سياسة واقتصاد عرض كتاب

قطر الحديثة: ذلكم اللغز!

قطر الحديثة: ذلكم اللغز!

يبدو أن الباحث والأستاذ الجامعي السوداني أ.د.عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم يتنفس الخليج والجزيرة العربية أكثر من الأكسجين، فجلّ دراسات وكتب هذا الباحث الجلد عن هذه المنطقة وخاصة مااتصل بالإنجليز أو العثمانيين، ومع الأسف أنه لم يوضح في كتبه سبل الوصول إليه، وبريده الإليكتروني الذي أخذته من الناشر يرفض الرسائل الواردة، وعسى الله أن يجعل إليه سبيلًا.

وبين يدي كتابه الأحدث -حسب علمي- وعنوانه: قطر الحديثة: قراءة في وثائق سنوات نشأة إمارة آل ثاني(1840-1916)، حيث صدرت طبعته الأولى عن دار الساقي عام (2013)، ويقع في (688) صفحة تشمل مقدمة تليها عشرة فصول ثمّ خاتمة فملحقان بالوثائق وهوامش وفهارس، وقد جعل المؤلف الإهداء إلى حفيدته، وهو صاحب أسلوب خاص ولافت في إهداءات كتبه التي يصر بأنها غير مدينة لأحد لا معنوياً ولا مادياً؛ ولا تعبر عن رأي غير مؤلفها.

وملخص هذه الدراسة أن قطر تستقبل تناقضات المنطقة؛ فهي قبلة الخارجين على شيوخهم، وملاذ رؤوس المال الباحثة عن النماء، ولها اتصال بما حولها وانفصال في ذات الوقت؛ حيث تُعدّ نهاية طبيعية لعُمان أو بداية للبحرين، وهي بادية برية مرتبطة بالصحراء، وحاضرة بحرية تغوص في أعماق الماء، ويصح أن تصفها بأنها “وهابية” تماماً كما يصدق وصفها بأنها عثمانية، وقد تحار بانتمائها أهو لدولة الخلافة العثمانية أم لسلطة الإنجليز الاستعمارية أم للدولة السعودية؟ والأعجب أن كلّ هذه الانتماءات صرح بها الشيخ جاسم في مناسبات مختلفة!

وتبرز في قطر ثنائية التضاد، فهي تصوغ من الاختلاف ائتلافًا، وأفادت من انشقاقات الأسر الحاكمة المحيطة بها، وباتت أرض قطر منطقة تسوى فيها النزاعات التي لا تتصل بها اتصالاً مباشرًا، وظهر فيها نقيضان متمازجان، حيث كان الشيخ جاسم يأنف من الرضوخ لهيمنة الإنجليز ولكنه يقبل التعامل معهم، وكان أقرب إلى الإمام عبد الله بن فيصل “الوهابي” لكنه تعاون مع خصمه وأخيه الأمير سعود “المستنير”! ومن الظواهر اللافتة في قطر وجود أب وابن يحكمان ولكلّ واحد منهما وجهة هو موليها وكأنهما يتبادلان الأدوار!

يتحدث الفصل الأول عن تكوين شخصية قطر جغرافياً مما منحها شيئاً من الحماية الطبيعة التي تصلّبت بفعل وحدة الدين واللسان والتراث، ثمّ يعرج على اقتصادها الذي شمل تجارة البحر والبر، ومن الطريف أن قطر في الجاهلية كانت أكثر بلاد البحرين خمرا! وفصّل المؤلف الخصائص البشرية لقطر وقبائل السكان وعوائلهم، وذكر أنّ جدّ أسرة آل ثاني سُمي تيمناً بالشيخ ثاني باشا السعدون، بينما كان الشيخ محمد بن ثاني وكيلاً للإمام فيصل بن تركي في جمع زكاة قطر عام 1269.

وتُحكم البحرين من آل خليفة الذين استوطنوا الزبارة في قطر هروباً من بني عمهم آل صباح قبل أن يفر سلمان آل خليفة من الزبارة صوب البحرين عام 1212 جفولاً من “الوهابيين”-اعتذر المؤلف عن استخدام هذا الوصف نظراً لأنه المتداول في الوثائق الإنجليزية والعثمانية التي اعتمد عليها كثيرًا-.

