إدارة وتربية

أرزاق تحت نار الغضب!

Print Friendly, PDF & Email

أرزاق تحت نار الغضب!

الغضب خلق منهي عنه، وكثيرًا ما تنجم منه الشرور، ومع ذلك ففي بعض الأحيان يكون الغضب مطلوبًا وعواقبه محمودة، مثل غضب موسى عليه السلام غيرة على توحيد المألوه سبحانه، وغضب ذي النون عليه السلام من صدود قومه، وغضب الجناب الكريم صلى الله عليه وسلم إذا اُنتهكت محارم الله أو أُوذي أولياؤه، وغضب حمزة بن عبدالمطلب من قريش حتى أعلن إسلامه من شدة غضبته وهم يسمعون.

وفيما سبق كتبت مقالة عن الرزق الذي جاء يسعى إلى أهله دونما تخطيط مسبق، وإنما ساقته أقدار الله وتدبيره، ولا يعني ما قلته هناك وما سأقوله هنا الدعوة إلى التخاذل والتواكل أو الغضب، وإنما الغاية أن يكون مع العمل وفعل الأسباب تعلق كبير بالمولى القدير، فهو سبحانه كلّ يوم في شأن، وأمره عليه يسير قريب، وإن رآه الناس قاطبة بعيدًا عسيرًا.

لأجل ذلك سأورد بعض القصص التي سمعتها من أصحابها أو من رواة عنهم مباشرة، ولا بأس من الإشارة إلى أن دقائق الروايات وتفاصيلها ليست مطلوبة، وليس من الحكمة سردها بما يكشف شخصيات أصحابها، والعبرة منحصرة في أن الحادثة يمكن أن تقع وليست مستحيلة، أو ضربًا من الخيال الصرف، وعقيب ذلك عسى أن تنفرج منها أسارير، وينبعث الأمل في زمن تتكاثر فيه أسباب اليأس.

موظف غاضب وعجوز ثرية:

تشاكل موظف مع مديره حتى ارتفعت أصواتهما؛ فخرج الموظف مغضبًا وقدم إجازة عن ذلك اليوم الذي حضر أوله، ثمّ توجه لمكتبه العقاري الصغير خلافًا لعادته في فتح المكتب خلال الفترة المسائية فقط. وقبيل آذان صلاة الظهر توقفت سيارة أمام مكتبه، ونزل منها سائق مهيب وناداه للحديث مع سيدته، فخرج إليها ووجدها امرأة عجوزًا تحكي سيارتها وحليها وطريقة كلامها ونغمة حديثها ثراءها والطبقة التي تمثلها، ثمّ سألته عن خبرته العقارية، وطلبت منه الإشراف على بيع مخططها فوافق، وتبعها لمعاينة الموقع، والاتفاق على يوم البيع وزمانه، وأخبرته العجوز أنها تريده هو دون سائر الناس لإتمام البيع، ووعدته بالإكرام فوق ما سيناله من مقابل لأتعابه، وسبحان من يسخر الناس لبعضهم، ويخلق التآلف والتناكر في الأرواح، ويجعل الود والنفرة في القلوب.

وفي اليوم الموعود، ذهب الموظف الغاضب سابقًا للمخطط المستهدف، فهالته فخامة السيارات المجتمعة وكثرتها، والكافة يسألون عن وكيل طويلة العمر، فاتخذ لسيارته مكانًا قصيًا كي لا تقتحمها العيون وتزدريه  بسببها النفوس -مع أن قياس الناس بمراكبهم ليست قاعدة صحيحة باستمرار- واخترق حشودهم بثقة، وبعد عرض وصخب متعارف على مثله، رست الصفقة على ائتلاف من المستثمرين في العقارات والأراضي؛ وكسب الرجل ثلاثين مليون ريال من السمسرة ومن منحة تلكم العجوز المباركة وتواصِل العمل معها.

إقصاء المهمِل يصلح شؤونه:

زاد إهمال موظف ذي رتبة منخفضة عن حده وتكررت أخطاؤه، فغضب مديره الكبير رتبة وسلطة، وأصدر قرارًا نافذًا بنقله من العاصمة إلى مدينة طرفية صغيرة لا يكاد يعرف فيها أحدًا، فحاول الموظف استرحام مديره وتشفيع الآخرين فلم يفلح، حتى اكتشف أن التفكير بتغيير القرار شبيه بالعبث ومضيعة للوقت، فتوكل على الله ويمم وجهه شطر البلدة التي لا يعرف إلّا اسمها.

