع والبدايات، وهذا جانب يميز أيّ سيرة لحاجة طلاب المعرفة له إضافة للروايات الرسمية، فكلاهما يكملان سيرة المؤسسة، وهي سيرة غفلت بعض المؤسسات الكبرى عن توثيقها مع وجود مقتضيات لهذا التدوين، وعسى أن تنشط هذه الحركة التأليفية بموازاة السير الذاتية والغيرية.
من لطيف ما أورده المؤلف انبهارهم بالطائف وأجوائها، ورفض جميع الطلاب الانضمام إلى الفرقة الموسيقية ودراسة فنونها، بل كسروا الآلات وشقوا الطبول، وبعد التحقيق معهم أصروا على مطلبهم، فاطلع وزير الدفاع الأمير مشعل والده الملك عبدالعزيز على الأمر، وبحكمة رجل الدولة قرر تلبية مرادهم، وإلحاقهم بالمدرسة العسكرية في الطائف. ومن الطريف أن النقيب طارق عبدالحكيم ابتعث لدراسة الموسيقى بسبب ميوله الغنائية فتضايق أن يترك المدفعية لأجل الموسيقى؛ لكنّ الأمير منصور-أول وزير للدفاع- قال له: إذا تقاعدت فلن تستطيع بيع المدافع، وسيكون لك في الموسيقى شأن. وعقب سنوات طويلة زار المؤلف مدرستهم العسكرية فوجدها كما هي بيد أنها آلت إلى مؤسسة لتربية الدواجن.
كما أوضح الرجل العسكري مشاركته في أول استعراض أمام الملك سعود وزعماء آخرين في جدة يوم 17 من شهر ذي الحجة عام (1374) الذي يوافقه يوم 05 من شهر أغسطس سنة (1955م)، وسبقه استعراض آخر أمام الملك عبدالعزيز حينما زاره اللواء محمد نجيب بعد الانقلاب على الملكية المصرية. ولمصر بالمناسبة ظهور كثيف في سيرة الصقير، وبعضه يتعلّق به إبان مرافقة الملك سعود، وله صور خلف الملك والرئيس جمال عبدالناصر، وفي بعض الشأن المصري خلال سيرة اللواء توسع واستطراد تمامًا كما في بعض الشؤون العراقية، وموجب السيرة الذاتية أن تنحصر قدر الإمكان في حدود صاحبها، وما ارتبط به مباشرة.
وتحوي سيرته خلال هذه العقود مواقف طريفة وذات دلالة، منها أنه حج بأمه عام (1375) فاستضافهم زميل مكي في بيتهم بيد أن والدة الصقير لم ترق لها الشيشة المركوزة بين النساء فآثرت الابتعاد شاكرين مضيفهم النبيل. وحين منحه الرئيس عبدالناصر وسامًا أولم والده فرحًا بالوسام بسبب رمزية ناصر آنذاك التي صنعها الإعلام. واشترى عبدالرحمن سيارة بالتقسيط ثمّ باعها ليتزوج، فدفع الملك سعود جميع الأقساط الباقية على العسكريين بمجرد أن علم بها. وسُرقت أمواله في أمريكا فلم ينقذه إلّا دولاره الوحيد الباقي.
كذلك سافر مع الملك سعود في رحلة استشفاء أوربية طويلة المسافة، ومديدة الزمن، وكثيرة في البلاد التي زاروها مكرمين مبجلين، وكان ثالث ثلاثة من الضباط، فتوفي أحدهم بعد أن كتب الصقير وصية الزميل وهو يحتضر، وكلّف الآخر بنقله لأهله، فأصبح المؤلف وحيدًا مع الملك الذي تأثر من وفاة الضابط، ووعظ مرافقيه وحاشيته بعد الموقف مباشرة، أو عقب الصلوات التي يصلونها خلفه، وكان الملك سعود يؤم مرافقيه، وسبق له أن صلى إمامًا بعبدالناصر استجابة لإصراره في مطار جدة، وتقدّم إمامًا بالجموع الكثيرة في باكستان غير مرة.
