سير وأعلام

محمد بن إبراهيم الخضير ولسان صدق!

محمد بن إبراهيم الخضير
Print Friendly, PDF & Email

محمد بن إبراهيم الخضير ولسان صدق!

تلقيت بعد فجر هذا اليوم رسالة وتسية محزنة تنعى الشيخ الكبير محمد بن إبراهيم الخضير (1344-1444)، والله أسأل أن يغفر للشيخ، ويلهمه حجته، ويثبته بالقول الثابت في مثواه، وينير له المرقد، ويبرد عليه المضجع، ويؤانسه في الوحدة حينما يوسدّ الثرى بمقبرة النسيم شرق الرياض عصر يومنا هذا. ثمّ أسوق العزاء مكتوبًا لأسرته القريبة والممتدة، ولأهل رياض الخبراء، وللعفالق وقحطان، ولمحبي التعليم والأوقاف، وللمملكة وأهلها، والله يرحم الراحل، ويحفظ العقب، ويحمي البلاد وشؤونها وأناسها.

أما إذا أردنا أن نقف على عجل مع سيرة هذا الرمز الشهم الراحل؛ فسوف نجد أن التعليم ركن ركين في محياه الطويل، فقد لاحظ منذ صباه تقدير العلم وحملته وطلبته؛ فشغف بالدراسة وتحصيل العلم، وترك لأجل التعلّم والتعليم فرصًا وظيفية، وتجارية، ومكانية، غير راحة البال والجسد والذهن التي هجرها جريًا وراء مطلوبه السامي، وإنه ليصدق عليه الالتزام بنصيحة عالم الإدارة الأمريكي “ستيفن كوفي” صاحب العادات السبع، الذي وضع شرطًا للنجاح بعبارة مختصرة عملية واضحة هي قوله: اجعل أهم شيء في حياتك أهم شيء في حياتك! وقد كانت حياة الشيخ الراحل على التحقيق مختصرة في مئة عام من التعليم بلا عزلة.

ولم يكتف شيخنا الهمام بذلك، إذ أنجز وقفًا معلومًا من ثروته وهو على قيد الحياة، وصيّر التعليم أحد مصارف الوقف الظاهرة لمن قرأ عن أعمال الخضير المحيطة بالتعليم وبيئته وأصحابه ومبانيه ووسائله. وفوق هذا سعت مدارسه الأهلية، وجامعته الخاصة، لمنح مقاعد مجانية لمن يستحقها من المجتهدين الذين قد لا يستطيعون دفع الرسوم بسبب أعباء الحياة المرهقة على الأسرة، وإنه ليؤكد بصنيعه الذي تتابع عليه أنجاله وأحفاده بأن التعليم هوية أصيلة لدى الخضير وفي أمشاجه التي ورثتها ذريته وأسرته العريقة عنه، سواء بالاجتهاد الدراسي حتى نال بعض أحفاده وحفيداته أعلى الدرجات العلمية، أو بالتبرع من أجل العلم كما نسمع ونقرأ بين فينة وأخرى.

ليس هذا فقط؛ بل إن الشيخ حمل همّ التعليم معه في الحضر والسفر والسياحة، وعندما لاحظ في بلدة عربية جفول الناس عن تعليم بناتهم، بسبب ما يحتف بمكان التعليم والدراسة من منغصات، بادر بما له من وجاهة وقدرة إلى علاج ذلكم الإشكال؛ كي لا تحرم البنات العفيفات، والشواب الحرائر، من نور العلم ومتعة الدراسة، وفي هذا التصرف الرشيد ملمحان عظيمان، أولهما أن للتعليم حمى يجب ألّا يستباح كي لا تسوء علاقة المجتمع به، وأن الخضير وهو الرجل القصيمي النجدي يكذِّب ما قيل بافتراء عن تعميم موقف قومه من تعليم المرأة؛ وكيف لا يفعل وهو أحد رواد تعليم المرأة الكبار!

ومن مآثر الشيخ أبي إبراهيم إقدامه المبكر على نفع مجتمعه بصرف المال المحبب للنفس البشرية دون تردد، فأسس، وشيّد، وساند، ولم يتأخر عن أيّ مجال يستطيع منه إفادة البلاد والعباد، وعسى أن يكون منهجه في العطاء قدوة لأثرياء برعوا في غلّ اليد عن الخير، وإطلاقها في شهوات النفس الزائلة وأهوائها المريبة أحيانًا، والفضل من الله المنعم المنان.

