عبدالعزيز خوجه وكيمياء التجرِبة
فرغت من قراءة سيرة وزير الثقافة والإعلام الأسبق د.عبدالعزيز محيي الدين خوجه، التي صدرت طبعتها الأولى في فبراير عام (2020م) عن جداول للنشر والترجمة والتوزيع، وتقع في (277) صفحة، مكونة من استهلال وثمانية فصول ثمّ الملاحق، وعنوانها التجربة: تفاعلات الثقافة والسياسة والإعلام، وهي تجربة فيها تعلّم، وتعليم، وإدارة، ودبلوماسية، وسياسة، وأدب، وثقافة.
أشار المؤلف في الاستهلال إلى أن غرضه من التدوين توثيق التجربة، والاعتزاز بالتاريخ المحلي، وحفظ المعروف لأهله، مع التأكيد على حقّ المعرفة وضرورة الحوار، فحياته كانت مثل المعادلة الكيمائية ذات العناصر المتفاعلة ضمن مجالات عدة أحبها لديه ما ارتبط بالشعر، ولذا سيصدر سيرته الشعرية في كتاب مستقل، وآمل ان يكون قريبًا؛ فشعره موصول بحياته وأحداثها.
طاف بنا الكاتب في طفولته المكية وذكرياته قبل السفر للجامعة، وفيها نبوءة درويش ذي كشوفات بأن هذا الطفل سيقابل الزعماء فطار أبوه بمقولة “سيّد البُن” فرحًا. ومنها وفاة أخته فتحية في شبابها الباكر والمتهم بموتها شيخ الجن انتقامًا لابنه الذي مات بسبب لهو الفتاة البريء، ورحيل أخيه الأصغر حسن بعد أن زارتهم امرأة وهالها نموه فقالت دون أن تذكر الله: كأنّ عمره أربع سنوات وليس نصفها! ولحديث الموت في حياة الخوجه ظهور موجع كما في وفاة شقيقه عدنان، ووالدته، ووالده رحم الله الجميع.
ومن حكايا مكة تجمهر العائلة حول مذياع كبير يعمل بالبطاريات، وهو الوحيد في بيوت الجيران لسماع اسم ابنهم عبدالعزيز يُتلى بإذاعة لندن مع قراءة إنتاجه المكتوب بصوت إذاعي، ومهارته في تقليد الأصوات حتى ضبطه المدير المعلم المربي الأستاذ محمد فدا يمارس هذه المهارة في الفصل فأحاله لفريق التمثيل مستثمرًا ملكاته ولم يعاقبه، وفي هذا الفصل إشادة بتكاتف أهل مكة، وانتفاء ظهور آثار الطبقية الاقتصادية بينهم، ورواية فرحهم بالحجاج وموسمهم.
كما أحيط الفتى المكي بمجتمع مثقف من قبل والده الذي يقرأ الكتب والمجلات، وجده عثمان قزاز صاحب المكتبة النفيسة، وزوج أخته الأديب عبدالعزيز الرفاعي، إضافة لشقيقه زياد وأصحابه المثقفين والشعراء مثل الأساتذة عبدالله عبدالجبار، ومحمد زيدان، ومحمد فقي، وغيرهم الذين يستمعون لشعر عزيز وربما ناقشوه فيه وفي أوزانه، وكذلك مكتبة الثقافة وصاحبها الأديب صالح جمال، فضلًا عن خاله بكر وعميه محمد وكمال ومالهما من صداقات ثقافية، وبالتالي نشأ الفتى في بيئة ثقافية منذ صباه وشبابه، واستبان عليه أثرها فيما بعد.
أيضًا من قصصه ورواياته أن مراقب المدرسة ضربه لأنه رآه يركب دراجة في الشارع، وبسبب ذلك كره أخوه عدنان المدرسة، ويخرج رجال البيت المكي بعيدًا عنه حين يمتلئ بالنساء حفظًا للحرمات، وتغار حارات مكة على نسائها لدرجة سؤال أيّ غريب عن حاجته، وربما سافر ربُّ الأسرة وغاب مدة طويلة عن داره ليقينه بأن الحارة كلها ستهتم بأبنائه وترعاهم، ولم تخل تلك الأيام من أحاديث عن الحرم الشريف، وأطعمة مكة، وأسواقها، وأعراسها، وتزاور بيوتاتها.
