سير وأعلام عرض كتاب

محمد الصبيحي وصوت الدعاء

محمد الصبيحي وصوت الدعاء

قرأت في زيارة خاطفة إلى جدة كتابًا لذيذًا عنوانه: رحلة الأيام وذكريات في الإعلام، تأليف: د.محمد أحمد الصبيحي، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1440=2018م)، ويتكون من (226) صفحة تشمل إهداء المؤلف إلى أحفاده وأسرته، ثمّ البداية بسؤال حول هذا الكتاب لماذا، فخمسة فصول أولها بالإذاعة وآخرها باتحاد الإذاعات الإسلامية، وبينهما التلفزيون وأمريكا ولندن وأخيرًا ملحق الصور.

يقول أبو ممدوح إن عددًا ممن حوله نصحوه بكتابة سيرته، لكنه لم يتحفز إلّا بعد أن حثه أحد أصدقائه الخلّص ولم يسمّه، وخلال عمله في السفارة بلندن جمع السفير د.غازي القصيبي كبار موظفيه وتبادلوا سماع ذكرياتهم وخبراتهم، وكان الصبيحي آخرهم بعد محاولاته التملّص من ذلك الموقف، وحين استمع القصيبي لذكرياته شجعه على الكتابة، وأشار المؤلف إلى قول فيكتور هوجو المدح بعد الحياة حياة، وخير منه سؤال الخليل عليه السلام ربه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين.

ولد الصبيحي بمكة سنة (1358=1938م)، وهو واحد بين ثمانية أشقاء وأربع شقيقات، ومن ذكريات طفولته الأليمة وفاة شقيقه عبدالعزيز بين أنقاض بيت تحت الإنشاء في الطائف ولايزال يشعر بوخز تلك الحادثة، وعلى إثرها تعاطف مدير المدرسة مع الأسرة فوافق على قبول محمد في الصف الأول بديلًا عن أخيه الراحل مع أنه دون السن النظامية.

ثمّ روى شيئًا من ذكريات الدراسة وزملائها وما ناله من عقوبة أسرية بسبب تركه المعهد العلمي إلى مدرسة تحضير البعثات؛ فمع الأول مكافأة تخفف عن الأهل أعباء الحياة، ومن أخبار الشباب انتقاله إلى جدة للعمل في البريد ومع العمل أخذ دروسًا في الآلة الكاتبة، وتعلّم اللغة الإنجليزية، ثمّ واصل دراسته في ثانوية ليلية، وانتسب بعدها إلى جامعة الملك سعود للدراسة في قسم التاريخ بعد أن رفضت والدته فكرة دراسة الطيران مع أنه عمل في الإدارة المالية بسلاح الطيران، وسلّم اثنين من الطيارين الشباب راتبهما وبعد أقل من ساعة عرف بموتهما معًا في طلعة جوية اعتيادية.

ومن خلال مشاركة إذاعية أُعجب به الأستاذ الإعلامي الكبير عباس غزاوي فاستقطبه للإذاعة، وفي أثناء اختبار التجربة طلبوا منه وصف حريق ففعل لكنه أطفأ الحريق بسرعة ونال الوظيفة المناسبة لمواهبه وطبقة صوته، واستمر في مجال الإعلام قريبًا من ستة عقود عاصر ضمنها جميع وزراء الإعلام من أولهم الشيخ جميل الحجيلان إلى الوزير الحالي الأستاذ تركي الشبانة، وهذه الصفة قلّما يشاركه فيها أحد أو لعله انفرد بها من بين سائر الإعلاميين، وليت أن الوزارة تعاجل بتكريم مذيعها المخضرم الذي انتصبت قامته بشموخ، وجلجلت حباله الصوتية وحنجرته الذهبية بإبداع آسر أمام الملوك والوفود في المجامع الكبرى، وهو أول من افتتح تلفزيون جدة في التاسع من ربيع الأول عام (1385) الموافق للسابع من يوليو عام (1965م) ووجد للظهور أمام الكاميرا رهبة أكثر مما عهده في الإذاعة.

