الهزاع حينما كان هناك!
أصدر معالي الأستاذ عبدالرحمن بن عبدالعزيز الهزاع سيرته الذاتية بعنوان: كنت هناك رحلة 41 عامًا في الإعلام، ونشرت شركة دار تشكيل للنشر والتوزيع الطبعة الأولى منها عام (2020م) مكونة من إهداء فمقدمة وقالوا عن الكتاب قبل صدوره، ثمّ ثمانية عشر قسمًا بعناوين موضحِّة للمحتوى يتلوها ملحق بالصور، ومجموع صفحاته بدون الصور (299) صفحة، وعلى غلافه الأمامي صورة حديثة للمؤلف لعلّها تفيد التأمل لا الحيرة، وعلى الغلاف الخلفي صورة قديمة له في المرحلة الابتدائية. ويلمح عنوان الكتاب إلى أمرين أولهما: أن الرجل حقق حلمًا شخصيًا، وثانيهما: أنه أمضى حياته العملية جميعها في الإعلام، وقد مرت تلك السنون مرور السحاب كما وصفها في مقدمته.
ولد الهزاع في الطائف سنة (1373) وترجع جذور أسرته الكريمة إلى منفوحة، ولم يستطع المشي قبل بلوغه الرابعة من عمره، وفي الجامعة لبس العقال الذي كان ممنوعًا في المعهد العلمي، وليس هذا هو التغير الوحيد عن نظام الدراسة الثانوية، ففي الجامعة مساحة من الحرية ومعها المسؤولية. ثمّ درس في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على يد علماء كبار مثل د.عبدالرحمن رأفت الباشا، وَ د.عبدالخالق عضيمة، وّ د.محمد الراوي، ولعلّ هذا مما أفاده لغويًا، ولديّ يقين راسخ بأهمية اللغة والتاريخ للإعلامي، والسياسي، والكاتب على وجه الخصوص.
بعد تخرجه في جامعة الإمام أقبل على العمل الإعلامي الذي ترك لأجله الفرص الأكاديمية، ومن شُغف بشيء أبدع فيه أو كاد، ووصف لذة سماع اسمه في الإذاعة وفخْر والده بهذا المنجز، ثمّ تقلّب في جلّ أقسام وزارة الإعلام سواء على وظائف عادية أو قيادية، وجمع الأمرين في بعضها، فعمل في إدارات الإذاعة والتلفزيون والأخبار والرقابة والإعلام الداخلي والعلاقات الدولية موظفًا ومديرًا ووكيلًا ثمّ رئيسًا، وحضر مناسبات محلية ودولية، ورافق وفودًا رسمية عضوًا في الوفد الإعلامي أو رئيسًا له، وفي أحدها أُقصي عن الرئاسة والوفد بسبب غضب وزير الإعلام عليه!
لذلك نجد في الكتاب شهادة على ماضي الإعلام وتطوراته في زمن سبعة وزراء خلال أربعة عقود مع أن السادس لم تدم عضويته في مجلس الوزراء لأكثر من شهرين، والسابع لم تطل علاقة المؤلف معه بسبب الإعفاء. وفي شهادته تأكيد للمعضلة الإعلامية القائمة على ركنيين يعيقان أيّ تقدم إعلامي وهما: شح الموارد المالية قياسًا للاحتياج، وترهل الأنظمة وضعف الصلاحيات مما يجعل التفاعل بطيئًا، هذا غير المؤاخذات الرسمية والشعبية من مستويات مختلفة وآثارها على توجس العاملين وخوفهم؛ ومثل هذا التوجس يئد الإبداع والجرأة.
ومن اللافت المحزن مصير عدد من الأعمال والمشروعات التي بدأها أو أنجزها معاليه خلال رئاسته لهيئة الإذاعة والتلفزيون، وبعد ترجله عن رئاستها اختفت من الوجود وكأنّ العمل شخصي وليس لمنفعة الوطن والناس، وهذه التصرفات القاصرة تتكرر أحيانًا وأتمنى أن تكون الرقابة عليها مشددة؛ فبأي حقٍّ يسعى مسؤول جديد لطمس آثار سابقه لمجرد ارتباطها باسمه، وهي أعمال عامة صرفت عليها أموال وأوقات وجهود؟!