أما الفصل الثاني ففيه إسهاب عن حواضر قطر وتلاطم التيارات السياسية في الخليج، وأشار الباحث إلى أنّ أول تواصل معروف بين قطر والإنجليز وقع عام 1257=1841 م، وتحدث فيه عن السياسة البريطانية في الخليج منذ وصول ماكليود إلى الخليج كأول مقيم سياسي، وملخص هذه السياسة هو تأمين البحر من أيّ استخدام عسكري والسكوت عن قتال “الإخوة والجيران” في البر مادام لا يضر بريطانيا؛ مع ضرورة استئذان المقيم في أيّ إجراء حربي، واستئذان وكيل المقيم فيما دون ذلك، والوكيل غالباً من عجم الخليج ويحسن اللغتين العربية والإنجليزية، وفيه أنّ عبد الله بن أحمد آل خليفة أطلق قذائف مدفعية ابتهاجاً باغتيال الإمام تركي بن عبد الله! وتتبع المؤلف خلاله تحول ولاء البحرين من الرياض إلى مسقط انتهاء بحضن الإنجليز في الهند.

واختص الفصل الثالث بالدوحة ومركزية الحكم، وفيه ذكر أن أول بروز لاسم الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني -المؤسس الأول لحكم آل ثاني في قطر- كان في عام 1267=1851م على إثر قتله أحد فرسان الإمام فيصل بن تركي اقتصاصاً. وفيه إشارة إلى الخلاف بين آل ثاني وآل نهيان حول “العديد” ذات الموقع الإستراتيجي، حتى أن سعيد بن طحنون خربها وهدم قلاعها، وألقى جيف الحمير في آبارها كي لاتصلح للسكنى، وكان سعيد هذا حاكماً لأبو ظبي، ومحرضاً لشيوخ البحرين على قتال الإمام فيصل والامتناع عن التعامل السلمي معه، لأن مشيخات الساحل تخشى من مطالبة السعوديين بما امتد إليه نفوذ أسلافهم، ويصيبها الهلع من تأثر سكانها بالدعوة السلفية التي عناها بالجريف حين تذمر من اجتياح صحوة دينية لقطر بعد الغزو النجدي عام 1863م، حتى أصبحت قطر بؤرة للصراع السعودي العماني؛ مما أرعب الجانبين القطري والعماني!

كما أشار المؤلف إلى التعهد الذي وقعه محمد بن ثاني عام 1285=1868م ويُعّد صكاً بالاستقلال عن البحرين؛ حيث اختفت مظاهر سلطة آل خليفة على قطر باستثناء زيارة حوليّة يقوم بها الشيخ محمد بن خليفة ليختار لنفسه زوجاً من نساء قطر اللائي يتمتعن بنصيب وافر من الجمال!

وأما الفصل الرابع فقد جعله المؤلف عن موالاة قطر للعثمانيين الذين يرون حدود نجد تشمل البحرين وقطر والبريمي وأبو ظبي ودبي وأم القيوين والشارقة، وكانت الكويت في وقت ما تابعة للباب العالي ويمثّل شيخها عبدالله الصباح مع شيخ الزبير سليمان الزهير الوفد العثماني في بعض المفاوضات والمباحثات، وقد فقدت الدولة العثمانية شرعيتها في النفوس عندما حلت القومية الطورانية مكان الجامعة الإسلامية ودبّ الضعف في دولة الخلافة التي صارت عاجزة عن نفع المشيخات أو مضرتها خلافاً لبريطانيا التي أضحت مدافعها فوق السفن تحمي وتدمر حسب مقتضى المصلحة الاستعمارية.

ثمّ بحث الفصل الخامس علاقات الشيخ جاسم بآل خليفة وآل الصباح وآل سعود، وسبق بيان طرف منها في الفصول السابقة؛ والجديد هنا هو ازدياد توتر العلاقة مع الكويت بعد أن لجأ يوسف الإبراهيم إلى قطر مطالباً بثأر محمد وجراح الذين قتلهما أخوهما مبارك الصباح في الثالث من شوال عام 1313=17 مارس 1896 م حتى أن الشيخ جاسم تحالف مع الأمير محمد بن رشيد لغزو الكويت لولا وفاة الأخير في عام 1315. وإلى قطر ارتحل الإمام عبد الرحمن الفيصل في صفر 1310=أغسطس 1892 قبل أن يختار الكويت للإقامة فيها نظراً للخلاف بين آل الصباح وابن رشيد. ومن ملاحظات الإنجليز وجود انسجام “وهابي” بين الشيخ جاسم والملك عبدالعزيز لم تعكره الخلافات التي حدثت بينهما غير مرة.

