بعد صدور نظام مجلس الشورى مع النظام الأساسي للحكم ونظام المناطق في أواخر شهر شعبان عام 1412= الأول من شهر مارس عام 1992م، تداول الناس عدة أسماء مقترحة لمن سيكون الرئيس الأول لمجلس الشورى بعد تجديده، وذهبت كثير من المقترحات إلى أسماء كبيرة جدًا من الأسرة الملكية، حتى أن وزير الداخلية الأمير نايف -رحمه الله- صرح لوسائل الإعلام -حسبما أذكر- نافيًا هذا الاحتمال. جاء الأمر الملكي بعد ذلك ليؤكد هذا النفي.
فلقد أصدر الملك فهد -رحمه الله- أمرًا ملكيًا بتسمية معالي الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، رئيسًا لمجلس الشورى. كان هذا الاختيار دقيقًا حصيفًا غير مستغرب، بيد أنه انتقاء متعب خاصة في بلد يتوافر فيه رجال دولة كبار وهو ما عبّر عنه الملك صراحة حينما قال ما معناه: يسألني الناس كيف اخترت هذه الأسماء؟! وأنا أخبرهم كيف أني قد احترت في تعيين هذه الأسماء! وهذه كلمة نفيسة، يثني بها رأس الدولة آنذاك، على وجوه الناس وذوي الكفاءة والأهلية من مواطنيه وشعبه.
إن الناظر في سيرة معالي الشيخ محمد بن إبراهيم بن عثمان بن جبير (1348-1422=1929-2002م) -رحمه الله- ليرى دون حاجة إلى مساعدة، ذلكم الإعداد الضخم علميًا وعمليًا الذي سار الشيخ في مدارجه خطوة خطوة حتى بلغ أحد المناصب العالية في بلاده. من مفردات ذلكم الإعداد المسيرة العلمية للشيخ؛ ففيها تتلمذ مشيخي، ودراسة نظامية، وفيها النظر المستمر في الكتب، مع قراءة المجلات، ولا تخلو من صحبة شيخ أو أستاذ من داخل البلاد أو خارجها، ولا تأنف من اقتباس الفوائد من زميل أو نظير. من لافتها أن الشيخ يتعمق في قراءة الفقه الإسلامي، ويغوص في بحر القانون الوضعي؛ فيقرأ فيه حتى لكأنه طالب علم في “السُربون” التي تخرج فيها السنهوري وغيره، أو دارس في “هَرفرد” التي انتسب إليها مشاهير كثر مثل رالف نادر!
ثمّ عمل الشيخ في القضاء والتفتيش القضائي والتحقيق والإدارة العدلية، وتعايش أثناء عمله مع أسماء كبيرة من أجهزة الفتيا والقضاء والإدارة، واقترب من رجال الدولة وملوكها. هذه التجارب العلمية أوقفت الشيخ على المجتمع بتنوعه في ثقافته وتقاليده وعوائده، وأبصر منها الوطن بثرائه في التاريخ والبلدان واللهجات، كما أطلعته عن قرب على وقائع الحياة الاجتماعية، والرسمية، وعلى أمزجة وطبائع، وتفاعلت هذه المدخلات مع مدخلات أخرى سابقة ولاحقة، بعد أن حاكمها الشيخ إلى ثوابته وأصوله، ووزنها بميزان الشريعة والمصالح المعتبرة؛ فكان المنتج الفريد الذي امتاز به.
