أنا مؤمن بالتعليم والتعليم العالي وما لهما من أهمية، بيد أن التعليم الواسع مداه لا يكفي وحده، وغيابه مع وجود أساسه القويم إضافة لسمات شخصية أخرى تصنع العظمة في أصحابها؛ وليس أدل على ذلك من استعراض شخصيات لافتة في تاريخنا السعودي، وهم رجال دولة مقربون من الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-، ولهم آثار وأعمال، مثل: ابن بليهد، وابن سليمان، وابن صقير، وابن منديل، وابن شلهوب، والشايقي، والأمثلة كثيرة يصعب حصرها، مع حفظ الألقاب لهم، والدعاء الدائم لهم بالرحمة والقبول.
من هؤلاء الصيد الميامين معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الشيخ عبدالرحمن -قاضي الرياض في عهد الإمام فيصل بن تركي– بن عبدالله بن عبدالرحمن بن رزين بن عدوان (1329-1412=1911-1992م) -رحمهم الله-، الذي نشأ يتيم الأب ثم الأم وعمره لا يتجاوز السابعة. وقد نال القسط المتاح له من التعليم التقليدي والمشيخي، وهو تعليم قليل مقداره، محدودة فنونه، لكنه صادف شخصية ذات استعداد فطري لامتلاك المقدرة، والظفر المبكر بالأهلية الظاهرة، بما جبل عليه من مواهب، وما اكتسبه من قدرات، وما حظي به من عناية أسرته العريقة، ومشايخه الفضلاء، إن في حريملاء أو في الرياض، فبنى منه ذلكم التعليم الأساسي شخصية فذة حكيمة التصرف، رشيدة الرأي، سديدة القول.
لذلك استقطب الفتى اليافع والشاب العاقل ابن عدوان من عدة رجال ينتمون للأسرة الملكية العريقة، ابتداء من الأمير سعود الكبير زوج الأميرة نورة بنت عبدالرحمن التي بها ينتخي أخوها الملك عبدالعزيز، وبعده الأمير محمد بن عبدالرحمن “المصطفق”، وبعد زيارات متكررة من الملك عبدالعزيز، طلب من أخيه محمد انتقال ابن عدوان إليه عام (1359=1940م)، ومن تلك اللحظة ابتدأ نجمه بالصعود لاستحقاقه وحسن استثمار ولاة الأمر لأمثاله.
في هذا الموجز عن تاريخه العملي نلمح إشارات ذات دلالة؛ فعبدالعزيز خبير بالرجال وسماتهم، وقناص صائب للمتميز منهم، والأسرة الملكية تتسابق لاجتذاب أولي النباهة والأمانة سواء لعمل خاص أو عام، وآخر إشارة هي تلك المنزلة المبكرة التي بلغها ابن عدوان، والشهادة العملية له بالزكاة والنجابة من كبار البيت السعودي، بعد أن أمضى سبع سنوات في العمل مع سعود الكبير، ومثلها سبع أخرى لدى محمد بن عبدالرحمن، والبقية كما سلف وما سيأتي.
فقد عمل الشيخ عبدالله مع الملك عبدالعزيز، ثم مع الملك سعود، والملك فيصل -رحم الله الجميع-، وكانت الأعمال التي تولاها ترتبط بالمال، سواء في عضوية لجان التفتيش على المصروفات داخل القصر وخارجه، أو التعامل مع شركة مهمة مثل أرامكو، ومراجعة أعمال أجهزة مالية وجمركية وبلدية في المدن والمراكز الحدودية، وتولي شؤون العمال في المنطقة الشرقية وتطبيق النظام لصالح عمال أرامكو من المواطنين، والتواصل الدائم مع أمراء كبار من فرع آل جلوي، ومع مديري أرامكو، وحضور مناسبات اجتماعية ورياضية وسياسية، وصولًا للمسؤولية عن مالية الشرقية، والإشراف على لجان تنفيذية تتابع توسعة الحرمين، ثم تعيينه وكيلًا لوزارة المالية، فوزير دولة للشؤون المالية والاقتصادية، وجعله على رأس لجنة لحل أزمة العقار، وأخرى لحصر تركة الملك سعود، وقسمتها على الورثة.
