سياسة واقتصاد

مع وزير الخارجية

Print Friendly, PDF & Email

مع وزير الخارجية

ربما يكون وزير الخارجية من أكثر الموظفين سفرًا منافسًا بذلك رجال الأعمال والاستخبارات والسياحة، وهو واجهة البلد الذي ينتمي إليه، وأفضل ناطق باسم سياسته الخارجية وموضح لمواقفه، ومن الضرورة أن يكون ذا قدرات فائقة في الحديث والإقناع والتفاوض والتملّص، مع سرعة في البداهة، وثقافة تاريخية وبلدانية عالية، وإجادة أكبر عدد ممكن من اللغات، وهو عضو أساسي في تسيير شؤون اقتصاد بلاده، وصناعة العقل الإستراتيجي لها، وحماية أمنها القومي؛ ذلك أن السياسة الخارجية الحصيفة تستهدف في النهاية تحقيق مصالح داخلية.

لذلك تأهل شاغل هذا المنصب البراق لرئاسة الحكومة أو الدولة، ونرى ذلك جليًا في بلاد كثيرة منها بريطانيا وإسرائيل وأمريكا، ففي بريطانيا صار عدة وزراء خارجية رؤساء للحكومة وبالعكس، ويحتلّ وزير الخارجية الأمريكي موقعًا متقدمًا جدًا في خط خلافة الرئيس، وأصبح ستة وزراء خارجية أمريكان رؤساء لبلادهم منهم ثلاثة كان وزير الخارجية هو منصبهم السابق للرئاسة مباشرة، وهذه سمة متكررة في الحكومات اليهودية المحتلة، وربما تظهر في بلاد أخرى بيد أنه لا وقت للبحث المستفيض، والفكرة تصل بالمثال الواضح.

ولمركزية وزارة الخارجية في العمل الحكومي غدت أول وزارة سعودية تنشأ قبل تكوين مجلس الوزراء بأزيد من عقدين، وأول وزير لها هو الأمير فيصل-الملك فيما بعد- وظلّ وزيرًا منذ عام (1349) حتى عام (1384) مع انقطاع يسير أصبح بموجبه معالي الشيخ إبراهيم السويل وزيرًا للخارجية، ثمّ رجع لها الأمير فيصل عام (1382) واحتفظ بحقيبتها حتى وهو ملك مع تعيين معالي الشيخ عمر السقاف وزير دولة للشؤون الخارجية، ومما يروى أن معالي الشيخ إبراهيم السويل رفض استخدام مكتب الوزير توقيرًا لمكانة الأمير فيصل الذي عاد لوزارته ومكتبه بعد أقل من عامين.

وخلف الأبَ نجله الأمير سعود الفيصل الذي سمي وزيرًا للخارجية عام (1395=1975م) ومارس العمل مع أربعة ملوك دون انقطاع حتى أعفي عام (1436=2015م) ليسجل بذلك أطول مدة متواصلة يقضيها وزير للخارجية في العالم فيما أعرف، ويقاربهما الشيخ صباح الأحمد الذي تولى وزارة خارجية الكويت منذ عام (1963م) حتى عام (2003م) مع ابتعاد قصير عقب عودة التشكيل الحكومي بعد التحرير من أبريل سنة (1991م) حتى أكتوبر سنة (1992م).

أما في مصر فلم يشهد المنصب مددًا طويلة باستثناء عشر سنوات متوالية قضاها الوزير عمرو موسى في الخارجية، وقد تعاقب على خارجية مصر في عشر السبعينيات الميلادية بضعة وزراء وربما يعود ذلك لأجواء زيارة السادات للقدس، وتبعات اتفاقية التطبيع مع إسرائيل في كامب ديفيد، بينما لا يكاد وزير الخارجية الأمريكي أن يطيل المكوث في منصبه باستثناء أحوال قليلة على رأسها استمرار الوزير “كورديل هِل” أحد عشر عامًا في منصبة أمضى نصفها تقريبًا خلال الحرب العالمية الثانية، ونال جائزة نوبل للسلام لمشاركته في تأسيس الأمم المتحدة، واحتفظ ولايتي بمنصبه في خارجية إيران ستة عشر عامًا، وهي نفس السنوات التي بقي فيها “سيرغي لافروف” وزيرًا لخارجية الروس والفرق أنه على رأس العمل الآن، والمدة قابلة للزيادة خاصة أن الرجل مخضرم صلب.

