في منتصف التسعينات الهجرية والسبعينات الميلادية، تخرج طالب نجيب في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حاصلًا على الترتيب الأول على دفعته، علمًا أن كلية الشريعة لا تقبل إلّا الطالب المتفوق الذكي؛ لأنها تتعلق بعلم يرتبط بالله سبحانه، وله السيادة، فلا يجوز أن يدلف إلى ميدان دراسة علم سيادي سوى الأذكياء، وهي كلية معروفة بقوة أشياخها وأساتذتها، ومتانة مناهجها، وصرامة التدريس وجديته فيها، حتى أنها نالت الاعتماد البرامجي الكامل من المركز الوطني للتقويم والاعتماد الأكاديمي عام (1441=2020م)؛ لتصبح أول كلّية شرعية في المملكة تحصل عليه.
ذلكم هو عالم الشريعة، وأستاذ القانون، والفقيه الدستوري، والخبير في إعداد الأنظمة وصياغتها، وتقديم الاستشارة والتفسير، الدكتور محمد بن عبدالله بن محمد المرزوقي، الذي بادر بعد تخرجه للتسجيل في دبلوم الأنظمة الحديث افتتاحه في معهد الإدارة العامة، وهو أول برنامج للدراسة العليا في القانون بالمملكة، حتى تعجبت منه لجنة المقابلة؛ إذ لم ينصرف للقضاء، ولا لإكمال دراسته العليا، ولا لغيرها من الوظائف المتاحة حينها وهي كثيرة، وإنما سعى لإكمال تعليمة في دبلوم يرمقه بعض المشايخ بعين من الريبة والتوجس! وبعد المقابلة المقنعة أصبح أحد الدارسين في هذا الدبلوم، وتخرج فيه بامتياز وترتيب هو الأول!
فجمع بذلك بين القانون والشريعة التي لم يقطع الصلة بها ولا بعلومها كما يفعله بعض من تلوح له فرصة التحول أو الابتعاد، وضم إلى الشريعة السامية علم القانون متجاوزًا أي خواطر قد تطرأ لحفر هوة بين التخصصين وأصحابهما. ثم واصل المرزوقي دراساته العليا في الشريعة من جديد، حاصلًا على شهادتي الماجستير والدكتوراة. ومع أوبته للدراسات الشرعية التي هي الأساس لديه، لم يهجر التضلع من كتب القانون، فغدا بذلك ذا أهلية في العلمين، وقريبًا من الأشياخ والأساتذة والكتب فيهما.
أما في العمل والتطبيق، فلم يبتعد د.المرزوقي عن مجاله الذي أحبه وتعمق في درسه وفهمه؛ إذ عمل خبيرًا نظاميًا في هيئة الخبراء بمجلس الوزراء لمدة تقترب من عقدين، زامل فيها الخبراء والمستشارين وأكابر القانونيين السعوديين، ثمّ اصطفي للعمل مستشارًا لرئيس مجلس الشورى، ومشرفًا على إدارة المستشارين لعقد ونصف العقد تقريبًا، وعليه فإن سيرته الوظيفية كلها في هذا المجال المهم الخصيب، الذي يستوجب على صاحبه قوة التأهل العلمي والعملي، والحضور الذهني، والقدرة على حل الإشكالات، والاستعداد الدائم، سواء في أعمال الإعداد والصياغة، أو لرئاسة اللجان ذات الاختصاص القضائي وغيره وعضويتها، أو عند التمثيل الرسمي في مؤتمرات إقليمية أو دولية.
هذا الجمع في العمل بين هيئة الخبراء ثم مجلس الشورى، يمنح للمرزوقي صفة القانوني الذي مارس مهامه في مجلسين عليهما مسؤولية جسيمة في إعداد الأنظمة، ومراجعتها، وتفسيرها، وإبداء الرأي حولها، ويشير هذا الجمع إلى تزكية من ينتدب لمثل هذه المهمة؛ إذا أنه لا يؤدي العمل فقط، وإنما ينقل الخبرة العميقة التي ترسخت لديه في هيئة الخبراء بالعمل على الأنظمة واللوائح وفي اللجان، وما تتطلبه هذه الأعمال من تدقيق وصياغة، إلى مجلس الشورى الجديد تكوينه، وهو مجلس متنوع التخصصات والآراء، وقد سمعت من أحد أعضائه السابقين وهو قاض شرعي، كلمة مفادها أن الصياغة، وإعداد مشروعات الأنظمة، ومراجعتها، من أهم ما استفاده إبان عضويته الشورية.
