أعلم علم اليقين أن معالي د.غازي القصيبي حضّ غير واحد من رجال الدولة على تدوين سيرهم الذاتية؛ بل إنه ألح على أحد أكثرهم أهمية، ورشح له اسم كاتب مقترح لتحرير سيرته، ولايزال هذا المسؤول السابق مترددًا كما سمعت منه مؤخرًا. وأخبرني شاهد عيان أن القصيبي ناشد معالي الشيخ محمد بن عبدالله النويصر أن يكتب سيرته، وبعد مطالبات متكررة قال له النويصر: اسمع يا غازي! من هذا-وأشار لرأسه- إلى القبر مباشرة!
أمضى معالي الشيخ محمد بن عبدالله النويصر (1344-1430) أزيد من ستة عقود في العمل الحكومي سواء في وظائف عادية أو عليا، منها اثنتان وأربعون سنة على رأس المكتب الخاص للملك، والديوان الملكي، وديوان رئاسة مجلس الوزراء قبل فصل الديوانين عام (1420)، وبعد وفاته كُتبت عنه مقالات أميزها حسب اطلاعي مقال بقلم د.عبدالرحمن بن صالح السحيباني الذي وعد بالتوسع في سيرة الشيخ ضمن كتاب توثيقي سيصدره عن تاريخ الدواوين الحكومية.
امتاز أبو عبدالرحمن بالانهماك في العمل لدرجة بقائه مدة طويلة في المكتب منقطعًا حتى عن بيته كما أورد د.السحيباني، وفي كتاب وسم على أديم الزمن لشيخ الوزراء معالي د.عبدالعزيز الخويطر تأكيد على هذه الخصيصة، فالرجل في عمل لا ينقطع أول اليوم وآخره، وثمت ملحظ آخر شعرت به إثر قراءة وسم الخويطر وذكريات معالي الشيخ د.عبدالله التركي، ومختصره أن ابن نويصر ناصح أمين للمسؤول، وخير معين للنشيط من الوزراء فمن دونهم؛ ولم يجعل من نفسه حجرة تعثر، أو صخرة تحجب، ولو شاء لفعل!
ومن صفاته التي يعلمها جميع من اقترب منه أنه مستودع أسرار ليس له مفتاح، ويُحكى أن موظفًا كبيرًا اجتهد وطلب منه بعد إعفائه من منصبه في رمضان سنة (1426) بعض المعلومات القديمة، فرأى الشيخ بحكمته المتراكمة أنها معلومات خاصة لا يناسب الإخبار بها إذ لا ينبني عليها عمل حينذاك، فقال لمن سأله: هذه لا أبوح بها؛ وأيده الملك عبدالله ورأى أن هذا المطلب بعيد عن الحكمة والوفاء.
لأجل ذلك حظي خلال مشواره الوظيفي المتزامن مع ستة ملوك بثقة وقرب من ثلاثة ملوك هم فيصل وخالد وفهد، فحضر تسجيل الملك فيصل لخطاب العرش عام (1384)، وكم من صورة ديوانية أو برية أو في المطار جمعته مع الملكين خالد وفهد يسمع منهما أو يتحدث إليهما أو يحمل أوراقًا في يده، وبعد أن كبر وأنهكه العمل رغب في الاستعفاء فقال له الملك فهد: إذا رُفعت صوري من مكانها فيمكنك ترك العمل آنذاك!
وقد منحه الملك فهد كتاب شكر عام (1420) جاء فيه: “تغمرنا في هذه المناسبة الطيبة مشاعر التقدير والعرفان لمن رافقونا وعملوا معنا عبر مسافات الجهد الشاق والطويل، خدمة لهذا البلد وأهله، ومعاليكم -لا ريب- خير ممثل لهذه النخبة المباركة من المسؤولين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأخلصوا النية في القول والعمل”، وما أكمل رجل النخبة حين لا يترفع عن المستويات الشعبية.