يحوي هذا الكتاب أخبارًا عن علماء وزعماء ووزراء وأدباء وسفراء وإعلاميين وفنانين، فمنها أن المؤلف كاد أن يسقط من السيارة التي تتبع موكب الملك سعود لنقل وقائع استقباله في جدة بسبب سرعة المواكب المعروفة، وفي حفل لافتتاح مشروع مائي ألقى الأستاذ عزيز ضياء كلمة فيها تصريح وتلميح؛ فلما فرغ أجاب الملك فيصل عن جميع ماورد فيها مع أنه كان خلال الكلمة منشغلًا في حديث مع مجاوره.

وتروي سيرة د.الصبيحي مواقف كثيرة أخرى عن الملك فيصل، ففي أثناء تسجيل كلمة الملك التي اعتاد أن يلقيها مع استقبال السفراء المعتمدين في المملكة، وقع خلل في جهاز التسجيل فلم تذع الكلمة الملكية، وفي الاستقبال اللاحق سأل الملك فيصل الصبيحي قبل الاستقبال: كيف حال مسجلكم؟! فقال: معي اثنان! ونقل الكاتب تبرم الملك علانية من المواد الإعلامية التي تمدحه شعرًا ونثرًا إلقاءً أو نشيدًا أو غناءً.

ومنها أن الملك فيصل طلب خروج الإعلاميين من قاعة اجتماع مجلس الوزراء قبيل إعلان الميزانية، فلم يقفل المخرج أجهزة التسجيل الموجودة داخل المجلس، فلاحظ الملك ذلك وقال بهدوء: يبدو أن المخرج لا يسمع ولا يطيع! فسمع المخرج كلامه وأغلق أجهزة الصوت والصورة وأدركه الذعر مع أن الملك لم يعاتبه بعد دخول الطاقم الإعلامي للمجلس.

كما أشار د.محمد إلى الأثر البالغ للحرمين والمشاعر والمناسك في نفوس مطربين مثل محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، وعند مذيع البرامج الدينية الشهير أحمد فراج حين ساعده المؤلف على الدخول للكعبة مع الملك فيصل والوفود العربية والإسلامية للمشاركة في غسيلها السنوي؛ فأغمي على الأستاذ فراج بمجرد دخوله من هيبة المكان وجلاله، وشاهد تأثير الحرم والحج على زوار المعارض السعودية إذ أجهش زائر بالبكاء عند ركن الحرمين، فاستضافه الملك فهد وجميع أسرته لأداء الحج.

وأثنى على رباطة جأش أول وزير للإعلام الشيخ جميل الحجيلان الذي كان يقسو على موظفيه لكنه يدافع عنهم أمام المسؤولين، ويبدو أن المتابعة كانت دقيقة تلك الأيام للإذاعة ثمّ التلفزيون لدرجة السؤال عن دقائق الأمور، وتحدث عن اهتمام الشيخ إبراهيم العنقري بنقل شعائر الحج، وحذره الشديد وإغلاقه لأي مشكلة بحزم دون تأخير، وروى عن الشيخ د.محمد يماني عنايته بالبرامج التثقيفية والفكرية حتى أن أول ظهور تلفزيوني للشيخ الشعراوي كان مع د.يماني قبل أن يصبح وزيرًا، وفي الكتاب مواقف أخرى لأكثر وزراء الإعلام وقاماته الكبار مثل د.بدر كريم، ومحمد مشيخ، ود.عبدالرحمن الشبيلي، وعباس غزاوي، وآخرين.

وكان الصبيحي معروفًا عند أكثر فئات الناس بالمملكة، ويعرفه الساسة والإعلاميون في خارجها بمجرد سماع صوته، هذا الصوت الذي جعل مخرجًا فرنسيًا ينصحه بالحفاظ عليه، وألجأ المذيع السوري ابن بدوي الجبل لرفض تقديم نشرة أخبار مع الصبيحي، ودفع سفير الأردن والمغرب لشكر المؤلف بعد أن قرأ أخبارًا تخص بلديهما، وصار مطلب الكتاب والشعراء لإلقاء نصوصهم وفي هذا المطلب مواقف محرجة روى بعضها، وتاج هذه القصص المرتبطة بصوته اتصال تلقاه من الشيخ حسن آل الشيخ وزير المعارف ثمّ التعليم العالي قال فيه: ما أجمل صوتك في الدعاء والأخبار! أما درة التاج فتسجيل أدعية الحرمين ودعاء السفر الذي امتن الله على الخطوط السعودية بإذاعته عبر جميع رحلاتها دون سائر شركات السفر، وليت أن الشركة تكرم صاحب هذا الصوت الشجي ولو بإضافة اسمه للدعاء، ومن الموافقات أني أكتب قسمًا من هذه المقالة وأنا أسمع دعاء السفر بصوت د.الصبيحي على متن إحدى الطائرات.

