سياسة واقتصاد سير وأعلام

محمد بن سلمان وليلة صناعة التاريخ!

مهما قيل عن أهمية الفريق، والمؤسسة، وهي مهمة حقًا حقًا بلا جدال أو بخس، إلّا أن الأثر البالغ للشخصية الكبيرة لا يخفى بل ربما يهيمن فلا يمكن حجبه أو التغاضي عنه، والأمثلة كثيرة في العلم والسياسة والتجارة وغيرها. ومهما قيل عن العلاقات المؤسسية بين الدول، وهي أقوال صحيحة، إلّا أن العلاقات الشخصية لها وقعها الخطير أيضًا. ألم يبعث النبي الأكرم -عليه الصلاة والسلام- صاحبه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى قريش، واختاره دون بقية المهاجرين لما له من مكانة وعلاقات وتقدير في الوسط المكي؟

هذا الأثر هو عين ما نراه ليلتنا هذه دون إنكار تعاضد غيره معه، ففي هذه الليلة استطاع الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، صناعة التاريخ وتصحيح بعض عثرات الماضي الإقليمية والدولية، عبر استضافة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية “دونالد ترمب” في زيارة دولة هي الأولى له بعد انتخابه رئيسًا لبلاده للمرة الثانية بعد أن غادر البيت الأبيض بنهاية رئاسته الأولى. هذه المنجزات تتجاوز فن الممكن إلى فن صناعة الفرصة والتمكن منها، وهذا لا يعني أن الأطراف الأخرى كانت خالية الوفاض؛ لكن المهم أننا دخلنا الميدان ونحن نعرف قوتنا ونؤمن بها، ونعي ما نريد ونثق بالقدرة على تحقيقه، حتى لو شاركنا الآخرون بشيء من المغانم؛ فالحياة أخذ وعطاء.

قديمًا كان يقال: الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم، هي الآمرة الناهية، وهو قول صواب في المجمل، لكن من هذه الليلة نستطيع القول بكل ثقة: نحن أقوياء كذلك! لدينا مركزنا القيادي بأشخاصه ومواقعه وتاريخه وتراثه، وبيدنا أكثر أسباب استقرار الطاقة وتوازنها سعرًا وتدفقًا آمنًا، وعندنا فرص في التجارة والاقتصاد البيني أو حتى بالتنسيق مع الآخرين، هذا غير التدفق البشري الهائل على البلاد من أجل الحج والعمرة، أو المعارض، أو المسابقات الرياضية، أو المواسم، أو غيرها، حتى غدت البلاد قبلة ليس لمليار إنسان بل أكثر وأكثر! نحن -بلا دعوى- قادة في عالمنا الإسلامي، وعمق للعرب، وسادة في شبه جزيرة العرب وعلى تخوم جوارها المائي من ثلاث جهات، ونحن دولة مؤثرة في العالم، وفي مجموعة العشرين المتربعة على اقتصاد العالم.

في هذه الليلة لاح الفرج لسورية بعد سنوات من الكرب العظيم، ولم يكن الانفراج متوقعًا، وامتدت اليد لإيران بعد عقود من العداء الظاهر، وعسى أن يحل الوئام وتتعاون طهران وتستقر المنطقة، وانبثق الأمل بين روسيا وأوكرانيا، ومن يدري فربما سيتحسن الموقف الأمريكي والعالمي بخصوص فلسطين قبل اكتمال قرن ظلمها واحتلالها. لقد كانت زيارة أمريكية للسعودية، بيد أن أبعادها صدحت في أرجاء الكرة الأرضية قاطبة، فمن مرحب، ومتردد، ومتشكك، ومقطب قاطب!

هي زيارة تصحيح أوضاع، وإعادة ترتيب أولويات، وتحقيق أمنيات أو إعلانها، وتجديد معاهدات وشراكات، وإبرام اتفاقيات، تتناول السياسة والاقتصاد، والطاقة والمعادن، والدفاع والأمن، والتقنية والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى قائمة عريضة من المجالات يمكن إدراكها من المشاركة اللافتة لرجال الدولة ورجال الأعمال من السعودية وأمريكا. إنها ليلة تدار فيها السياسة لا بنكهة الاقتصاد فقط، وإنما بالاقتصاد المتين والحديث في البداية والختام.

كما ظهر في أحداث الليلة ذلكم التقدير الكبير لقيادة البلاد، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله ورعاهما-، الذي لم يستطع “ترمب” إخفاء الإعجاب به وبنشاطه وحيويته المذهلة -ما شاء الله تبارك الله-، حتى سأله: هل تنام؟ والحقيقة أن إحاطة الأمير، ومتابعته الدقيقة، وحرصه على مفاصل مهمة من العمل، هي ما يتفق عليه القريبون منه، واللصيقون به، حتى قادهم هذا القرب إلى مضاعفة الجهد، ووضوح آثاره عليهم في الانشغال الذهني، والإرهاق الجسدي، والله يقويهم على الإحسان والإخلاص.