كذلك تعرض خوجه لتجربة فشل مرة -تكاد أن تكون تجربة الفشل الوحيدة المصرح بها في الكتاب- مع نهاية سنته الجامعية الأولى بمصر إذ رسب في جميع المواد، وكان موقف والديه متفهمًا لم يحطم الشاب أو يجرحه، ولذلك حزم حقائبه وتوجه للرياض وجامعتها الفتية، ودرس حتى غدا المتفوق الأول لأنه تعلم من الدرس المصري، وليس له في الرياض علاقات واسعة كما في مكة، وليس فيها ملهيات مثل القاهرة! وعندما ذاق طعم التفوق ازداد تفوقًا واجتهادًا، ولم يكن النجاح هدفه فقط؛ بل الإبداع فيه، وهو الشرط الذي صاحبه دارسًا وأستاذًا ووكيلًا للوزارة فسفيرًا ثمّ وزيرًا.
وحين سافر للدراسة في بريطانيا رفض الانصياع لتثبيط زميله الذي نصحه بحزم حقائبه والعودة للمملكة، وأتعب نفسه ليفهم لهجة أستاذه الغريبة عليه، وحرص على التبكير صباحًا فظفر بساعة يومية ينفرد بها مع أستاذه الكبير مع أن آخرين لو طلبوا منه موعدًا لما فازوا به إلّا بعد ثلاثة شهور، وما أعظم بركة البكور. ومع أن مشرفه عالم كبير، واسم مؤثر في تخصصه، وأكاديمي عريق، إلّا أن ذلك لم يردعه عن سرقه اكتشاف تلميذه العربي عن عقم النساء! وإن الطبيعة البشرية لواحدة لكن بعض قومنا يحرمه الانبهار من رؤية ذلك.
ثمّ تحدث د.عبدالعزيز عن تجربته في الجامعة أستاذًا وإداريًا، وانتقاله الفجائي وكيلًا لوزارة الإعلام في عهد صديقه وزيرها الشيخ د.محمد عبده يماني، وما واجهه إبان عمله هناك من مكالمات منتصف الليل من الأمير-الملك- فهد سائلًا عن خبر أو معترضًا على خطأ، واتصالات بواكير الصباح من الأمير-الملك- سلمان لمناقشته في منشور صحفي. ومن طرائف هذه المرحلة رقصة شرقية قصيرة مقلقة، وغياب الأغاني عن التلفزيون في يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، هذا غير التنازع بين الفئات الفكرية المتصارعة، والإعلام والثقافة أحد ميادينها الكبرى.
أما سفارته في تركيا وما بعدها فجعلته يكتشف إمكاناته، ويحسب حساب كلماته، ويستوعب مواقف بلده، وأعانه مخزونه الثقافي وصفته الشعرية على تبوء منزلة خاصة في البلاد التي عمل فيها، وأنشأ مدرسة في تركيا وروسيا والمغرب، والتي في روسيا كانت أشبه بالمعجزة في سرعتها وضخامتها وخلوها من الشعارات السياسية، وهذا النقاء من أدران السياسة حكمة عزيزة إذ أن مجرد افتتاحها ورعايتها هو أعظم دعاية، ونال عليها شكرًا خاصًا من الملك عبدالله بعد أن شاهدها وعرف آثارها.
كما نفعته القراءة القديمة للأدب الروسي رواية وشعرًا، والصالون الثقافي الذي افتتحه بمنزله كلّ ثلاثاء في العواصم التي حلّ بها سفيرًا، وما صنعته تلك المجالس من علاقات دافئة وعميقة مع وجوه المجتمع، مكنته من حسن تقييم الرجال، وإصابة عجيبة في تقدير المواقف، وسهولة في التأثير على الأطراف المعنية، هذا غير خدمة المواطنين الذين يغشون هذه المجالس ويعرضون قضاياهم عليه فيها أو في السفارة، ولو ألزمت وزارة الخارجية سفاراتها المهمة بهذه الفكرة لاكتسبت قوة ناعمة إضافية، وزادت بصيرة السفراء بالبلاد وأهلها.