ومن تقديره لحساسية المعلومة، وحذره من تسريبها فيما لو نقلت عبر التقنية أو غيرها، زار الوزير الخويطر ذات ليلة قبيل الفجر ليبلغه بمضمون توجيه ملكي، إذ رأى أن المهاتفة أو المكاتبة أو المشافهة من قبل غيره تصرف لا يناسب مع مثل محتوى تلك الرسالة الملكية، ولم يشأ أن يستقدم الخويطر إليه توقيرًا له، وليس هذا التقدير للرجال الكبار بعجيب عليه إذ عُرف عنه أنه لا يرد شفاعة تأتيه من قبل معالي الشيخ صالح الحصين، مع تمكينه الواضح للكفاءات العاملة معه.
واعترف النويصر لزميله المثقف الكاتب معالي الشيخ صالح بن إبراهيم الضراب (ت 1428) بجزالة الأسلوب، وجميل العبارة، فأوكل إليه كتابة أو تحرير كثير من التصريحات والكلمات؛ فما ينسب للملوك ودواوينهم لا يحسن أن يكون إلّا فخمًا من طراز رفيع بهي يؤدي الغرض في لفظه الشريف ومعناه السامي، ويكون واضحًا لا يتطرق إليه احتمال غير مراد، وللشيخ الضراب أخبار كثيرة في وسم الخويطر الذي تمنى عليه تدوين سيرته الذاتية ويظهر أنه لم يفعل.
كما اشتهر الشيخ محمد بخدمة ذوي الحاجات سواء عرفهم أو لم يعرفهم، فبعد عام (1395) رأى الملك خالد وولي عهده الأمير-الملك- فهد ألّا يُعرض على مقامهما سوى المهم من مكاتبات الناس توفيرًا للوقت والجهد فيما هو أهم، وأسندوا للنويصر إنهاء كل ما يستطيع إنجازه دون الرجوع إليهما، ولاريب أن هذه الثقة تنم عن منزلة الرجل عند قادة الدولة، ومستوى التفويض الممنوح له، وقد كان مفتاح خير عميم.
فلم يكتف ابن نويصر بذلك؛ بل استقبل الناس في مسجده فجرًا وفي منزله، وكم من صاحب طلب علاج أو شأن عاجل تفاجأ بصدور الأمر له بمجرد ابتداء ساعات العمل الباكرة؛ والسر يكمن في أن معالي الشيخ شرح على العريضة وأحالها عن طريق موظفي منزله إلى الإدارة المعنية في الديوان الملكي منعًا لتأخرها؛ فبعض المسائل لا يسوغ تأجيلها، وما أوقع أثر إغاثة اللهفان بسرعة ونُجْحٍ على النفوس المتعطشة للنجدة والمساعدة، وما أكثر بركة صاحب المنصب الذي يجلب محبة المجتمع للحكومة والدولة.
ومما قرأته أن أحد قاطني جدة ثُمن منزله لغرض نزع ملكيته وتوسعة الأحياء والشوارع؛ فجاءه أمر بإخلاء المنزل من فوره على أن يكون التعويض المالي لاحقًا، ففزع الرجل إلى رئيس الديوان الذي لم يتوان عن اطلاع الملك على هذا الإجراء المتعسف، واستصدار أمر ملكي بإبقاء الناس في بيوتهم، ومنع إخراجهم قبل قبضهم كامل مبلغ التعويض، وهل يقوم أمر على غير العدل والإحسان؟
كما يتابع الصحف اليومية؛ ثمّ يكتب للوزير المختص أو المسؤول ذي العلاقة: لابد أنكم قرأتم عن كذا، وأثق أنكم اتخذتم الإجراء النظامي الصحيح دون تأخير، وصنيعه هذا يأتي في سياق منظومة من المركزية الإدارية المرنة التي خفف منها حضوره الدائم على رأس العمل، مع حرصه على ألّا يتدخل في الأمور التي لا تقع في نطاق اختصاصه، وألّا يتصدى للقضايا التي ربما تنتهي دون تدخله كما يصف زميله الكاتب د.عبدالرحمن السحيباني في مقالته المشار إليها آنفًا، والمنشورة في صحيفة الجزيرة بعد عام من رحيل الشيخ إلى حياة البرزخ.
