سير وأعلام عرض كتاب

محمد أمين كردي: دبلوماسي بالصدفة

Print Friendly, PDF & Email

محمد أمين كردي: دبلوماسي بالصدفة

هذه سيرة ذاتية خالية من ادعاء البطولات، أو التزيد بتمطيط الكلام، عنوانها: دبلوماسي بالصدفة، تأليف: محمد أمين كردي، أصدرت دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع الطبعة الأولى منها عام (2020م)، وتقع في (207) صفحات تشتمل على إهداء ومقدمة، ثمّ تسعة عناوين تبدأ من دمشق وتقف عند الذكريات الباقية، وبينهما المدينة وجدة وأمريكا والرياض وصولًا إلى سنغافورة والبرازيل التي تلتها عودة إلى الرياض، ومن الفصول حكاية نور الحياة، فملحق فيه صور، وأخيرًا تعريف قصير بالمؤلف.

ولد الكاتب في دمشق عام (1947م) من والد مدني ووالدة دمشقية، ويعود سكنى والده في دمشق إلى خروجه من المدينة فيما عرف بالسفر برلك، وفي دمشق عمل والده بتنجيد المفروشات، وتعلّم وتفقه حتى صار إمامًا وخطيبًا، ومن زملائه أيام الطلب الشيخ أحمد كفتارو مفتي سورية، وفي الذكريات الشامية أحاديث عن دمشق وبيروت، وحوادث كاد أن يُفقد فيها أحد أطفال الأسرة في قطار أو رحلة، ومنها إصابة محمد أمين بفوهة بنادق حرس عبدالناصر إبان زيارته لدمشق عقب الوحدة، وفيها نتف عن الأطعمة وطريقة الدراسة، والالتفاف العائلي حول مذياع تُعلن منه الأخبار، ثمّ تشدو أم كلثوم بأنغامها، ومسك الختام مع الشيخ علي الطنطاوي وأحاديثه النافعة بإمتاع.

ثمّ رجع الفتى مع أسرته للمدينة النبوية، وواصل الدراسة مع العمل في دكان والده، ومنها طار إلى أمريكا للدراسة الجامعية مع زملاء آخرين، وهناك اجتهد في وضع ربطة العنق ليكتشف أنها لا تُلبس في مجتمع الطلاب الذين اعتادوا على ارتداء ملابس غير رسمية مع اصطحاب كلابهم إلى المحاضرات، وعانى من العراة في الحمامات المشتركة للنزل، وما أقبح الإنسان إذا شابَه الحيوانات التي لم توهب عقلًا، ولم تسمع عن الحياء يومًا.

بدأ دراسته الجامعية في عام (1965م)، وانبهر بتركيب خدمات الكهرباء والهاتف خلال يوم واحد بعد طلبها، وكانت موازنة جامعة كاليفورنيا تتجاوز موازنة المملكة إذ ذاك! وخلال البعثة استمتع بالصحبة والمهام المشتركة من طبخ وغسيل ورحلات، وزار أخاه “بشير” الذي يعمل في السفارة بطوكيو أيام السفير الشيخ ناصر المنقور ولم يكن معه في السفارة إلّا موظفين إثنين من الدبلوماسيين، كما قصد أخاه “مأمون” وكان حينها دبلوماسيًا في السفارة بكراتشي، وفي تلك الرحلة استمتع بالأكل الهندي، وبين زيارة الشقيقين طاف في بلدان آسيوية، وضاعت منه كمرة فريدة، وأكل السمك في تايلاند بعد رقصتها الأخيرة.

من أخبار معيشته في أمريكا شراء وجبة من مطعم سريع شهير الآن حديث النشأة آنذاك، وقيمة الوجبة الكاملة خمسة وثلاثون سنتًا فقط! واستماعهم لأنباء الانتصارات العربية على إسرائيل في حرب (1967م) عبر إذاعة صوت العرب، ولم تكتمل فرحتهم بالنصر الصوتي بمجرد أن شاهدوا محطات التلفزة الأمريكية؛ فاكتشفوا الحقيقة المغايرة لما يقوله الإعلام استخفافًا بالجمهور، ومنها أيضًا إطلاق أحد زملائهم على شرطة المرور مسمى “عباس”، وعباس هذا اصطاد المؤلف في ثلاث مخالفات سرعة.