وقد تعرض السفير لعدة محاولات اغتيال، وبعد إحباط ثلاث منها قطع علاقته مع حسن نصر الله زعيم حزب الله في لبنان، وأما في تركيا فاستقبل شابًا فارع الطول مفتول العضلات بترحيب كبير وبشر فيّاض أثار استغراب الشاب وتردده، وبعد خطوات سردها المؤلف تبين أن الشاب كان ينوي قتل السفير لكن حسن اللقاء حال بينه وبين إتمام مهمته التي استأجر لها، ومن المحزن رواية ما أصاب موظفي السفارة من قتل وتفجير واعتداء إبان الحرب العراقية الإيرانية.
وتعبيرًا عن ثقل حضوره الدبلوماسي تمكن من التدخل للإصلاح بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية في تركيا، وأقنع أربكان بدعم مواقف السعودية أمام جمهوره وهو ما كان، وحين غادرها بعد تحرير الكويت ليصبح السفير السعودي الأول في موسكو قال له صديقه الرئيس التركي “أوزال” وهو يودعه: أتمنى أن تلحق بالاتحاد السوفيتي قبل انهياره! ويبدو أنه لم يدرك هذا الاتحاد بسبب تلاحق الأحداث هناك، فاضطر للعودة إلى المملكة كي يغير نص الرسالة الموجهة لزعيم الدولة المستضيفة، فقال له الأمير سعود الفيصل مداعبًا: فككت الاتحاد السوفياتي ورجعت.
ومن المواقف العصيبة خلال سفارته في موسكو، أن الملك فهد اتصل به قبيل الفجر وسأله عن مصير اعتصام الانقلابيين في البرلمان، فأجابه السفير جازمًا بأن الرئيس “يلتسين” سيضربهم بعد نصف ساعة على الأكثر! وحين سمعت زوجته جوابه لامته لاحتمالية تمديد المهلة أو حدوث استسلام؛ فصلى الفجر بأسرته، ودعى الله بأن يضرب الرئيس البرلمان! فلما دوت أصوات المدافع والانفجارات صاح الله أكبر! وتلقى من فوره اتصالًا ثانيًا من الملك فهد الذي راقت له صحة توقعات سفيره.
ومن فوائد هذه المرحلة أن الشيخ إبراهيم العنقري قال له: أريد أن أعمل شيئًا لله، فبنى السفير له مسجدًا في موقع مسجد قديم استولى عليه “ستالين” وحوله إلى إسطبل خيول، وفيها كيفية استئجار قصر فخم ليكون منزلًا للسفير مع أنه من قصور الضيافة الحكومية، واختيار مقر السفارة الجديد، ونهاية “يلتسين” الذي لم يحتفظ بشعبيته بعد قرارات اقتصادية جذرية هبطت بمستوى معيشة المواطنين؛ فاستقال من منصبه مسلمًا الراية لخلفه “فلاديمير بوتين“.
ثمّ انتقل السفير بعد ذلك إلى المغرب الأنيس وله جولات مع ملكها المثقف، الذي يعقد الدروس العلمية في قصره، ويناقش العلماء في الفقه والفكر واللغة العربية والفرنسية التي يبرع فيها أكثر من أهلها، ويأمر أحيانًا بقراءة قصائد السفير السعودي في الاحتفالات الدينية المقامة بين يديه. ومن اللطائف الملكية أن الحسن الثاني يُعدُّ بعض الأكلات بنفسه، ويركب العطور، وله اهتمام بالمقامات الموسيقية، وعاصر السفير كثيرًا من رحلات القنص والصيد في صحاري المغرب دون تفصيل أكثر.