ومن بصيرة الشيخ الخضير أنه عندما أسس مشروعات اجتماعية ابتغى منها عدة أهداف، مثل تأهيل الأسر، ورفع مستوى المعيشة للفقراء، وإمتاع العوائل، وفوق ذلك صيّرها سبيلًا كي تبرز الفتيات بلا حرج في بيئة آمنة أمام الأمهات؛ وفي ذلكم البروز الشرعي فرص للزواج والتصاهر وتكوين أسر جديدة، وتقليل العزوبة والعنوسة، وكم في مؤسستي الزواج والأسرة من حفظ للمجتمع، وتقوية للأمن القومي في الحاضر والمستقبل.

ثمّ كان من توفيق الله للشيخ أن بدأ يبتعد تدريجيًا عن العمل والتجارة، ويترك الفرصة للأجيال من بنيه وأحفاده، حتى يمم حياته صوب تلاوة القرآن الكريم، والاطلاع على الكتب، والالتقاء بالأسرة وأبناء البلدة والأصدقاء، والسفر، والعيش في المزرعة بعيدًا عن صخب المدينة والحضارة، والمجالسة اللطيفة، فكان موفقًا في إسعاد نفسه، وإشغالها بما هي مقدمة عليه ولا محالة، وموفقًا بتأهيل أنجاله وأحفاده لغيابه المحتوم، وتسليمهم راية التعاقب من بعده.

تلك الراية التي حرص على تركيزها في النفوس والمفاهيم، ثمّ جعلها ماثلة للعيان بالتطبيق والتنفيذ، وختمها بميثاق محكم يلتزم الكافة به، وهو درس للأسر العريقة كي لا يضيع مجد ورثته، أو لا يفرّط البناة الأوائل فيما تعبوا من أجل إيجاده أو استرجاعه كما هو صنيع الشيخ محمد، الذي أصبح أحد أعلام أسرته، وبلدته، ووطنه، وعالم الاقتصاد، وحقل التعليم، ومجال الأوقاف، وصار أستاذًا في زمن الكدّ والنصب، وفي وقت الراحة والهدوء؛ ولعلّ اللاهثين في زحمة الحياة ومتاهاتها دون توقف أن يقتبسوا من حكمته وحنكته.

كما أن الشيخ عكف في أخريات عمره على تسجيل ذكرياته، وسرد حكاياته، وفيها شيء من تاريخ أكثر من مكان، وإنسان، وكيان، وهي حسنة منه على القراء ومحبي درس التاريخ الاجتماعي والثقافي، وفضل من بنيه الذين سمعوا منه، ووعوا عنه، وكتبوا منطوقه، وسعوا جاهدين في إخراج السيرة ونشرها في معرض للكتاب أقيم بالقصيم موئل الشيخ ومنبته، وفي ذلكم إشارة إلى اجتماع محبوبات صاحب السيرة وهي الكتاب والقصيم وأميرها وأهلها، ولعلّ بقية الكبار أن يفعلوا، أو يهب الأبناء والمقربون لاستنطاق الصامتين.

أشير أخيرًا إلى أنه من الموافقات أن رسالة النعي وصلت لي وقد فرغت من كتابة تقديم لكتاب سيصدر قريبًا عن الدكتور غازي القصيبي، وهي موافقة لأن جامعة اليمامة التي تعود ملكيتها للشيخ الخضير قد سارعت لتبني كرسي يحمل اسم الراحل القصيبي، وهو كرسي نشط منبريًا وتأليفيًا، والعمل المنبري والتأليفي لصيق بالتعليم، والتعليم أحد القواسم الكبرى المشتركة بين الخضير والقصيبي؛ وهذه موافقة أخرى واضحة.

رحم الله الشيخ الراحل بلسان صدق وثناء ومحبة لافتة للنظر، وكيف لا يكون له هذه الحال وهو الذي أحب التعليم ولم تتراجع جذوة هذا الحب في قلبه، ولم تهزمها مغريات الأرباح، وجاذبية الأعمال الرنانة صوتًا المتوهجة ضوءًا، ولم يتراخَ عنها بسبب طول متاعبها، وكثرة إشكالاتها، وقربها من الشقاء أحيانًا، والله يجعلها له من عاجل البشرى، ولآله من أسباب الرضى والسلوان.

ورحم الله الرجل الذي أنشأ الأوقاف المحكمة، وشارك في العمل الخيري والمجتمعي بطيب نفس وإقبال روح، وترك سيرة مشاهدة بالآثار، أو محفوظة بالرواية، أو مرئية، أو مكتوبة، وهي جديرة بأن تحتذى، ثمّ أجاد بأن خلّف وراءه أسرة طيبة نقية، وأبناء وأحفادًا وذرية يتباهى بهم، ويتباهون هم به، وليس هذا المهم فقط؛ بل مربط الفرس ومكمن الأمل ينحصر في المسير على دربه الرشيد في العمل، ومسيرته السديدة في الخيرية والمكارم، وإنهم لفاعلون بإذن الله.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس الخامس من شهر ذي القعدة عام 1444

25 من شهر مايو عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)