ولم يكف الشيخ عن التعلّم الذاتي بالقراءة، أو بالمناقشة، أو بحضور ندوات دولية عن حقوق الإنسان والقانون، مع فتح باب الحوار الرزين المثمر مع الآخرين، وإقناع طالب الحق منهم بالحجة والبيان الهادئ، حتى أن صحفيًا أمريكيًا أراد أن يحرجه بدعوى سامجة خلاصتها أن مخالفة بعض المسلمين لأحكام دينهم دليل على انتفاء صلاحية الدين أو ضعف قناعتهم به! فقال له الشيخ: وهل فضيحة رئيس أمريكا “نيكسون” المعروفة باسم “ووتر جيت”، المخالفة لدستور بلادكم تعطي النتيجة نفسها؟ وهل وجود قانون للعقوبات عند الدول كافة يؤدي إلى ما ذهبت إليه! فبهت الأمريكي من قوة الحجة، وشمولية الجواب، وربما أنه أيقن بأن الرجل الذي أمامه قد استعلى بحضارته وأصوله، وليس ممن يتطامن للغريب والغربي.
كل هذا سيقودنا إلى ملمح مهم وركيزة أساسية تتوافق مع فكرة المقال ومقدمته؛ إذ كلّف الشيخ بمهام عدلية وقانونية كثيرة ومهمة ورفيعة، فشارك منذ زمن مبكر في إعداد أنظمة تخص ديوان المظالم، والقضاء، وأنظمة المرافعات، والإجراءات الجزائية، مع التوجه عن اعتقاد لتقنين الفقه بما يعين القضاة ويوحد الأحكام ولا يحول دون الاجتهاد. ومارس الشيخ هذه الأعمال بإتقان إن في الإعداد أو الصياغة، ولا عجب فهو كان في مستهل مسيرته القضائية حريصًا على فهم أصول الصياغة، وعلى تتبع مؤاخذات الدرجات القضائية النهائية على الأحكام الابتدائية مما زاد من بصيرته، ووسع مداركه.
ثمّ عقب ذلك أصبح عضوًا في لجان عليا لكتابة الأنظمة الأساسية، وربما أنه العضو الوحيد الذي تكرر اسمه في تلك اللجان التي عملت في عهود الملوك فيصل وخالد وفهد -رحم الله الجميع-. وقبل وبعد هذه المشاركات العلمية والعملية المحورية، عمل شيخنا قاضيًا في ديوان المظالم، وعضوًا في لجان قضائية تجارية وطبية، ومفتشًا ومحققًا قضائيًا، وتوج هذه الأعمال حين اختير رئيسًا لديوان المظالم عام (1395=1975م)، وأصبح مع هذه الرئاسة وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء عام (1407=1987م)، ثم جمع ثلاثة مناصب عدلية في وقت واحد ولم تجتمع لأحد قبله ولا بعده -فيما أعلم-؛ إذ سمي عام (1410=1990م) وزيرًا للعدل، ورئيسًا بالنيابة لمجلس القضاء العالي، ورئيسًا بالنيابة لديوان المظالم.
إن رجلًا بهذه الصفات التكوينية وبهذه الخبرات النادر اجتماعها، لحقيق بأن يقع عليه اختيار الملك فهد بحكمته وحنكته؛ ليصير أول رئيس لمجلس الشورى في تكوينه الجديد، وثاني رئيس للمجلس في تاريخه بعد الملك فيصل. هذا المنصب الذي يستوجب على حامله التعامل مع أعضاء من مشارب شتى، ومقابلة وفود من برلمانات عالمية وإقليمية عريقة متنوعة في فلسفتها ونظمها ومنطلقاتها، ومعالجة مسائل تتصل بالمنظومة القانونية، والشان العام من جوانبه كافة، ويا لها من مهمات ثقال مرهقة، ولا يكاد أن يقوى على لأوائها أحد أكثر من الشيخ القانوني محمد بن جبير!