أما طرائف الكتاب فكثيرة جدًا منها غلطته على الهواء وعقاب الوزير له، وحريق المسرح أثناء أداء أغنية حتى هرب الحضور وبقي الوزير الحجيلان ليطمئن على سلامة الجميع، وجرأة مطرب لبناني في تحويل كلمات أغنية وطنية أداها بمقابل مالي إلى أغنية عاطفية بنفس اللحن؛ فمُنع المطرب من الظهور في الإعلام المحلي، وطلب بعض الإعلاميين العرب المشاهير مكافأة شخصين للتعاقد مع وزارة الإعلام ومقابلة ذلك بالرفض التام.

ومنها أنه حين سجل في استديو لبناني أنشودة متوافقة مع دعوة الملك فيصل للتضامن الإسلامي آنذاك قامت مظاهرة رافضة للتسجيل في محيط الأستديو، ولم تفلح في إحباط تسجيلها، وكاد موظف مصري في شركة مقاولات كبرى أن يفقد عمله بسبب تأخره عن الحضور بداية الفترة المسائية انتظارًا لبرنامج بعنوان من أقوال الرسول الذي قدمه الصبيحي عام (1962م) وأذيع يوميًا بعد صلاة العصر مباشرة.

ومن أحرجها أنه بعد تسجيل برامج وثائقية في فرنسا، شكر إحدى المتعاونات لتفانيها البالغ قائلًا: تستحقين أن نذبح لك سبعة طليان؛ فصعقت المسكينة لأن المترجم فهم أنه يريد ذبح سبعة إيطاليين! لكنها سكنت حين عرفت المعنى الصحيح، ومن الموافقات أنه في رحلته لفرنسا لتسجيل هذه البرامج وواحد منها عن الخطوط السعودية ومديرها الطيار أحمد مطر الذي قاد ذات الطائرة وخرج من مكانه لتحية المسافرين في منتصف الرحلة؛ فأخبره د.الصبيحي عن غاية الرحلة وأن مؤسسته وهو من أهدافها التوثيقية.

ولا تخلو الذكريات مما يؤسف له، فمنها لقاء سجله المؤلف مع موسى الصدر لمدة ساعة ونصف بصراحة كبيرة، ولحاجة المكتبة إلى أشرطة للتسجيل عليها مسحت هذه المادة النفيسة وحلّت مكانها مادة أخرى! وكذلك مشروع قناة الهدف في أمريكا الذي لم ير النور مع حماسة بعض النافذين له، ومشروع قناة أخبار العالم الإسلامي بلغات عالمية، وعسى أن يهيئ الله لها من يبعثها من مرقدها بما ينفع.

أيضًا في الكتاب مواقف عن شركة الكهرباء ومعاهد التدريب، وسفارة لندن وعكاظها الذي أوجده السفير المثقف د.القصيبي وقاده ملحقه الإعلامي النشيط د.الصبيحي، وأيام الدراسة في أمريكا، والاستشفاء في لبنان، وصحف وقنوات وبرامج، وعسى الله أن يوفق د.محمد بن أحمد الصبيحي لتسجيل أذكار طرفي اليوم والليلة مع جملة من أحاديث النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، وطائفة من عيون أشعار العرب، لتكون له من الباقيات الصالحات؛ فصوته يجبر الأذن على الاستماع، وينساب لأعماق النفس أيًا كانت، ويا له من أجر وذكر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 06 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1441

31 من شهر يناير عام 2020م  

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)