ولخطورة المنصب تعاقبت عليه أسماء مميزة دبلوماسيًا وثقافيًا إضافة لمن ذكروا سابقًا مثل “هنري كسينجر”، و “جيمس بيكر”، وعبدالرحمن شلقم، وفاروق الشرع، ومنصور خالد، وطارق عزيز، وجواد ظريف، و “روبن كوك” وزير الخارجية البريطاني الذي عارض بصلابة مشاركة بلاده في عدوان أمريكا على العراق سنة (2003م)، ووصف حكومته بأنها لا تعرف العار، وانتزع هذا الرجل المغرم برياضة تسلّق الجبال الإعجاب من مجلس العموم البريطاني وهو يلقي خطاب استقالته التاريخي؛ إذ قاطعوه بالتصفيق عدّة مرات خلافًا للمعهود عن ثقل الإنجليز وطبيعة أعرافهم التي لا يتجاوزونها.

كذلك يلفت النظر في سير وزراء الخارجية أن غالب البلدان تختار وزيرًا لخارجيتها من ضمن قوائم سفرائها الناجحين في البلدان الأكثر أهمية لها، أو رئيس بعثتها الدبلوماسية عند الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات الإقليمية المؤثرة، أو العكس كما فعلت كولومبيا بتعيين وزير خارجيتها “خوليو سيزار طورباي” سفيرًا لها في لندن، ومما يجدر ذكره هنا أن هذا الوزير السفير يرجع لأصول لبنانية.

ومما استرعى انتباهي أن السنة الأولى للثورة الإيرانية عام (1979م) تعاقب فيها خمسة وزراء على المنصب الذي يعد الطبيب والأستاذ الجامعي علي أكبر ولايتي أطول من جلس على كرسيه، ولا بأس من الإشارة إلى أن الوزير الإيراني مهما كان تخصصه فإنه يدرس غالبًا في الحوزة لتحصيل العلم بما يعينه على التناغم مع لغة نظام الحكم، وليس الأمر قصرًا على حكومة طهران فحتى بعض وزراء خارجية أمريكا ومسؤوليها الكبار كانوا من القسس مثل جون فوستر دالاس، أو من الإنجيليين المتعصبين، أو من المسكونين بعقيدة قيامة هرمجدون.

ومن حكايات الدين والثقافة لوزراء الخارجية أن “مادلين أولبرايت” لم تكتشف أنها يهودية إلّا في وقت متأخر بحسب زعمها، وحين أراد الرئيس “ترامب” استثارة عواطف جمهوره بفكرة إيجاد سجل للمسلمين في أمريكا أعلنت “أولبرايت” بأنها ستسجل نفسها ضمن المسلمين احتجاجًا على مقترح الرئيس العنصري الذي أبطله الله، وغيّر ميخائيل حنّا اسمه إلى  طارق عزيز، ويُقال إن بعض الزعماء العرب تفاجأ حين علم أنه ليس مسلمًا، بينما صرح عزيز بأنه أقرب إلى الإسلام منه إلى دينه الأصلي، ولم يمنعه من اعتناق الدين الإسلامي إلّا خوف سوء التفسير من الآخرين.

وحين احتدّ النقاش بين حافظ الأسد ووزير الخارجية الأمريكي “جيمس بيكر” قال الأسد لضيفه الأمريكي: في المرة القادمة سوف تراني بلحية كثة! ويُشاع بأن بطرس غالي شعر بمرارة لحرمانه من منصب وزير الخارجية لأنه قبطي في بلد غالب أهله من المسلمين، ولم يقنع بالمناصب الوزارية التي تولاها مع مشابهتها للخارجية، وحازت وزيرة خارجية النمسا ” كارين كنايسل” على إعجاب الكثيرين حين قرأت خطابها في الأمم المتحدة بأربع لغات أولها العربية التي تعشقها.

كما أصبحت المرأة وزيرة للخارجية في أربعين بلدًا تقريبًا، مع أن كثيرًا منهن وصلن إلى المنصب في أوقات متأخرة نوعًا ما، إذ تسلّمت “مادلين أولبرايت” منصبها عام (1997م) وهي أول وزيرة للخارجية الأمريكية، وفي البلاد الإسلامية نالته المرأة في تركيا وباكستان وغيرهما، وأما الدول العربية فوصلت المرأة إلى هذا المنصب مرتين في موريتانيا، ومرة في الصومال، ومرة في السودان، علمًا أن الوزيرة الموريتانية الناهة بنت حمدي ولد مكناس هي أول وزيرة عربية للخارجية، وشغلت المنصب عام (2009م)، وكان والدها وزيرًا سابقًا لخارجية بلادها، ومن المحفوظ أبيات شعر لسفير سوداني يبدي إعجابه بها.