لقد كانت هذه الزيارة التي ابتدأها زعيم أقوى دولة في العالم مؤشرًا على مكانة البلاد وقيادتها، ومن إشاراتها أن الرجل ارتدى ربطة عنق يماثل لونها لون السجاد الذي اختارته المملكة لاستقبال كبار ضيوفها، وهو لون مستقى من لون الأرض السعودية بعد هطول الغيث، وضحك ربيع الأرض الطلق، وليس مجرد سجادة حمراء ترى في كل دولة! كما كان لزيارة الدرعية مدلول تاريخي وثقافي، فهذه منطلق تأسيس الدولة، وهذا تراثها، ولهذا وهذا لوازم من المبادئ والحضارة والثقافة التي لا يمكن فرض نقيضها علينا؛ فنحن أمة من العراقة والأصول المرتبطة بعرى وثيقة لا تنفصم ولا تخترق من الدين واللغة والتاريخ والتراث.

كذلك كان في تفاعل الأمير محمد بن سلمان العفوي الصادق مع إعلان “ترمب” بخصوص رفع العقوبات عن سورية أكثر من دلالة، فهذا مجهود سعودي فذ، وصفحة جديدة تفتح بعد طوي سابقة عليها، وخدمة جليلة للمحيط العربي، وبسببها توجه رئيس سورية الجديد إلى الرياض من أجل عقد لقاء أولي مع ضيف المملكة، وهو لقاء لم يكن منتظرًا، وستبقى الرياض عاصمة ليس للقرار فقط؛ بل حتى للتاريخ وصناعته. ومما لفت النظر في هذا الجزء أن الأمير لم يتوقف عن التصفيق لهذا الخبر السار، وفي طول مدة التفاعل منه رسالة لا تخفى، والله يجعل العاقبة حميدة، ولا غرابة أن تكون هذه مشاعر الأمير التلقائية؛ فلجميع ملوك السعودية وقفات عزم ونجدة، قديمة وحديثة، مع دول عربية وإسلامية قريبة وبعيدة.

ومما لا يغيب عن البال إقرار “ترمب” بأن تحقيق بعض أمنياته من قبل السعودية خاضع لما يرونه في القرار ذاته، وطبيعته، وكيفيته، وتوقيته، وهذا التصريح يؤكد استقلالية القرار المحلي، وأن المصالح الوطنية حاكمة على الرأي وتوجيه بوصلته، وليس فيه شيء من الاسترضاء أو التبعية كما يزعم الزاعمون. هذا المفهوم راسخ بالتيقن من امتلاكنا لمصادر قوة تجعلنا أكثر حرية وندية، بخلاف ما يقع فيه البعض من متابعة دون منفعة جلية، أو مسوغ لا مناص منه، وقد كانت السياسة وستبقى مجال مناورة ومفاوضة وكر وفر وأخذ حتى لو استلزم بعض المنح.

هذه الزيارة ليست عابرة، فهي دليل بارز على طول نَفَسنا، وعلى حكمتنا في التعاطي مع العواصف والتقلبات. وهي مليئة بالأخبار، قابلة للتحليل المنطقي أو الرغبوي، وقابلة للتعليق بعقل محب أو مبغض أعمته مشاعره عن الإنصاف والصدق، بيد أنها على التأكيد زيارة لها ما بعدها على صعد كثيرة، والله يوفق أصحاب الشأن للاستفادة منها في إكمال مسيرة صناعة تاريخ جديد نستجلب فيه مزيدًا من القوة لنا من مكامنها، وكم في السياسة وشؤونها من خفاء ودهاء وحيل، وهي على أسر الحكم العريقة، وعلى رجال الدولة الأمناء، غير خافية ولا غائبة، وهم بحسن التعامل معها، وحيازة المصالح ودرء المفاسد أجدر، وعليها أقوى وأقدر.

حقًا إنها ليلة من ليالي تاريخنا المعاصر، فإذا كان الملك عبدالعزيز وهو المؤسس والملك الأول للبلاد -رحمه الله- قد نجح في ابتداء صناعة تاريخ من العلاقات السعودية الأمريكية يوم الرابع عشر من شهر فبراير عام 1945م، وهو في عرض البحر، فقد نجح حفيده صاحب رؤية المملكة 2030 الأمير محمد بن سلمان في إعادة صناعة هذا التاريخ وتجديده في ليلة الرابع عشر من شهر مايو في وسط الرياض والدرعية، حيث صحراء العرب الصبورة المزهرة المزدهرة.

ahmalassaf@

الرياض- ليلة الأربعاء 16 من شهرِ ذي القعدة عام 1446

14 من شهر مايو عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)