من أعماله المبكرة كذلك، مشاركته بمعية أمراء وقادة في أربعة معارك مهمة في التاريخ السعودي الحديث هي: “الرغامة” و”السبلة”، و “الدبدبة” و “الدهينة”، وفتح مدرسة لتدريب السعوديين على أعمال سكة الحديد، وفيها تخرج أوائل قيادات هذه المؤسسة. ومنها كذلك اقتراح إنشاء تأسيس معهد الإدارة العامة؛ ليخدم أجهزة الدولة كافة، وله شركاء آخرون في هذا المقترح المهم. وله في تنظيم الشؤون المالية للبادية والحاضرة جهود كبيرة لما عرف به من ثقة وتحرٍ للاصوب والأصلح؛ ولأجل ذلك وجد القبول والتصديق من ثلاثة ملوك مع أن كل واحد منهم لام ابن عدوان على شيء نمي للملك، وبعد أن أوضح لهم الشيخ جوانب الموضوع كاملة، انقلب اللوم إلى تأييد، وظفر منهم بمزيد التمكين، وهذه خصلة لمسؤول يستوضح ولا يستعجل، وعامل لم يحد عن الصراط المستقيم.
ومن أعماله إدارة صحيفة الرياض، ثم المشاركة في شركات وأعمال تجارية عقب مغادرته للعمل الحكومي، وأصبح رئيسًا لمجالس إدارات شركات كثيرة مهمة. وله في أبواب الخير والإحسان يد منفقة سرًا وجهرًا، ومسجده الجامع المشيد في الرياض على طراز حديث عام (1378) يشهد له، وهو أول مسجد جامع حديث في العاصمة أو من أوائلها مثلما كتب الأستاذ الباحث منصور العساف. ومن صنائع المعروف تبرعه بقصره لصالح جمعية البر بالرياض، ومسابقته لإنشاء المطابع بالرياض، وفي تأسيسها تنشيط لعالم الثقافة والطباعة والتأليف.
وللشيخ ابن عدوان حضور جميل في سير بعض السعوديين ومذكراتهم؛ فقد وصفه الأديب إبراهيم الحسون -رحمه الله- بأنه “أنظف المسؤولين يدًا وضميرًا وقلبًا”، ونعته جسمانيًا بقوله: ” قامة فارهة ووجه وسيم”، واسترجع ذكرياته معه سواء في العمل، أو في جلسات خاصة بأبحر، وهي في جملتها تبين عن شغف ابن عدوان بالأدب والعلم، وتدل على كرمه وحزمه، وتشير لحرصه على تقريب ذوي الكفاءة والنزاهة، وعلى تقليل المصروفات وضبطها، ومعرفته بمكامن العطب والسوء، وبأهلهما مع ترفعه عن ذكر الأسماء.
ومما ذكره عنه الأديب أبو عبدالرحمن بن عقيل أن الشيخ ابن عدوان محب للعلم والعلماء، ولم يستجب بما يرضي ابن عقيل فيما يخصّ طباعة كتاب شعر شعبي، لكنه أثنى على برنامجه الإذاعي “تفسير التفاسير” وبرنامج “قراءات في صحيح مسلم”، وقال ابن عدوان لابن عقيل: نحن نريدك لمثل هذا من العلوم! وفي مقوله إشارة لسمو العلوم المرتبطة بالشريعة على ما سواها، وأحقيتها بالنشر والمساندة والتقديم دون إهمال لسواها. ويضيف أبو عبدالرحمن واصفًا هذا الوزير الكبير بقوله: “فابنُ عدوان مع هيبةِ مجلسهِ، وإيغالِه في الرَّسمية والجِدِّ: كان له حُنُوٌّ، وكانت له تجلِّيات تربوية”، وقد أثمرت هذه التجليات وبانت آثارها المباركة في ذريته وأحفاده وأسباطه.
