سير وأعلام

مطلب النفيسة: الوزير الأستاذ والقانوني النبراس

رحم الله الوزير الرفيع طرازه، ورجل الدولة الكبير مقداره، معالي الدكتور مطلب بن عبدالله النفيسة (1356-1446)، وجعل ما أصابه سببًا في التكفير ورفعة الدرجات، وصيّر ما ترافق مع خبر رحيله من ثناء عاطر مستحق، وتبجيل وإطراء، مئنة على الرضا الإلهي، وإحدى علامات عاجل بشرى المؤمن، والله يجعله في مثواه البرزخي في سعادة تفوق سعادة العبّاد بعيدهم، وفي طمأنينة وأمن وانتظار جميل للآتي، ولنا العوض الطيب، والخلف المبارك.

ومع أني كتبت سابقًا عن معاليه مقالًا وجد من الانتشار اللافت ما سرني سواء عقب نشره، أو بعد إعلان الديوان الملكي لخبر وفاته، إلّا أني أجد في نفسي الرغبة لكتابة أخرى عن رجل أحببته ووقرته منذ صغري إلى أن اكتهلت، والكهولة -يا قوم- تبدأ من أول الثلاثينات كما لا يخفاكم، والله يديم معرفة الفضل بيننا. وقد حرصت على أن تكون هذه المادة قصيرة، وجمعًا لمتفرق، وفيها الجديد المختلف عن المقال السابق، والله يوفق ويسدد، ويغفر لراحلنا العزيز الذي أصبح بوفاته عدد الراحلين من المرتبطين بالعمل إبان رحيلهم في مجلس الوزراء خمسة عشر شخصًا.

فمن خبر معاليه فيما يخص عضويته المجلسية، أنه أقدم أعضاء مجلس الوزراء الحالي في تاريخ العضوية، وفي مدتها، ويشاركه في ذلك معالي د.مساعد بن محمد العيبان. أصبح د.مطلب عضوًا في المجلس مع التكوين الجديد له في عهد الملك فهد عام (1416=1995م)، واستمرت عضويته في ستة تكوينات متوالية منذ عام (1416) حتى عام (1444)، وعمل مع ثلاثة ملوك هم الملك فهد والملك عبدالله -رحمهما الله-، والملك سلمان -حفظه الله وأمتع به-. وفي الإبقاء على عضويته مع مرضه دليل على مكانته، وتأكيد على حسن رعاية الدولة لرجالاتها المخلصين. وللعلم فإن د.النفيسة واحد من ثمانية وأربعين وزير دولة أعضاء في مجلس الوزراء خلال تاريخ المجلس الموقر، وهم من الأعضاء ذوي الخبرة والتأثير والعمل المتشعب المجهد.

كما أن الدكتور مطلب من قدماء السعوديين الذين درسوا القانون في كليات عربية وعالمية عريقة، وهو واحد من واحد وعشرين وزيرًا ممن تخصصوا في القانون، علمًا أن أكبر اجتماع للوزراء القانونيين في العضوية المجلسية حصل في عصر الملك سلمان في المجالس الثلاثة التي أمر بتأليفها حتى الآن. وهو من الوزراء الأكاديمين، الحاصلين على الشهادات العليا، وممن ارتبط بالعمل في مؤسسات تعليمية كبرى مثل معهد الإدارة، وجامعة الملك سعود، ثم في شعبة الخبراء التي صار اسمها هيئة الخبراء إبان ترؤس ابن رياض الخبراء لها، وهي موافقة لطيفة!

ومما يلفت النظر في سيرة المطلب النفيس ومسيرته، كثرة واصفيه بالأستاذية والمرجعية، بل وبالمرتبة الأولى بين زملاء التخصص، وهذا الوصف لا يقتصر على طلابه؛ فذلك مفهوم خاصة عندما يجيد الأستاذ تحريك أذهان تلاميذه، وتثوير المسائل معهم، وتدريبهم على تجاوز المعلومة إلى كيفية البناء والتأسيس، وكيفية النقد وإعادة الرصف. وقد نعته بهذا الوصف السامي المرتبط بالتعليم والإمامة في الفن زملاء العمل معه في قلاع التعليم، وفي مصانع القانون بالشعبة والهيئة، وفي مجلس الوزراء، وفي اللجان الدائمة والمؤقتة؛ بل غدت مشاركته مجلبة للثقة بعمل متقن خال من الثغرات، وقد قرأت ذلك، وسمعته من أفواه الشهود مباشرة.

يقودنا ذلك إلى عضوية د.مطلب التاريخية في لجان كتابة الأنظمة الأساسية الثلاث، بعد أن عملت عليها لجنة مكونة خصيصًا لهذا الأمر المهم، وفيها عدد من المشايخ والقانونيين، ولإضافة معاليه في ذلكم التوقيت الحاسم ما لا يخفى من معاني التمكن والثقة والكفاية. هذا غير أنه مع كل نظام صادر يفترض مروره عليه إن في هيئة الخبراء، أو في مجلس الوزراء. ومن بديع ما سمعت وقرأت، أنه يحرص على الارتقاء بالمستوي العلمي النظري، والمستوى التطبيقي لمن يعمل معه، إن في إعداد النظام، أو صياغته، أو في مراجعته، وفحص متانته، وفي هذا السياق ظلّت سنته الحميدة باقية صبيحة كل يوم في هيئة الخبراء باجتماع مستشاريها، وكم في نقاش ذوي الشأن من فائدة وإثراء، ومنه الحرص على استقطاب الأذكياء النابهين، وابتعاثهم.

كذلك ألزم أبو خالد نفسه بطول الصمات على وفرة درره، وكثرة الاحتجاب عن الإعلام مع قوة حجته، وربما أن عماد فلسفته يقوم على أن العمل سيدل على صاحبه، وأن اكتمال الوعاء يناقض الضجيج الناجم عن الفراغ، وأن السنابل الممتلئة تنحني متواضعة وهي عالية. ومن عظيم ما سمعته أن أحد الوزراء رشح أحد المختصين ليعمل معه وكيلًا لوزارته، ولم يعلم هذا الوكيل أن الترشيح الأول جاء من الدكتور مطلب إلّا بعد عقود من العمل، وبعد تقاعد الوكيل، وليس هذا فقط؛ بل عرف المرشح هذه المعلومة من غير صاحب المعالي النفيس جوهره ومخبره! إن الكتمان الرشيد خلة لا تخطئها العين في الكبار والأكابر.

وعند معاليه صبر بالغ، وجلد متواصل، على النقاش والجدال، وتقدير عظيم لبواعث بعض الآراء والاجتهادات؛ فهو لا يلوم أصحابها، ويحسن الظن بهم وبدوافعهم المخلصة، ولا يمانع من التعاطي معها ومعهم، بلا تبرم ولا رفض لأساس مبدأ النقاش والحوار، وتلك الخلة لعمركم مسلك شريف، وخطة رشد، وسمة نفاسة، وطريقة في حسن السياسة، و علامة على الكياسة، وهذا ما أهله في هيئة الخبراء للرئاسة، ومع الوزارء بالعضوية الطويلة، والله يجعلها من مثقلات صحائفه بالحسنات التي بها ينجو عند مولاه، وتعلو درجته حين يلقاه. قولوا: اللهم آمين!

 ahmalassaf@

الرياض- ليلة الأحد أول أيام عيد الفطر المبارك عام 1446

30 من شهر مارس عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)