بينما من الطبيعي ألّا يُرضي رجل هذا مكانه وهذه مكانته جميع الناس، وفي كل حال، ومما روي لي أن بعض النافذين اشتكوا للملك فهد من رفض الشيخ النويصر لبعض طلباتهم، أو تأخير الإجابة عنها، وكان الملك ينوي قضاء نهاية الأسبوع خارج الرياض فلم يرد على المنتقدين في حينها، واصطحبهم معه في مخيمه البري وتعمد أن يطلب من مرافقيه إحضار أوراق العمل التي أرسلها ابن نويصر، فكان جوابهم أنه لم يرسل شيئًا! فكرر السؤال ويأتيه الجواب نفسه، ثمّ التفت لمن انتقد رئيس ديوانه قائلًا: هذا رجل علم أني بحاجة للراحة يومًا أو يومين من عناء العمل؛ فلم يثقل عليّ، فكيف يطيب لكم أن تطلبوا مني تغييره وهو بهذه الحكمة والمودة؟!
أما نظرته الإدارية لتطوير العمل البشري والتقني فعميقة حسبما نُقل عنه؛ ولذلك استقطب كفاءات من الجامعات وغيرها، وأدخل أجهزة حديثة للديوان قبل كثير من مؤسسات الدولة، وحمد له كثيرون رفقه بالمثقفين وحنوه على أصحاب الرأي، ومدافعة تشويه صورتهم، وتقديم حسن الظن بهم أو العذر لهم، وأعقل الناس أعذرهم، كما وصفت أحاديثه باللباقة في محتواها وطريقة عرضها ومستوى صوته الخفيض، والأدب عقل ثان، وما أجمله من الكبار.
ويبدو لي أن الشيخ النويصر نال هذا التوفيق من الله سبحانه وتعالى وتطاولت أعناق معاليه للعيان لأسباب منها بره بوالدته التي طلبت إليه في صباه الغض أو شبابه الأول ترك أحد الأعمال رأفة به، ثمّ جديته واستعداده للخدمة في مكة والرياض وحائل، والتزامه الشديد بمواعيد العمل لدرجة المكوث الطويل فيه، وكذلك حكمته في التعامل مع كبراء الدولة، وبصره بالتاريخ حتى ذكر أحد المؤلفين حرصه على مخطوطات التاريخ النجدي.
وينضاف إليها جفوله من الأضواء والتصريحات واللقاءات والاستقبالات الرسمية مع أنه أهل لها بيد أن عثارها لا ينجبر أحيانًا، وصفاء قلبه تجاه أمثاله من أهل المناصب دون غلّ أو حسد، ورحمته بالضعفة وأهل الحاجات وصغار الموظفين الذين يقسم عليهم ما يصل إلى منزله من هدايا التمر والعسل والبخور حتى لا يستأثر بها؛ وتواضعه لكل أحد، فكان يصلي مع الناس، ويسمع ممن خاطبه حتى لو بدت المسكنة على منظره، وله أخيرًا يد منفقة في الخير وبناء المساجد ومساعدة الفقراء، ولربما أن حاجب الملوك وضع في حسبانه ألّا يُحجب يوم العرض الأكبر عن ملك الملوك.
جدة- السبت 17 من شهرِ ربيع الآخر عام 1441
14 من شهر ديسمبر عام 2019م
7 Comments
الله يغفر له ورحمه وجميع موتى المسلمين
رجل دوله وله بصمه ولم يكن من أهل الاضواء
زادك الله من فضله أستاذ أحمد هؤلاء القامات الكبار لايشبع من الحديث والقراءه عنهم نامل من سعادتكم الأكثار من مثل هذه السير المبسطه ذات الاسطر القليله والمحتوى الثري رغم ذلك عن مثل هؤلاء الرجال وانتظر جديدك بكل لهفه .
اخوكم/ جمعان الموسى
متشكرين