بينما يكاد القارئ أن يلهث من تسارع الأحداث في لبنان، وتشمل اغتيال الحريري، وتكوين المحكمة الدولية بمقترح غير مقصود من حسن نصر الله، واختيار الرئيس الجديد، وإنهاء الوجود السوري، والحروب الخارجية والفتن الداخلية، والتداخلات الإقليمية والدولية، وتحمل الملك عبدالله تكاليف سداد رسوم جميع طلاب لبنان لعامين متتاليين بعد أن تدهورت الحالة المعيشية والاقتصادية لشعب لبنان، وتحذيرات السفير لآخرين من مخططات اغتيال وتصفية تمت كلها، والعلاقات المتينة مع أطراف لبنانية متصارعة، وترتيبات الطريقة المعقدة للالتقاء بحسن نصر الله الذي يرتبط مع د.خوجه بعلاقة كانت دافئة.
ثمّ انفتل الوزير إلى قمة أعماله الإدارية وزيرًا للثقافة والإعلام وعضوًا في مجلس الوزراء، وذكر إنجازاته فيها، وغالبها منجزات إدارية أو تنظيمية، ودرتها التي سبق بها ونال مع الملك عبدالله فضلها هو افتتاح قناة القرآن الكريم التي تحرك الصورة على أرجاء الحرم الشريف مع تلاوات قرآنية، وقناة السنة النبوية التي تحرك الصورة على أنحاء المسجد النبوي الشريف مع قراءة أحاديث نبوية. وفي زمن وزارته انبثقت وسائل التواصل الاجتماعي بقوة مهددة الإعلام التقليدي وزارة ووسائل، وهو ما عبّر عنه الوزير في مقالة له، كما ألمح في ختام هذا الفصل إلى ما يعتقد أنه سبب لإعفائه المفاجئ، وأورد ما تلاه من تطييب خاطر.
من لطائف الكتاب أن زميله الرسام قاس الأمور بمنطق وجيه فقال لصاحبه: يا عبدالعزيز أنت شاعر والشعراء في بلادنا كثير، وأما أنا فرسام وهم قلة، وعليه فسأصل للقمة، وكان الأمر على خلاف ظنون الرسام فيما يخصُّ القمة الإدارية والإعلامية. ومنها خبر فتاة بدوية تقود سيارتها في الصحراء فأنقذتهم من الهلكة قبل عقود، وسفره ليلة زواجه إلى بريطانيا لإكمال دراسته العليا، ودعوات أمه التي ماتت بين يديه واستجاب الله لكل ما سألت. وحين رأى مشرفه الإنجليزي انهماكه في العمل، حتى أن زوجته تحضر الغداء له في الكلية، أوقفه على حقيقة مفادها أن الحياة ليست عملًا فقط.
ولزوجته فايزة بكر ظهور في الكتاب، إذ تعلمت الإنجليزية والتركية والروسية، ودرست في غير جامعة محلية وعالمية مع زوجها، وبعد أن أجرى الوزير عملية جراحية قيل إنها تعيد للرجل شبابه وحيويته أصدر الملك عبدالله على مسامع أم محمد أمرًا ملكيًا شفهيًا فريدًا يقضي بمنع زوجها من الزواج! وعندما استضافه الملك سلمان في قصر طنجة طمأنها بأن زوجها عنده بأمان ولن يلتفت يمينًا أو شمالًا. وفي لبنان وصلت للسفير تحذيرات من ثلاث نساء يرتدين أحزمة ناسفة لقتله، فجاءت إليه وهو مع أسرته بأحد المطاعم ثلاث فتيات فخافوا منهن أول الأمر، ثمّ تيقنوا من لباسهن وأحجامهن أنهن صبايا بألحاظ ناعسة، وأجساد ناسفة من غير أحزمة متفجرة، مما جلب الضيق لزوجته فقط!
هذه سيرة رجل دولة فيها شخصيات وأحداث وأمكنة وأفكار، وهي أشبه بالمعادلة الكيمائية ذات التفاعلات والعوامل المساعدة الظاهرة والخفية، وفيها كذلك نفس شاعر يضبط الإيقاع والكلمات وأوزان المرحلة ومتطلباتها، وربما أنه لو عاد إليها في المستقبل لأصلح ما فيها من ملحوظات طباعية ونحوية وتاريخية، وأعاد تقييم التجربة؛ فاسمها على أيّ حال تجربة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 13 من شهرِ رمضان المبارك عام 1441
06 من شهر مايو عام 2020م
7 Comments