وبعد أن قضت وزيرة خارجية السويد “مارغوت فالستروم” خمس سنوات على رأس الوزارة استقالت من منصبها عام (2019م) لتمضي أكبر وقت مع زوجها وأولادها وأحفادها، وفي عام (2018م) استضافت كندا اجتماعًا وزاريًا مقصورًا على النساء حضرته تسع عشرة وزيرة للخارجية ليس معهن أيّ رجل ومنهن الوزير السويدية آنفة الذكر، وقد استولت وزيرة الخارجية الأمريكية السمراء كونداليزا رايس (2005-2009م) على فكر القذافي فجمع لها صورًا كثيرة عُثر عليها في مقر إقامته بعد الخلاص منه.

ومن طريف المواقف أن وزيرة الخارجية المكلفة بتونس ألقت كلمة أمام البرلمان ونطقت كلمة “السلم” على أنها “السمن”، ويبدو أنها لم تحسن التفريق بين المطبخ والبرلمان مما أثار استهجان المتابعين لغلطاتها اللغوية، وذكر عمرو موسى في سيرته أن حسني مبارك إذا أراد السفر في رحلة خارجية أوفد وزير خارجيته عصمت عبدالمجيد إلى أيّ بلد، ليخلو له الجو فيصطحب معه وزير الدولة للشؤون الخارجية بطرس غالي لأنه حكّاء ماتع خلافًا للوزير الرزين جدًا، ومن مرويات الوزير موسى أن وزير الخارجية الأمريكي “وارين كريستوفر” لم تهضم معدته الطعام المصري؛ فطلب مكتبه في زياراته اللاحقة أن تكون الاجتماعات بلا وجبات طعام.

ويُروى أن الأمير سعود الفيصل يعتني بكتب الكلمات المتقاطعة ويأخذها معه على متن الطائرات، ولاريب أن عمل وزير الخارجية يقوم على البداهة، والتخمين، وسرعة التفاعل، وحضور المعلومة، وهذه مقومات تعينه من أجل إيجاد حلٍّ أو الخروج من أزمة، وفكرة الكلمات المتقاطعة تجعل الذهن أكثر استعدادًا وقدرة على حلحلة المعضلات، وفي هذا السياق فكثيرًا ما يكون لوزير الخارجية تاريخ سابق في العمل القانوني أو الإعلامي أو الاقتصادي وربما العسكري أحيانًا، إضافة إلى تعمقه في القراءة والمتابعة؛ وهذه ممكنات تساعده على الإنجاز والتميز.

أيضًا يحظى وزير الخارجية بتأييد رئيسه ومرجعه أو هكذا ينبغي حتى يتصرف بكلّ ثقة، وهذه الثقة من أسرار نجاح أيّ وزير خارجية إذا أضيف إليها القدرة على التفاوض وبناء التوازنات، وطول النفس، والثروة اللغوية، والمهارات الذهنية، مع الثقافة الواسعة، ولذلك شعر المراقبون بأن “هنري كسينجر” يتصرف وكأنه الآمر الناهي، وماثله وإن بدرجة أقل “جيمس بيكر”، وقال طارق عزيز بأن صدام حسين قبل منه الرأي المخالف تقديرًا لثقافته، وهو رأي ألمح إليه عبدالرحمن شلقم في أحاديثه عن معمر القذافي، وربما أن حافظ الأسد منح شيئًا من الثقة لوزيري خارجيته على التوالي عبدالحليم خدام، وفاروق الشرع الذي أصدر كتابًا فيما بعد عرض فيه الرواية المفقودة للموقف السوري من أحداث محلية وعربية ودولية بما فيها المفاوضات مع إسرائيل.

أعان الله أيّ وزير للخارجية؛ فهو مضطر للعمل المضني المتواصل، ولإحسان التعامل مع وسائل الإعلام ومشاغبات أهلها، وأن يتقن فنّ الكلام دون أن يقول شيئًا لا ينبغي الإدلاء به، وفنّ الصمت الذي يقول به أشياء، إضافة إلى امتلاك مواهب مسرحية، وإدارة موقفية، وسهولة في الانتقال من ضفة إلى أخرى دون أن يشعر بحرج مادامت المصلحة العامة متأكدة فيه، وعليه مسؤولية التيقظ لأيّ كلمة أو حركة أو تلميح، وأن يستحضر ضرورة ضبط النفس والأعصاب دومًا، ويستخدم التورية والكلمات حمّالة الأوجه أكثر من استخدام الرجال لها مع النساء والعكس، وجوهرة أعمال وزير الخارجية الثقافية أن يقيّد ذكرياته وتحليلاته، ويهيئها للنشر في الزمن الملائم بما يفيد ولا يضر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 21 من شهرِ محرم عام 1442

09 من شهر سبتمبر عام 2020م   

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)