سياسة واقتصاد سير وأعلام

دسائس بين أعمدة القصور!

Print Friendly, PDF & Email

دسائس بين أعمدة القصور!

حضرت أحد المجالس قبل أسبوع تقريباً، وروى فيه رجل كبير القدر، والعمر، والفضل، واقعة غير متداولة فيما أعلم، وبعد فراغه منها مباشرة؛ عقّب أحد الحاضرين بسرد خبر شهده بنفسه، وله علاقة وثيقة بما ذكره الأول، ولم يكن الثاني يعلم عن خبر الحكاية الأولى قبل يومنا ذاك، وهذه من عجائب الموافقات، وفوائد المجالس حين تكون ثرية بالأحاديث النافعة، والأخبار المتناقلة.

قال الراوي الأول: كتب الملك حسين -ملك الأردنرسالة إلى الملك سعود، وفي الرسالة غضب شديد من اعتداءات رئيس مصر جمال عبد الناصر على اليمن وجنوب المملكة، ويعلن الحسين تضامنه الكامل مع المملكة، ويحرض سعوداً على مجابهة عبد الناصر عسكرياً!

تفاعل الملك سعود بحسه الوطني، وغيرته، وشجاعته، مع رسالة الحسين، وأصدر أمراً للقوات المسلحة بالتصدي لجيش عبد الناصر! بيد أن الأمر وقع بيد أحد أكابر موظفي ديوان الملك، وهو محمد بن عبد العزيز بن حسن بن دغيثر، ورأى أن الحكمة تقتضي التريث، وعرض الموضوع على بعض الأمراء؛ وحسناً فعل.

ولم يضيع ابن دغيثر الوقت، إذ أخبر الأميرين فيصلاً وسلطان بفحوى الرسالة وتوجيه الملك، وبعد أن تشاورا مع بعض إخوانهما، ذهبا للملك ليلاً، وناقشاه بالأمر في غاية التوقير كعادة البيت السعودي مع مقام الملك، وقالا له ما ملخصه: إن جيش مصر يقصف صحاري وجبالاً لا يكاد يسكنها أحد، وليس من الحكمة مواجهته، خاصة أن مصير خلاف الأشقاء إلى صلح غالباً، والحرب ستزيد من تعقيد الوضع.

فاقتنع الملك برأي إخوانه؛ بيد أنه تضايق من تصرف الدغيثر، وعندما قابله في صباح الغد لامه بهدوء على اجتهاده دون الرجوع إليه، فقال له ابن دغيثر ما معناه: دفعني لذلك حبكم، وحب دولتكم، فأعجب الملك بصراحته وصدق جوابه، وقدَّر له هذا الموقف الوطني الحكيم؛ وإخلاصه للدولة والحكومة، هذا الإخلاص الذي تعظم قيمته إذا استصحبنا تاريخ أسرته آل يزيد في حكم بعض مناطق نجد، وهو تاريخ طويل ممتد.

وبعد نهاية المتكلم الأول، قال المتحدث الآخر: زرت الشيخ ابن دغيثر في المستشفى التخصصي خلال مرضه الذي مات فيه، وبينما نحن عنده دخل علينا الملك سلمان -وكان حينها أميراً للرياض- ومعه بعض الأمراء والمسؤولين، ومنهم عبد الرحمن بن سعود، وبعد السلام قال الأمير سلمان لابن دغيثر: كنت في زيارة لإحدى بنات الملك سعود، وحين علمت بوجودك عتبت على مكتبي أن لم يخبروني بمرضك؛ فنحن لا ننسى موقفك إبان عهد الملك سعود!

وحين نسترجع هذه القصة، يلفت نظرنا عدة أمور، فمنها رسالة الملك حسين، وهل كانت خالصة من الشوائب، أم أنها مدفوعة بخلاف حسين المرير مع عبدالناصر؟ وهل لها علاقة بما جرى للبيت الهاشمي على يد البيت السعودي الذي أقصاهم من الحجاز، بعد أن حكموه زمناً طويلاً، ولم يحسنوا في أواخر أيامهم، وربما أنه ورث من أجداده المُلك وتلك الغصة المريرة؟ ولا شيء يمنع من احتمال وجود رسالة تضامن متزامنة مع رسالة الاستنكار، بيد أنها من الحسين لعبد الناصر!