وقد كان الشيخ بشهادة من تعامل معه قاضيًا ورئيسًا ووزيرًا ورئيسًا للمجلس واسع البال، حفيًا بالحوار، وبالزوار الذين لا يغلق دونهم الباب، ويزين ذلك كله بسمة هادئة وصوت خفيض وألفاظ منتقاة. ومن لطيف ما وقعت عليه أنه يقابل العشرات يوميًا في مكتبه بوزارة العدل، وينصت إليهم، ثم يتودد لهم بإخبارهم عن معرفته بمناطقهم وتاريخها ولهجاتها ورجالاتها، مع أنه يجزم باستحالة تغيير أي حكم قضائي يعترضون عليه؛ لأن سبل الاعتراض عليها لها مساراتها القضائية البعيدة عن الإدارة العدلية، وهذا من الفصل المحمود بين السلطات، لكنه حرص على كسب قلوبهم، وامتصاص غضبهم، وسماع اعتراضهم؛ فهو في النهاية مفوض من ولي الأمر وممثل له، وجدير برجل الدولة أن يزيد من حب الناس لبلادهم وقادتها. ومن إحسانه وبعد نظره سعيه الحثيث لإدخال التقنية في العمل العدلي، وتأييده نشر الأحكام القضائية، لتعزيز الشفافية، ونشر المبادئ والسوابق.
ليس هذا فقط؛ بل حتى أساتذة القانون يجلونه وينبهرون منه، كما نقل د.فهد العرابي الحارثي في كتابه “هؤلاء وأنا” عن البروفيسور سليم جاهل، أستاذ القانون الدولي في جامعة باريس الثانية، قوله بعد أن التقى بالشيخ ابن جبير لأول مرة في منزل الحارثي: “بهرني يا فهد هذا وأريد تكرار اللقاء معه!”. وفي مقدمة كتابه “التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية”، كتب مؤلفه د.محمد عبدالجواد محمد شاكرًا وشاهدًا: “ولمعالي الشيخ محمد بن جبير رئيس ديوان المظالم فضل كبير، فقد تعددت لقاءاتنا وطالت مناقشاتنا، التي خرجت منها بحصيلة وافرة، من خبرته العلمية والعملية في القضاء والتشريع”. وفيما مضى من أيام كُرم معالي الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير ضمن فعاليات الأسبوع الخليجي الأول للقانون والتحكيم؛ لأنه من رواد العمل القانوني بدول مجلس التعاون الخليجي.
هذا مختصر عن سيرة مشيخية قانونية لرجل من أبرز أعوان الدولة كما وصفه زميله في هيئة كبار العلماء وفي مجالس قضائية الشيخ عبدالله بن منيع، وهو الفقيه والقانوني الذي يلتفت إليه الجميع في مراحل البحث والإعداد نظرًا لفهمه وإدراكه للموضوع بناء على شهادة وزير المالية الأسبق الشيخ محمد أبا الخيل، وكذلك فهو المسؤول الذي يقصي أوهام المنافسة وأوشاب حظوظ النفس؛ فيستمع للمحامين، ويعدهم من أعوان القضاء، ويستفيد من آرائهم في تطوير العمل كما قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رئيس ديوان المظالم، وهذه الشهادات نقلتها مختصرة منسوبة لأصحابها الذين أدلوا بها لبرنامج “الراحل” الذي يقدمه الإعلامي المثقف محمد الخميسي.
إن هذه الخصال الجليلة للشيخ ابن جبير قد منحته شهادة ثمينة قيّمة، قالها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- عندما زار مجلس العزاء لمواساة أبنائه وأسرته، إذ وصف الشيخ بأنه رجل علم ورجل دولة ورجل أخلاق. وقد تجلت هذه الصفات النبيلة في الشيخ الذي يجمع بين دراسة الفقه والإحاطة بالأنظمة، فأصبح منفتحًا لكنه ليس متنازلًا؛ فلديه قواعد وضوابط وحدود، ويتبنى إرجاع الموضوعات إلى أصولها، وربط المتشابهات مع بعضها، ذلك أن القياس ومعرفة العلل والمقاصد، والسبر والتقسيم، من خير ما ينفع الفقيه والقانوني في التصور والتكييف وإبداء الرأي.
الرياض- الأربعاء 11 من شهرِ شوال عام 1446
09 من شهر إبريل عام 2025م