كما شمل الفصل السادس العديد ورسم الحدود بين قطر وساحل عمان الذي عُرف لاحقاً باسم الإمارات العربية المتحدة، ويقرر المؤلف بأنّ مسألة العديد هي أول محاولة من الاستعمار لرسم الحدود بين الدول العربية، واستعرض في هذا الفصل النزاع المسلح بين أبو ظبي وقطر، وسيلان الدم المسلم على تلك الصحاري، وتخريب البلاد واحتجاز النساء ونهب الأموال وغير ذلك مما يدمي الفؤاد وقوعه بين جارين عربيين مسلمين تحت عين مستعمر صليبي ويده، وفي ظلّ عجز دولة الخلافة التي كانت توصف خلافاً للواقع بالبهية والعلية؛ ويُقال عن بابها المتطامن إنه عالي!

تناول الفصل السابع موضوع أمن الهند الذي أذكى النزاع الإقليمي، ولا غرو أن يتلّعب المقيم البريطاني بأهل ساحل عمان الذين يصفهم بقصر النظر وفقدان الحكمة وشرههم على المال ولو أدى بهم إلى التنازل عن شيء كثير مقابل حفنة منه قليلة، بينما يصف أهل قطر بالعناد والحرارة الزائدة. وكانت النزاعات والحروب تتساجل فيما بين البحرين وقطر والكويت وأبو ظبي ونجد، ويقف حاكم الخليج البريطاني متفرجاً حارساً مصالح بلاده؛ ولا يكف عن إرسال المناديب والجواسيس؛ ثمّ التقارير والمراسلات مع الهند وبغداد والباب العالي ولندن.

ويتضح مكر الإنجليز وتخطيطهم المحكم في الفصل الثامن حيث إنكار بريطانيا عثمانية قطر، وأدل مافيه أن الإنجليز رضوا بعثمانية قطر فراراً من كونها وهابية حتى لايمتد تأثير الوهابية -المتسم بالمقاومة والتحرر- إلى البحرين المرتبطة مباشرة بأمن الهند، وكانت الدولة العثمانية تحول دون ذلك وتقاوم هذا المد، فلما ضعفت الدولة واستوثقت بريطانيا من سيطرتها على قطر، ومن رغبة نجد بالتفاهم معها، أعلنت إنكارها لعثمانية قطر، ودخلت في معاهدات واتفاقيات تعزز هذا الأمر.

لذا جاء الفصل التاسع تحت عنوان :اعتلال العلاقة التركية القطرية التي أعلن الشيخ جاسم ندمه على ابتدائها مرارًا، وانتهى الكتاب بالفصل العاشر الذي اقتصر على عقد اتفاق الحماية مع بريطانيا في 06 محرم 1335= 03 نوفمبر 1916 م بعد ثلاث سنوات وأربعة أشهر من وفاة الشيخ جاسم، ووقعها خليفته ابنه عبد الله وهو جدّ الأسرة الحاكمة الحالية، ولم يسلم من خلاف إخوانه وبني عمه، ولبعضهم صلات إقليمية وثيقة قد تكون سبباً في انشقاقهم، وبعد هذه الاتفاقية غدا الخليج بحيرة بريطانية خالصة.

ومن متفرقات الكتاب أن اسم سفينة الأتراك التي كانت في الخليج “ساهر”، وأن التجار البانيان -وهم هندوس- في أيّ بلد خليجي كانوا عيوناً للمقيم وآذاناً ينقلون له كل صغيرة وكبيرة، وإدراك شيوخ البحرين أن رياح التغيير التي تجتاح حكمهم وسلطتهم تهب عليهم من قطر؛ ولذا حاولوا التقرب لقبائلها وضمان ولائهم، ومنها الصياغة الركيكة للرسائل المتبادلة بين المقيم أو الوكيل وشيوخ الخليج مع أنّ خطوط بعضهم حسنة.

واليوم يستعر الخلاف الخليجي مجددًا، حتى بلغ الخلاف الثلاثي-القطري أشدّه، فسحبت السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من قطر التي لم ترد بالمثل حتى هذه اللحظة، وأصبح المراقب يتوقع أيّ شيء كان من قبل مستبعدًا، والأيام حبلى وخزائن الأسرار مليئة، ونسأل الله أن يصلح الأمور ويجعل العاقبة حميدة، ويعيد لهذه المنطقة تآلفها واجتماعها تحت راية الإسلام ونصرة العرب.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@  

الاثنين 09 من شهرِ جمادى الأولى عام 1435  

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)