أموال من أجل الثقافة!

أموال من أجل الثقافة!

دعيت قبل عشر سنوات لحفل عشاء مختصر في منزل أحد الأثرياء، وكانت المناسبة الاحتفاء بفريق كريم سيقيم مشروعًا لإعداد مثقفين مؤهلين لمقاومة مدّ الإلحاد، وعندما جاء دوري للتعليق قلت كلمة مختصرة سعد بها الثري ومن بجواره وملخصها أن رعاية هذا المشروع ماليًا يعدّ سنّة حسنة نادرة، وآمل أن يكون للمتبرع أجر من اقتدى به، وصرف جزءًا من هباته من أجل الثقافة والفكر.

وقبل سنة شاركت في مبادرة حرف لتأهيل خمسين كاتبًا وكاتبة ضمن برنامج تدريبي متنوع المناشط لمدة تصل إلى أربعة شهور متواصلة يعقبها برامج متابعة وإثراء مستمرة، ونالت المبادرة رعاية ومتابعة من مؤسسة الراجحي للخدمات الإنسانية في سياق عنايتها بمشروعات الشباب وبمجال الثقافة والإبداع واللغة، وهو منهج محمود والأمنية أن تكون التجربة عامة.

إن رأس المال المثقف ضرورة مهمة، وهو من القوة الناعمة التي تفيد وتؤثر في العقول أسمى ما في بني آدم، وليس من المناسب قصر أعمال الخير على أنشطة تقليدية على أهميتها، فحين نستر الأجساد بالثياب، والأسرار بالبيوت، ونروي العطش بالماء، ونسدّ الجوع بالطعام، ونشيد المباني، ونوجد الوظائف، فلا مناص من صناعة عقل يستثمر ذلك كله، ويكون له نصيب من العطاء؛ فنحن أمة أعلى كتابها المقدس من العقول والألباب والتفكر والتدبر وغيرها من أعمال العقل وإعماله.

أقول ذلك وفي البال جوائز مرتبطة بملوك وأمراء وشيوخ وأثرياء تخدم في بعض فروعها هذا الجانب مثل جائزة الملك فيصل، والملك خالد، والملك سلمان، والشيخ زايد، والشيخ محمد بن راشد، والمصرفي عبدالحميد شومان، والشيخ سلطان العويس، وغيرها، إضافة إلى مراكز تُعنى بالتراث والثقافة والفكر والشعر مثل البابطين والجاسر والماجد والسديري وغيرها، وديوانيات تستضيف قامات وتتيح لهم المجال للحديث والحوار ثمّ تطبع شيئًا من ثمرات اللقاء معهم كما في إثنينية خوجة وثلوثية المشوح وغيرهما.

ومن نفائس هذا الباب تكفل الأمير سلطان بطباعة الموسوعة العربية العالمية، وعناية الأمير نايف بطباعة أمهات الكتب الشرعية، ورعاية مؤسسة الشيخ سليمان الراجحي لمشروع تحقيق ضخم أشرف عليه الشيخ بكر أبو زيد وفريقه العلمي وشمل تراث الأئمة ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي والمعلمي، ومثلهم آخرون يطبعون الكتب طباعة فاخرة، ويوزعونها مجانًا، ولعدد من أمراء الخليج وشيوخه وأثريائه ومصارفه مثل بنك البلاد، ومصرف الراجحي، وبنك الجزيرة، حضور بارز في هذا المجال.

كما سعى آخرون لخدمة الثقافة واللغة والفكر من أبواب ولجوا منها إلى عالم المال والأعمال، كما في صنيع الشيخ محمد الخضير ببناء مراكز حضارية ومكتبات ومدارس في رياض الخبراء بالقصيم، ومثل تحمّل كل من د.طلال أبو غزالة في فلسطين والأردن، والشيخ عبدالله الغرير في الإمارات، والشيخ عبدالعزيز البابطين في الكويت، مصاريف منح دراسية لمئات الطلاب، وإتاحة الشيخ محمد الشارخ المجلات العربية القديمة القيمة عبر مسار إلكتروني بعد أن كان جلّها عزيز المنال، إضافة إلى مشاريعه الباهرة لخدمة القرآن والسنّة واللغة العربية حاسوبيًا، ومسارعة الشيخ سعيد العنقري الزهراني لبناء نادي الباحة الأدبي، وبناء د.ناصر الرشيد مقر النادي الأدبي بحائل.

بينما تكفل آخرون بإنشاء متاحف جذابة وأماكن تراثية جميلة، كما شاهدت في أشيقر، وعنيزة، وحائل، والأحساء، وجبة، والجوف، وغيرها من المدن العربية، واجتهد آخرون في مساندة مراكز البحوث والدراسات لتقوم بالمطلوب منها من أجل نهوض الأمة، وحذرها، واستعداداها للمستقبل الآتي ولا محالة، وعبّر أهل عنيزة عن الوفاء لأحد رواد التعليم في مدينتهم بإنشاء مركز صالح بن صالح بما فيه من مكتبة وقاعات وفعاليات ثقافية، وسيخلف الله على كل منفق حسن النية خالص المقصد، وما أجدر هؤلاء وأمثالهم بالتكريم المعنوي والمادي، وللوجيه الكويتي الشيخ عبدالعزيز بن سعود البابطين جهود محلية وإقليمية وعالمية فوق مستوى عدة وزارات؛ لخدمة الثقافة العربية والإسلامية.

وأتصور أن كثيرًا من العلماء والمفكرين الكبار والخالدين لم يصلوا إلى هذا المستوى لولا وجود وقف أو واقف أو مال يكفيهم عناء المعيشة، ويحضرني في هذا السياق أن أبا عبيد أهدى أحد كتبه لأمير بغداد عبدالله بن طاهر فقرأه وبهره حتى قال ما معناه: إن عقلًا بعث صاحبه على تأليف هذا الكتاب لحقيق أن يُكفى مؤونة العيش، وما أحوج الثقافة وأهلها من أجل الإبداع والخلود والتأثير إلى كثير من المال، وكثير كثير من حسن الظن والحرية؛ فالإنسان أولًا وبعده يأتي كلّ شيء، فهل نرى من أثريائنا الأسخياء السمحاء هبة ثقافية موفقة؟

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 14 من شهرِ جمادى الأولى عام 1441

09 من شهر يناير عام 2020م