وفي تلك الرحلة حادثه زميله العقيد محمد الذيب قبل أن يرتحل فجأة عن الدنيا، وهو أول حديث بينهما إذ سأله: كم سنة قضيتها في التعليم؟ فأجاب: خمسة عشر عامًا، فقال له العقيد الذيب: لعلك تتعلّم من هذه الرحلة أكثر مما تعلمته في تلك السنوات، وللعقيد الذيب مواقف فيها شهامة وسرعة بديهة، وقد روى المؤلف بعضها. ومن مواقف هذه الرحلة أن نادلًا ألمانيًا ارتبك فسكب بعض الطعام على ملابس الملك، فذعر المسكين وهرب، وجاء مدير الفندق معتذرًا، فطلب الملك حضور النادل، وحينما جاء وهو يرتجف صافحه مبتسمًا وخلع مشلحه وألبسه إياه، فامتلأ مطعم الفندق بالتصفيق خاصة بعد أن فهم الأجانب أن هذا صنيع عربي يدل على الصفح والتكريم.
أيضًا روى المؤلف انتعاش المتاجر والخدمات في مدينة “بادنهايم” الألمانية خلال زيارة الملك سعود، ويبدو أن الحنين أدرك اللواء فسافر إليها سائحًا مع حفيده باسل عام (2012م) حسبما تخبر به صور الكتاب. وعندما زار الملك سعود “جنيف” تلبية لدعوة أمير قطر الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني، أعجبه الجو والمناظر الطبيعية، فاقترح عليه شيخ قطر شراء قصر فيها، لكنّ الملك رفض هذا المقترح معلّلًا رأيه بأنه لا يشتري بيتًا في غير بلاده.
ولم يغفل المؤلف عن عمله في الحرس الملكي، ووزارة الدفاع، والكلية الحربية، ومشاركته مع الجيش في حرب الوديعة، وبرامجه التدريبية الخارجية الطويلة التي التحق بها، وتوليه مهام الملحق العسكري في العراق، والمشاركة في صياغة اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحرب، واشتراكه في المسيرة المغربية الخضراء، إضافة إلى الحروب العربية الإسرائيلية. ومن مستلطف أخبار الحرب أن جنديًا سعوديًا أسر ضابطين غربيين من أمريكا وأيرلندا ظنًا منه بأنهم يهود لكثرة ذهابهم لمعسكرات دولة الاحتلال، ورفض الضابطان نشر صورهما في وسائل الإعلام كي لا يراهما الناس وهما في ذلة وصغار خلف الفتى العربي. ومنها أن طيارًا سعوديًا ضلّ الطريق بطائرته التي يركب فيها خمسون عسكريًا، واضطر للهبوط في مطار تحتل إسرائيل أرضه، وبعد احتجاز وتحقيق وسلب ما معهم من أموال وأوراق أُفرج عنهم، وعادوا للمملكة بضغط أمريكي.
ثمّ ختم المؤلف اللواء الركن الصقير سيرته بما فيها من مواقف تصاحب حياة كلّ إنسان حزنًا وفرحًا، والله يرحم الأموات ويبارك في الأحياء. ولم يترك القارئ حتى صوّر له حياته بعد التقاعد ما بين ترحال حول العالم، وصلاة وقرآن ومجاورة، واستمتاع بالأبناء والأحفاد وأجواء الأسرة، واسترداد ذكريات الطفولة والبلدة القديمة. وأضاف لآخر أوراق العمر شهادات وصور شخصية وسيرة مختصرة عنه، وودع قارئه مثنيًا على الله الذي وهبه الأنس بقربه، وأكرمه باستشعار نعمه التي لا تحصى.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 23 من شهرِ رمضان عام 1442
05 من شهر مايو عام 2021م
2 Comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جميل منكم هذه اللمحات على هذا الكتاب،
اين يباع وكيف نحصل عليه وشكرا لكم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
حياكم الله يا فيصل
ربما تجده في المكتبات التاريخية والتي تعتني بالكتب مثل:
الثلوثية والتراثية بالرياض
المتنبي بالدمام
كنوز المعرفة بجدة
وغيرها مع المتاجر الإليكترونية
والله يرعاكم.