ولم يقتصر د.محمد على الجانب العملي فقط، وإنما بذل جزءًا من وقته في التدريس الجامعي، وإفادة طلاب العلم والمعرفة، وصنع ذلك في قاعات الدرس، أو بمناقشة الرسائل العلمية والإشراف عليها، أو بواسطة لقاءات عامة يتداعى لها أصحاب الاختصاص للنهل من علم المتحدث وتجربته، ولا يكاد أن يغادرها أحد ولو طالت المدة عن المعتاد، وهي محفوظة في اليوتيوب. ولا يتردد الشيخ د.المرزوقي في إجابة السائل، ودلالة الباحث على مواضع تعينه وتفيده، ويكون فيها مظنة الإجابة المستفيضة عن المسألة المطروحة.
وأوسع باب دخل منه شيخنا المرزوقي لتحقيق هذا الهدف النبيل هو التأليف المتقن بعد طول معالجة علمية وعملية للموضوعات التي كتب عنها، وبعضها دراسات غير مسبوقة في الموضوع، أو السعة، أو العمق، أو التحليل والبيان والاستدلال. إن استعراض عناوين مؤلفاته التي تبلغ العشرات ليؤكد لنا أننا أمام عالم متبصر في الفقه الدستوري، وخبير في إعداد الأنظمة وصياغتها، ومدرك لطبيعة العمل القانوني في السعودية، وفلسفته ومصطلحاته وأدواته.
كما درست هذه المؤلفات موضوعات في القضاء، والسلطة، والتقنين، وعلّقت على بعض الأنظمة، وناقشت بعض الكتب الصادرة التي أحدثت حراكًا ونقاشًا مثل كتاب “الدولة المستحيلة” للدكتور وائل حلاق. ومن كتبه المهمة دليل عملي إلى فن الصياغة، وآخر في التأريخ لإصدار الأنظمة في المملكة، مع التركيز على شرح الأنظمة الأساسية، والتعريف بمجلسي الوزراء والشورى.
وثالث كتاب يحسن التنويه عنه جمع فيه المصطلحات الدستورية وأبان عن معانيها الشرعية والقانونية. مما يلاحظه القارئ في كتب شيخنا بعد جودة الإعداد، وتعبه العلمي الظاهر، وعرضه الواضح، أن د.محمد المرزوقي يعتز بلا منازعة بأصوله الشرعية، ومرجعيته الإسلامية، وبالتطبيقات والاختيارات السعودية. وأما رسالته للماجستير والدكتوراة؛ فقد أشرف عليه وناقشه فيهما أشياخ كبار مشاهير، وهما من ضمن كتبه المطبوعة التي لا يغفل مؤلفها عن تحديثها في طبعات متوالية، ولا عجب أن تتسابق الجمعيات والمكتبات إلى الظفر بطباعتها. وخلاصة القول: إن مؤلفاته تمثل مكتبة فقهية وقانونية سعودية تستحق الإشادة، والفخر بها؛ كونها منجزًا علميًا فرديًا.
ومما يمتاز به أبو عبدالله غير الجمع بين دراسة الشريعة والقانون، والعمل في هيئة الخبراء ثم في مجلس الشورى، وكثرة التأليف خاصة في المسائل الدستورية والنظامية، والمشاركات المفيدة محاضرًا ومناقشًا، أنه عمل إلى حد الاقتراب مع شخصيات سعودية مهمة في العمل الإداري والقضائي والقانوني، مثل الشيخ محمد بن جبير في مجلس الشورى، والدكتور مطلب النفيسة في هيئة الخبراء، وللنفيسة عنده مكانة كبيرة لطول العهد معه، حتى أن المرزوقي يتفاعل مع ما كتب عن د.مطلب في محياه وعقب مماته، ثمّ أدار لقاء عقده مركز الشيخ حمد الجاسر للتعريف بمآثر الفقيد النفيسة، وفيه لم يخف المرزوقي تقديره لأبي خالد في علمه وسمته وإدارته، وصرح بما اقتبسه منه، واستبان تاثره برحيله.
إن د.محمد بن عبدالله المرزوقي واحد من الأمثلة البهية سيرتها، الملهمة مسيرتها، الناصعة منجزاتها، في هذا الميدان الكبير الخطير، الحافل بالصعوبات المتصورة أو الواقعة، والتوفيق للسداد فضل من الله على عباده. إن الجمع بين أكثر من فن وعلم يفتح لصاحبه غير نافذة؛ حتى لا يقع أسيرًا لنظرة واحدة، وكي لا يقبع في زاوية ضيقة حرجها شديد، وتفريجها قليل. وما أحوج البلاد والحضارات على المدى القريب والبعيد للوعاء الذي يستوعب ويعي؛ ولأجل ذلك يكثر في التاريخ ورود أسماء أعلام أتقنوا أزيد من علم وفن وربما برعوا فيها، وفي وقتنا الحاضر نجد في سير كثير من رجال الدولة الجمع دراسة أو عناية بين تخصصين قريبين من بعضهما، أو حتى بعيدين، والله ينفع ويبارك.
الرياض- ليلة الجمعة 04 من شهر ذي القعدة عام 1446
02 من شهر مايو عام 2025م