كما يورد أبو ياسر في سيرته وقائع عدة، مثل برنامجه مع الفدائيين الذي احتجت عليه إسرائيل، وأخبار ترقياته وتنازله عن بعض الوظائف لأجل غيرها، وبعثته لأمريكا وتعلمه اللغة الإنجليزية بإصرار، وأزمة الحصول على سكن هناك مع وجود أطفال، ورجل المرور الذي أوشك أن يوقفه ليلة في السجن بسبب مخالفة مرورية ظنًا منه أنه إيراني، وهذه الواقعة متزامنة مع احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران، ومن أطرفها الأستاذ اليمني الذي يدّرس التاريخ الإسلامي في جامعة أمريكية، وكاد أن يكون تدريسه لهم بالعربية لولا وجود طالبة أجنبية واحدة معهم.
أيضًا ذكر بصراحة بعيدة عن التزهد الذي يدّعيه بعض أصحاب المناصب أنه كان يطمح للمنصب الذي بلغه، وراودته الأحلام عنه حتى غدا يقينًا يُذاع بأمر ملكي، ولم يحجب حقيقة مشاعره الطبيعية عن القارئ وهي حسنة تحسب له، ويضاف لجملة حسنات الكتاب إنصافه للوزراء والزملاء الذين عاصرهم، فهو وإن ذكر غضبات وزارية شديدة من بعض الوزراء تجاهه، أو مواقف لم يحمدها، إلّا أنه لم يغمطهم حقهم من التقدير والثناء حسبما يعتقد.
أما القصة التي تحبس الأنفاس فحدثت في يوم 27 من شهر شعبان عام 1412 وهو اليوم الذي جاء فيه معالي الأستاذ سليمان العيسى لاستديو الأخبار، وسجل الأوامر الملكية الخاصة بالنظام الأساسي للحكم، ونظام الشورى، ونظام المناطق، ولم يحدد موعدًا للبث، فحاول الهزاع الاتصال بالوزير والوكيل ومدير مكتب الوزير لأخذ التوجيه منهم دون جدوى بسبب خروجهم من مكاتبهم، ولم تكن الهواتف الخلوية متاحة آنذاك، وبدأ الوقت يتقارب وهو محتار بين إذاعتها ظهرًا أو تأخيرها إلى نشرة التاسعة والنصف ليلًا، فاجتهد وأعلنها في أخبار الظهيرة!
فصبت عليه مباشرة الاتصالات التي تلومه بتقريع لأن الملك فهد ينوي تسجيل كلمة حتى تبث قبيل إعلان الأنظمة، وكان الوزير والوكيل والمدير عند الملك في مكتبه بالديوان الملكي لتسجيل الكلمة، وحينما فتحوا الشاشة في مكتب الملك لمشاهدة الكلمة المسجلة ومراجعتها، ظهرت لهم الأوامر تتلى على الملأ، فكاد الرجل أن يذهب ضحية لاجتهاده لولا شفاعة معالي الوزير علي الشاعر له عند الملك مغتنمًا قرب دخول شهر رمضان، علمًا أن الهزاع اُستدعي يومها للديوان الملكي، وذهب مع عميد ناصح، فحُقق معه مرتين خلال ساعات عصيبة حتى عاد لمنزله قبيل منتصف الليل؛ وفي الكتاب تفاصيل حولها.
ومن الوقائع الحرجة أنه لم ينشر أخبار أمير في النشرة الرئيسية لأن مكانها في الأخبار المحلية؛ فأوقفه الوزير الشاعر عن العمل، بيد أن الوزير تفاجأ من الغد إذ وجده الوحيد في مكتب الأخبار إبان أيام الحج، وبسبب النسيان قطع الأخبار بعد ظهور مذيعها على الهواء مباشرة، وعرض لقاء معالي وزير الإعلام د.فؤاد الفارسي مع الشورى وما فيه من نقاش ساخن فغضب الوزير بعد أن أخبره آخرون بعرض البرنامج في صورة شكر على الشفافية، ثمّ زاد حنق الوزير بعد إعادة بث اللقاء آخر الليل، ومنها تضايق وزير الثقافة والإعلام معالي د.عبدالعزيز خوجه من محاضرة ألقاها المؤلف مع أنه استند فيما قاله إلى نصوص الأنظمة الصريحة وليس لفهمه.