ثمّ تزوج زميلته المبتعثة رقية ناصيف بعد انتهاء دراسته الجامعية عام (1969م)، وعُقد قرانهما في منزل والدها بمباركة جدّها لأمها الأستاذ الأديب محمد حسن زيدان، وكان مهرها ألفا ريال، وتمكن بعد الاقتران من زيارتها يوميًا بحضور أخيها أسامة، وفي ليلة زواجهما جلس ابن عمتها الطفل أمين منصوري بينهما، ومما أذكره من أمثال العرب قولهم: أثقل من رقيب بين حبيبين! ومن طريف أحداث زواجه اضطراره إلى لبس بدلة أجنبية لأنه لم يجد الفرصة لتفصيل ثوب سعودي، وكانت تلك مفاجأة غير سارة للعروس.

بعد عودته الأخيرة للمملكة درّس الرياضيات في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، ومارس العمل التجاري في مجال الحاسب وتعريب البرامج وإن أصابته خسارة كبيرة من بعضها، وقدم خدمات استشارية لوزير التجارة، وأصبح مستشارًا للأمين العام لمجلس التعاون الخليجي فيما بعد، ومما ذكره في مسيرته المهنية أن أحد المسؤولين طلب توظيف فتيات في الشؤون الإدارية مع الحفاظ على خصوصيتهن، وفيما بعد تزوج هذا المسؤول من إحداهن مصداقًا لظنّ المؤلف.

كما انفتل لحديث المحب عن أخيه الدبلوماسي العريق مأمون كردي الذي التحق بوزارة الخارجية بعد حصوله على الثانوية، وكانت تستهويه متابعة الأخبار وشؤون السياسة، فعمل في إسبانيا مدة أربع سنوات وأتقن لغتها بطلاقة، ورجع منها إلى المملكة بالسيارة لأنه شغوف بالترحال، ولم يلتفت للزواج وتكوين أسرة إلّا متأخرًا تحت إلحاح من والديه الشفيقين، ومن الموافقات أن ابنته تشبهه في الشغف بالرحلات واللغات.

وإبان عمل مأمون في باكستان حصل على البكالوريس وأجاد الإنكليزية وتحدث بلغة الأوردو، أما في جنيف فحصل على الماجستير وتحدث بالفرنسية والألمانية والإيطالية، واكتسب مهارات التفاوض حتى أطلق عليه الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى لقب “المسلكاتي” لقدرته على طرح حلول وسط بعد فهم وجهة نظر الأطراف كافة، ومما قرأته هنا وفي أماكن أخرى عن هذا الدبلوماسي الراحل مبكرًا وددت لو كتب سيرته وخبرته.

بعد وفاة مأمون وتقديرًا له من الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية اُستقطب المؤلف للعمل في وزارة الخارجية مديرًا عامًا لإدارة الاتصالات والحاسب الآلي، واصطفي عقب ذلك ليصبح أول سفير سعودي في النقطة الحمراء الصغيرة بعد رفع مستوى التمثيل بين البلدين عام (2000م)، والنقطة الحمراء الصغيرة هو وصف تهكمي أطلقه أحد ساسة أندونيسيا الكبيرة على سنغافورة الصغيرة؛ فالتقطه كتّاب سنغافورة واتخذوه شعارًا يفاخرون به، وكان السفير يتصور أن العمل فيها محدود لكن استبان له ضخامته، وقضى فيها سبع سنوات قريبًا من مؤسسها الفذ “لي كوان يو”.

ويخبرنا أن سنغافورة أنشأت عددًا من مراكز البحوث المتخصصة وجميعها تستضيف متحدثين بارزين لتصبح بذلك صانعة رأي عالمي، وذكر المؤلف أن مشورة “لي كوان يو” تؤخذ بالاعتبار في أمريكا، وحين سأله عن تصور أمريكا لما بعد حرب احتلال العراق قبل نشوبها أجابه بأنه وجه ذات السؤال للأمريكان فقالوا: ليس لدينا فكرة! وحين استفهم من ساسة بريطانيا أجابوه بأن الأمر عائد كليًا للجانب الأمريكي، وعندما قال لهم: ماذا كنتم ستفعلون لو كان الأمر لكم؟ أخبره بأنهم سوف يسلمون حكم العراق إلى قائد عسكري قوي ثم ينسحبون سريعًا! وهذا الحوار القصير مهم وذو دلالة.

عقب سنغافورة رشح سفيرًا في البرازيل، وهبطت طائرته في مطار “سان باولو” بعد أن عبرت بين مبانيها الشاهقة وهو وضع مرعب تكرر في كل عودة إلى المطار، وقبل ذهابه لعمله الجديد استفاد من خبرة الشيخ وهيب بن زقر لعلاقته الاقتصادية مع البرازيل، واستقبله الرئيس “لولا دي سيلفا” الذي ذكّره بتسليم أوراق اعتماده إذ كاد السفير أن ينسى هذا العرف انشغالًا بجملته البرتغالية الوحيدة التي حفظها ليجامل بها الرئيس، بيد أنه غادر تلك البلاد بعد سنوات عمله وهو يجيد اللغة البرتغالية تمامًا.  