وأورد الأستاذ فهد بن سعد الدهمش في كتابه “حريملاء في عيون الوثائق” وثائق فيها أحكام لجد ابن عدوان الشيخ القاضي عبدالرحمن بن عدوان -رحمهما الله-، وقد ذكر لي الأستاذ فهد نقلًا عن والده الشيخ سعد بن إبراهيم الدهمش -حفظه الله- أن الوزير ابن عدوان صحب الملك سعود في زيارته إلى حريملاء عقب توليه الحكم عام (1373=1954م)، وفي هذه المرويات تأكيد على عناية الرجل ببلدته، وإشارة إلى حرص الولاة على تقريب من يستحق ممن كان لسابقيهم علاقات عمل مع الحكام والأئمة السابقين للدولة بجميع أطوارها، وهذا ديدن من الوفاء المحمود.
كما اطلعت على لقاء واسع أجراه معه الصحفي الأستاذ محمد الوعيل -رحمه الله-، وضمه إلى مجموعته النفيسة “شهود هذا العصر”، وهذا اللقاء ثمين وفيه الكثير لمن شاء الرجوع إليه، ومنه استفدت. وبعد رحيل ابن عدوان توالت الكتابات عنه، ثم جمعت في كتاب واحد، لكني لم أستطع الوصول إليه لا ورقيًا ولا إلكترونيًا. ولأهمية الرجل في تاريخنا الإداري والمالي، وضع اسمه من ضمن وزراء المالية في كتاب صادر عن الوزارة قبل سنوات، وهذا يقودنا حتمًا إلى ما سيأتي بيانه من أجل التاريخ فقط، وهو يزيد من مكانة الشيخ وقدره، ولا ينقص منها البتة.
هذا البيان هو التنبيه إلى أمر لطالما سئلت عنه وروجعت فيه، وهو أن الشيخ ابن عدوان قد عين عام (1377= 1958م) وزير دولة للشؤون المالية والاقتصادية بأمر صادر من الملك سعود، وكان وزير المالية والاقتصاد الوطني حينها هو الشيخ محمد سرور الصبان -رحمه الله-، ونظرًا لسفر الصبان خارج البلاد، وتغيبه عن حضور جلسات مجلس الوزراء؛ فقد صدر الأمر الملكي بأن يحضر ابن عداون بعض جلسات المجلس نيابة عنه؛ لصعوبة تخلف المالية عن هذا الاجتماع الدوري الرفيع، وهو ماكان لمدة شهور يسيرة، وهذه سابقة فريدة للشيخ عبدالله بن عدوان لم يشاركه أحد فيها حسب علمي، وفي بدايات عام (1378=1958م) أصبح الملك فيصل وزيرًا للمالية مع مهامه الأخرى، لكن ظلّ الشيخ ابن عدوان قريبًا من أعمال الوزارة اليومية، ويديرها لمدة أربع سنوات تقريبًا، دون أن يكون عضوًا في مجلس الوزراء، وهذا هو خلاصة ما وصلت إليه بعد كثرة سؤال، وطول تتبع وبحث.
توفي شيخنا العزيز جنابه يوم الأحد ثاني أيام عيد الفطر عام (1412= 05 أبريل عام 1992م)، والله يغفر لوزير المال وجليل الأعمال، معالي الشيخ العالم الأديب الكاتب عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله عدوان، وتقبل منه أحسن الذي عمل لصالح بلاده، وحكومته، وولاته، وأناسه في المملكة قاطبة أو في الرياض وحريملاء على وجه الخصوص حتى امتلأت قلوب أهلها بمحبته وتوقيره، وحقَّ لهم وله. وأسأل المولى أن يزيد فينا من هذه النماذج الجامعة للمحاسن والمحامد في خاصة نفسها وعامة شأنها، وأن يطرح فيهم البركة ويكتب لهم العون والتوفيق؛ ذلك أن منافعهم ومسؤولياتهم شتى شاملة شافعة لهم بالدعاء والمحبة.
الرياض- الثلاثاء ثالث أيام عيد الفطر السعيد عام 1446
الأول من شهر إبريل عام 2025م