ويكبر في العيون موقف رجل الدولة ابن دغيثر الجريء؛ فقد عرّض نفسه لغضبة ملكية، ومع ذلك كان شجاعاً، وقدَّم مصلحة البلد على مصالحه الشخصية، ولم يخن الأمانة التي أقسم عليها، وعلى أن يفعل ما فيه صالح الدولة والمواطنين، ولم يكن من فئة المستشارين أصحاب البصمة الجاهزة؛ حتى لو رأوا الخير في غير ما أُمروا به، لا كثّرهم الله.

ومن دلالاتها تشارك الأسرة الحاكمة في تداول الأمور المهمة والحساسة مع توقير الملك ومكانته، وأيضاً تقبل الملك سعود لتصرف موظفيه المنبعث من الحرص على المنفعة، وإبعاد المضرة؛ خلافاً لما يفعله الطبالون، وإن السياسي الحصيف ليقرٍّب من يقول رأيه بصراحة، ووضوح، وأدب. ومنها الوفاء للرجال المخلصين بالزيارة، والاعتراف بمواقفهم المباركة، وما عند الله خير وأبقى.

بينما يحفظ لنا التاريخ أن لبعض الزعماء فيما بينهم دسائس قد تأتي على هيئة نصائح، فضلاً عن بعض المواقف المتناقضة التي يستغرب لها الإنسان، كما فعل الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت -حسبما ذكر الملك سلمان في مقالة طويلة عبر صحيفة الرأي الكويتية قبل عشر سنوات تقريباً، وفيها تعقيبات عميقة على كتاب نشرته سعاد الصباح- حيث جاء نجّاب يحمل كتاباً من مبارك للملك عبدالعزيز، وتبين أنه ورد إليه بالخطأ؛ لأنه كان موجهاً إلى عبدالعزيز بن رشيد وفيه: “…إني متكدر من أعمال ابن سعود وقد جرت الأمور في نجد على غير ما أشتهي أما الآن فأنا وإياكم عليه والكويت وحائل شقيقتان ومصلحة البلدين واحدة ولكم مني ما تشاءون من المساعدة …”، وفي الوقت ذاته وصل كتاب آخر من مبارك إلى ابن رشيد بالخطأ نفسه، وهو موجه للملك عبدالعزيز، وفيه: “…وليدي يا ولدي أنا معك في كل حال وحين قواك الله وتولاك…فحل الشول -يعني حارب ابن رشيد- ولا تدعه يستريح ولا تصالحه أنا أبوك مستعد لمساعدتك في كل ما تريد…”.

إن عالم السياسة فيه من التشابك والتداخل ما يجعل المرء يحار في تفسير مجريات الأحداث، بيد أن التاريخ مأرز آمن لمن استرجعه ليعرف ماذا جرى فيما سبق، لأن كثيراً من الأحداث الحالية والمستقبلية مرتبطة بما مضى، فالثارات لا تموت، والعداوات لا تردمها القبل والبسمات، وكم من مرارة ظلت حبيسة في صدور الأبناء من واقعة قديمة في عصر الأجداد، ولم ينفثوها إلا زمن الأحفاد، فالأحقاد المتأصلة لا تشفى بغير انتقام، فاللهم اعصمنا، وولاتنا وبلادنا من مكر المفسدين، وإرجاف الحاقدين، وأبواق الأفاكين، وغشِّ من يرتدي لبوس الناصحين، وهو قسيم للشيطان الرجيم في قسمه لأبوينا -عليهما السلام- حين أخرجهما من الجنة!

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف -حفر الباطن

ahmalassaf@

الأربعاء 05 من شهرِ رمضان عام 1438

31 من شهر مايو عام 2017م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)