وفي العمل الدبلوماسي مواقف لطيفة، منها أنه ذهب إلى “كولومبيا” لتمثيل المملكة في حضور حفل تنصيب الرئيس، فارتدى الزي السعودي اللافت للأنظار حتى تجمهر حوله الناس لالتقاط الصور التذكارية معه، وهو مالم يحدث للسفير الإماراتي الذي ندم على أنه لم يلبس زيه الوطني، ومنها أن أحد العرب تحدث مع دبلوماسي لبناني مبديًا تخوفه على دين أولاده المحاطين بالنصارى في البرازيل بينما الدبلوماسي اللبناني ماروني!

كذلك اشتهر الشعب السنغافوري بتعظيم مسألة الأكل والسؤال الدائم عنها، ولذلك استقطبوا في بلدانهم أشهر الطهاة من أقطاب الأرض، وحرصوا على افتتاح مطاعم عالمية مرموقة، وهذا أمر تشفع لهم فيه أنه ليس الأمر الوحيد ولا الأساسي لديهم، وأما في البرازيل فتكثر المهرجانات والحفلات، وتستقطب الحكومة الاجتماعات الدولية لتعريف العالم بها، ولا يكاد بيت برازيلي أن يخلو من ركن للشواء، وعندما شاهدت زوجة “روزفلت” شلالات “إيغوازو” التي تُعدُّ أكبر شلالات في العالم اندهشت وقالت: “مسكينة يانياغرا”!

أيضًا تحدث الدبلوماسي الأكاديمي عن نور تلك الطفلة الرضيعة التي احتضنتها زوجته بمباركة منه، وأرضعتها زوجة شقيقه الأصغر؛ فصار المؤلف عمًّا لها بالرضاعة ومحرمًا ومثل الأب وزيادة، فعوضتهما نور عن الحرمان من الذرية وملأت عليهما البيت حتى غدت من أجمل معاني الحياة عندهما، ولعلهما أفاضا عليها بشعور الأسرة الحنونة المربية، فتعلمت الفتاة وعشقت القراءة، وأجادت اللغة البرتغالية، وأتقنت الطبخ وشؤون المنزل، وهي الآن على وشك التخرج في قسم القانون، وتهانينا لها مقدمًا مع دعوات متتابعة بالتوفيق والفلاح.

وفي آخر السيرة أفاض الزوج بالحديث عن زوجته التي غادرته بعد رفقة خمسين عامًا ولم تفارقه؛ فكلّ شيء حوله يذكره بشيء، وعدّد بعضًا من محاسنها في سرد عاطفي ربما لا تعني القارئ تفاصيله، وإنما يلفت نظره الحب والوئام بين الزوجين، وأعمال الزوجة الحسنة من الباقيات الصالحات في الصلة والتعليم، والمشاركة المجتمعية والخيرية والوجدانية مع الأقارب والأصدقاء والجيران، إضافة لجهدها الخاص تجاه الأطفال وحديثات العهد بالزواج والمرضى، ثمّ وفاء الزوج لشريكة العمر التي تركته أرملًا لولا نور من ذكراها في قلبه، ونور من جميل تربيتها في بيته.

كم هو حسن أن يكتب المرء سيرته أو ذكرياته أو يومياته أو مواقفه أو ما شاء من تجاربه؛ كي يفيد أيّ قارئ يطلع عليها، وحتى يرفد مكتبه بلاده وأمته بخبر وخبرة وعلم، ويُبقي على ذكره لعلّ دعوة مقبولة من قراء قادمين في أزمان آتية تنفعه أينما كان، ويتأكد هذا المطلب في حقّ أيّ إنسان لديه من ثراء التجارب ما يمكن أن يكون للآخرين عقلًا آخر، وحياة أخرى، وأنوارًا تضيء الطريق للعابرين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 07 من شهرِ ربيع الآخر عام 1442

22 من شهر نوفمبر عام 2020م 

Please follow and like us:

One Comment

  1. سيرة ممتعة للدوبلوماسي محمد امين كردي . الذي ولد ليكون دبلوماسيا وجديرة بالقراءة والاستفادة من محتواياتها. . ولقد اعجبني القول “ما اقبح الانسان اذا شابه الحيوانات التي لم توهب عقلا . ولم تسمع عن الحياء يوما ” فالواجب على العاقل لزوم الحياء . لاانه اصل العقل . وبذر الخير . وتركه اصل الجهل . وبذر الشر . هنيئا لمن وهبه الله الحياء وفقك الله لما يحبه ويرضاه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)