كذلك يروي المؤلف بعض المواقف مع الملوك والأمراء، فالملك عبدالله قال له بعد أن قابله على إثر تعيينه رئيسًا لهيئة الإذاعة والتلفزيون: “بنشوف وش بتسوي”، وانتقد الأمير مقرن تطويل الأخبار فلما فسر الهزاع ذلك بإلزامية نشر نشاطات أمراء المناطق قال له مقرن: “أنا مسامحكم، لا تطولون أخباري”، وحين لم يجب على اتصال ورده من الأمير تركي بن سلطان أهداه الأخير جهاز جوال حديث يمكنه من استثناء أرقام إذا كان الجهاز على وضع الصامت فلا ينقطع تواصله مع أصحابها، ونصحه الأمير سعود بن نايف بالصدق مع المسؤولين لينجو، وفي الطائرة استخدم مجلة بعد لفها على هيئة ميكرفون وأجرى لقاء باسمًا مع الأمير فيصل بن سلمان، وحضر أول اجتماع لمجلس منطقة الرياض برئاسة الأمير سطام فأصبح المذيع مع أنه عضو في المجلس!
ومن لفتات الكتاب أنه كم من فكرة عرضها على وزير فرفضها بينما قبلها وزير لاحق مما ينفي اليأس، وصرح له الوزير الشاعر بأن نشرة الأخبار مهمة ومتابعة وتمثل نصف الهم التلفزيوني عنده، وسأله معالي الوزير د.عادل الطريفي عن علاقته بحساب يحمل اسمه في تويتر؛ فنجم الفتور بينهما مبكرًا، وبعد حينٍ أمر الوزير بمنعه من الكتابة الصحفية فكتب مستفسرًا عن السبب وأوصل سؤاله بنفسه لمكتب الوزير الذي غادر الوزارة دون أن يجيب! ومما تطرق إليه دون توسع تداخل الصلاحيات، وتزاحم المظاهر وكثرة المجاملات التي قضى عليها معالي الوزير د.عبدالعزيز الخضيري مع قصر أيام وزارته.
ومن أخبار الزمن الجميل في الكتاب عناية الرقابة بالمحاذير السياسية والدينية والمجتمعية قبل فسح أيّ مادة، وهو مبدأ ضروري حينما يفعّل بعلم وعدل وعقل وتوازن، ومنها مساءلة المجاهر بالرذيلة ومعاقبة القناة التي بثت اللقاء المخزي معه، وتخصيص مكاتب مناسبة للموظفات تراعي خصوصية المرأة، وإنما يحنّ الناس إلى الجمال أكثر ما يكون الحنين وأشده إذا تقاصرت مساحاته وضاقت مساماته، والله يعيذنا من القبح والتفاهة وأزمانهما.
وختم المؤلف مسيرته بالتدريس في كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام، وهو مسلك حكيم من الكلية للإفادة من رجل جمع الخبرة والعلم. ثمّ ذكر مشاركاته ومواقفه، ولم يتوسع فيما يخص أسرته أو لباب نظراته نحو الحياة والعمل، وهي من أجمل ما يكون في السير الذاتية التي يؤمل فيها ألّا تغرق في تفاصيل العمل؛ فأنباء العمل مملة ولذلك ذهب الكاتب صبيحة إعفائه مع قرينته إلى مقهى يتناولان فيه الفطور شريطة ألّا يتحدثا عن العمل، ففي ذلك اليوم تبدأ حياة جديدة جملّها الله بالطاعة والإحسان والتوفيق.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 22 من شهرِ ذي الحجة عام 1441
12 من شهر أغسطس عام 2020م
One Comment