سير وأعلام شريعة وقانون

محمد العلي الفايز: جذور أصيلة ومآثر جميلة

أصبحنا اليوم الأربعاء على خبر وفاة الشيخ محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الفايز (1355-1446=1937-2025م) -رحمه الله-، الذي ينتمي إلى قبيلة بني تميم، ويعود أصل أسرته العريقة إلى “الفرعة” بالوشم الواقعة قريبًا من أشيقر وشقراء، ولبعض أفراد هذه الأسرة إمارة متعاقبة فيها. وقد سافر جده علي بن محمد بن عبدالله الفايز من الفرعة، فقابل في طريقه مجموعة قادمة من حائل قاصدة أشيقر ليبحثوا عن كاتب لهم، فأخبرهم أنه يعرف الكتابة رغبة في العمل، ومن تلك الحادثة استقر في حائل؛ ليصبح لهذه الأسرة حضور في حائل شمال المملكة، وفي طفولته انتقل مع والده إلى المدينة النبوية.

فامتزجت بذلك في معالي الشيخ الراحل بداهة إقليم الوشم وذكاء أهلها، وسماحة أهل حائل وكرمهم، وبركة المدينة وطيبة سكانها وأهلها؛ ولذلك فلا غرو أن يصفه عارفوه بأنه يذكر اسمه دون إيراد شيء من ألقاب الفخامة، ويتواصل مع موظفيه دون حواجز، بل ويقابل بنفسه مراجعي وزارته، ويتلطف إليهم حتى لو لم يستطع تلبية جميع طلباتهم، فوزارته شملت العمل والشؤون الاجتماعية (1403-1416)، ثم الخدمة المدنية (1420-1433)، وهذا يعني أنه كان مسؤولًا عن ملف ثقيل جمع الموارد البشرية في القطاعين العام والخاص، وهو مجلبة للصداع في كل الدول أي مجلبة! كما ارتبط بالعمل المجتمعي والخيري الذي يطوق أرجاء البلاد الواسعة، ويا له من تطواف مرهق بيد أنه مضاعف الأجور.

وبما أننا عرجنا على سيرة معاليه الوزارية؛ فلا بأس من الإشارة إلى بعض ما يميزه؛ فمن ذلك أنه أول وزير جديد انضم لعضوية المجلس في عهد الملك فهد؛ فأصبح سادس وزير للعمل والشؤون الاجتماعية، وجميع من سبقه في هذا المنصب وزراء كبار ورجال دولة لهم مكانتهم وأهميتهم، وفي هذا تنبيه على مقام الرجل وثقل وزنه العملي. وهو أول وزير لوزارة الخدمة المدنية التي كانت ديوانًا هو رئيسه قبل تحويله لوزارة، وينبني على ذلك من خلال تواريخ عضويته المجلسية أنه واحد من سبعة وزراء عادوا إلى مجلس الوزراء بعد مغادرته، كما أنه واحد من واحد وعشرين وزيرًا من دارسي القانون في تاريخ المجلس، وكلا الخاصتين يضاف لهما عبارة حتى الآن! ومجموع سنوات عضويته يتجاوز ربع قرن غير متصلة، وبالتالي فهو من أطول الوزراء عضوية، وسبقه وتلاه آخرون أطول عضوية منه.

ونظرًا للخبرة التي جمعها سواء بتخصصه العلمي، أو بعمله مستشارًا في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، أو في رئاسة مؤسسة التأمينات، أو في الديوان ووزارتيه، ورئاسة مجلس إدارة معهد الإدارة العامة، فقد كان أحد مستودعات الخبرة النظامية والإدارية في المجلس، حتى أن الوزير الكبير د.غازي القصيبي كان يقدر له ذلك إذا اجتمع معه في لجنة واحدة عامة أو خاصة مثلما سمعت من شاهد عيان أنسيته الآن، وكان أبو ياسر موضع ثقة عميد الوزراء د.عبدالعزيز الخويطر في ترشيح مدير لمكتبه، وعندما قبل الملك عبدالله استعفاء الفايز من المنصب استقبله وودعه وقال له كلمة معناها لو ما تركتنا ما تركناك! علمًا أن استقبال الوزير القديم وتوديعه علانية من قبل رأس الدولة له دلالته وفرادته.

إن هذه المسؤوليات استلزمت احتكاك معاليه مع مجتمع العمل الدولي، وهو مجتمع شرس طويلة أنيابه، كثيرة مؤاخذاته، وفيهم سماعون، ولا يقوى على مقارعتهم وإقناعهم إلّا الرجل الهادئ العميقة نظراته المتماسكة أراؤه. كما سعى أبو ياسر إبان وقوفه على رأس هرم الجهاز المسؤول عن موظفي الدولة إلى إدخال التقنية، وخدمة المراجعين حيثما كانوا دون حاجة لإنشاء سفر ذي عناء، وأذكر أني استفدت من خدمات وزارة الخدمة المدنية باتصال هاتفي دون أن أبرح مكاني! وقد اشتهر عنه تعاطفه البالغ مع الموظفين، وحثه على تسريع ترقية المستحق خاصة من اقترب وقت تقاعده منهم؛ كي يستفيد الموظف، وهذا من صفاء قلبه، وحرصه على تثبيت محبة الحكومة لدى مواطنيها، وكان يكرر القول لموظفيه: لا يراك الله إلّا محسنًا كما أخبرني معالي نائب وزير الخدمة المدنية الأستاذ عبدالله بن علي الملفي الشهري.