ثمّ مضت سنة فزار الموظف مديره في مقر عمله القديم، وقبّل رأسه عدة مرات وقال له: غضبتُ حين نقلتني، وبعد شهور اكتشفت أن النقل مصلحة لي في مالي وأسرتي وعملي؛ فلأول مرة ادخر قسمًا من راتبي، وتنخفض مصروفاتي الشهرية، وأخلو بأسرتي دون منغصات، وأنتظم في عملي، ولم يعد بيتي مضافة لقاصدي العاصمة لعلاج أو حاجة، ولم يصبح وقتي نهبًا للزائرين، أو تغدو حياتي لهاثًا خلف مصالح الآخرين دون روية!

الهارب من الرقابة:

بعد أن أصبحت الوظائف التعليمية شحيحة في المناطق الكبرى صارت المدن والقرى هي الخيار الوحيد غالبًا، فجاء أمر تعيين أحد المعلمين في مدينة حدودية زراعية، ولم يجد في نفسه قبولًا للمكان البعيد وهو شعور شاركه فيه والداه، وصادف في تلك السنة أن كانت الأوضاع مكهربة، والعيون والآذان تحيط بمنزلهم وهواتفه والحركة منه وإليه؛ فقرر الشاب الهروب من تلك الأجواء، وقبول التعيين طلبًا للسلامة والراحة.

فتوسعت علاقاته في مدينته تلك، وأضحى صديقًا لكبار السن من أهلها، وذات يوم قال له أحدهم: لديّ أرض زراعية كبيرة لم أعد قادرًا على زراعتها فما رأيك بأن تتولى تحويلها لأرض سكنية، وتقسمها، ثمّ تبيعها، فأنت من قوم تسري التجارة في عروقهم خلافًا لأهل الفلاحة والرعي والبادية؟! ولم يفوت الرجل الفرصة وفعل بمهارة فائقة، وغنم من هذه الفرصة أموالًا طائلة.

لذا جاءه رجل آخر وقال لي اصنع بأرضي كما فعلت بأرض فلان، فاشتراها منه بعد أن أخذ قرضًا، وهكذا حتى أصبح صاحبنا رجل العقارات من هذا الصنف وغيره من أنواع، وعجل بالاستقالة من العمل الحكومي ليتفرغ لباب الرزق الذي فتح له، ولعله في قرارة نفسه كان يدعو للرقيب الذي حمله على أن يغادر العاصمة إلى تلك البلدة الطيبة التي كُتب له فيها الغنى.

المهني البائع:

تخرج طالب عربي نشيط في كلية تخصصية مهنية راقية، ولأنه ليس مواطنًا قدم طلبًا للتوظيف في القطاع الخاص، فقبلته مؤسسة كبرى على أن يعمل في دوامين خلال كلّ يوم في جميع أيّام الأسبوع إلّا يومًا واحدًا، ويتقاضى راتبًا ليس مغريًا، فقال لمن عرض عليه العمل: يا هذا أنا أكسب من بيع الأقمشة أكثر من المبلغ الذي تعرضه عليّ دون أن أتحرك من بيتي في أقصى المدينة إلى موقعكم في ركنها القصي الآخر أربع مرات في اليوم والليلة؛ فلا حاجة لي بوظيفتكم، وتعمق فيما فتح الله عليه من تجارة، وصارت أعماله الحرة خيرًا له من رق الوظيفة، وطاف لأجلها الدنيا، ولتطوافه قصص ومواقف لعلها أن تروى.

اللهم ارزقنا ومن يقرأ ويؤمن من صالح فضلك، وعظيم خيراتك، دونما غضب أو مغاضبة، وجلّ أمر الله الذي لا يدرك حكمته البشر، ولربما أنهم تضايقوا من حال فكانت الخيرة فيه، وهذا من أسرار الغيب التي لا ينفذ إليها إنس ولا جآن، والله يرزقنا الرضى، والغنى، والعفو والعافية، ويستعملنا فيما يحبه أينما كنا، وعلى أيّ حال حتى نلقاه على الوجه الذي يجعل صلاتنا ونسكنا ومحيانا ومماتنا لله رب العالمين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 26 من شهرِ ذي القعدة عام 1441

17 من شهر يوليو عام 2020م  

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)