وقد درس أبو ياسر في حائل والمدينة والقاهرة وكاليفورنيا، وكان من أنشط الطلاب السعوديين في مصر، ولذلك تولى بعض المهام أثناء زيارة الملك فهد التفقدية لهم، ولم يلتفت لانتقادات بعض الطلبة المتأثرين ببعض شطحات الأفكار. ومن لطيف خبر بعثته المصرية، أن ترافق وجود زميل مبتعث معه من أسرة الفايز الحايلية الكريمة، وكان بعض الأساتذة يظن أن بينهما علاقة عمل بسبب معنى الاسم الذي يحمله الشخص الآخر، رحمة الله وعفوه لجميع أمواتنا المذكورين هنا وغيرهم.

لم يكن الوزير ورجل الدولة يتشوف للظهور الإعلامي مع أن مناصبه تدفعه لذلك دفعًا، ولأجل خلة الاختفاء والتواري -من غير خوف ولا عجز- غاب عن الإعلام لولا وجود لقاء صحفي أجراه معه د.إبراهيم التركي وضمنه في الجزء الأول من كتابه بعنوان: “واجهة ومواجهة”، وربما أن الفايز وافق على الحوار لأسباب منها معرفة أبي يزن وثقافته في مجلس الشيخ عبدالله النعيم. ومن فضل الله تسجيل لقاء تلفزيوني له مع الإعلامي محمد الخميسي في برنامجه “وينك” الذي أخرج لنا عددًا من كنوز الذكريات الدفينة، التي كادت أن تغدو مفقودة ماسوفًا عليها، وفي هذا رسالة للإعلاميين ومؤسساتهم أن أدركوا البقية الباقية بأي حوار أو لقاء قدر المستطاع.

من المواقف التي سمعتها عنه -رحمه الله-، أنه ذهب للعزاء في الشيخ القاضي النسابة حمد الحقيل -رحمه الله-، وحين هم بالانصراف دخل الملك سلمان ومعه بعض أنجاله -حفظهم الله جميعًا-، وكان الملك أميرًا للرياض حينها، فانتظر الوزير ولم يخرج، وكان الملك يلاطفه بقوله: هذا مديرنا! وهو حينها وزير للخدمة المدنية. ومرة طلب مدير جامعة الملك سعود أ.د.عبدالله الفيصل من معهد الإدارة إعارة خدمات د.حامد الشراري لتأسيس جامعة الجوف، ولم يستجب المعهد بناء على الضوابط وتقدير الحاجة الداخلية، وعندما وصل الأمر لأبي ياسر وافق على الإعارة استثناءً؛ لأنه يرى المسألة من منظور أوسع، وخدمة الوطن كله أولى عبر مشروع تأسيس الجامعة، ثم مصير المعار أن يعود إلى مقر عمله، وهو الذي تم بتفاهم بين المعهد والجامعة، علمًا أن الفايز آنذاك رئيس لمجلس إدارة المعهد.

أما اجتماعيًا؛ فقد عاش أبو ياسر يتيم الأم، بيد أنه حظي برعاية زوجات أبيه مما يكسر الصورة التلفزيونية القبيحة عن زوجات الأب! وقد وهبه الله فيض حنان حت صار لدى بقية إخوته بمنزلة الأخ الوالد، ولعمركم إن الأخوة الوالدية لمنزلة عليّة عليّة، ومنقبة لصاحبها، وللأسر المتراحمة التي توجد فيها. وقد انساب حنانه على الفئات الضعيفة التي ترعاها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وليس بخاف أن معاملة الضعفة في أي مجتمع تكشف للناظر عن أصالة هذه البيئة وعراقتها وقوة تماسكها الداخلي.

وبعد أن ارتاح وزيرنا الكبير من المناصب والعمل المرهق، ازداد تفرغه لمكتبته وعبادته وبيته وأولاده الذين أحسن تربيتهم، فكانوا خير سند له، والله يكتب له أجر الصبر على فقد بكره “ياسر” ورحيله قبل بضع سنوات، ويكتب له آثاره المباركة فيمن خلفه من إخوة وأبناء وحفدة وأعمال ظاهرة وخفية، وما ذلك على كرم مولانا وقبوله بعزيز ولا بعيد؛ فاللهم نور عليه قبره في ليلته الأولى، وافتح له منه بابًا إلى الجنة، واجعله فيه ممن أجاب وأصاب، وثبت وأمن، وانتظر القادم الأجمل.

ahmalassaf@

الرياض- ليلة الخميس 19 من شهرِ شوال عام 1446

17 من شهر إبريل عام 2025م

Please follow and like us:

6 Comments

  1. كفيت ووفيت وهذا قليلا من كثير رحل بصمت وبقيت ذكراه العطره
    غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)