للأسماء دلالة على حامليها في الغالب الأعم؛ ولأجل ذلك ورد الحث في السنة المطهرة على حسن اختيار الاسم. هذه مسألة مهمة، والتنبيه إليها تزداد الحاجة إليه مع كثرة شيوع أسماء أجنبية، أو رخوة، أو حتى بلا معنى معروف أو متفق عليه. وعندما أتأمل ما أحفظه وأسمعه عن سيرة العم العزيز عبدالعزيز بن محمد بن سليمان بن عبدالمحسن بن عبدالرحمن بن عساف (1331-1406= 1913-1985م)، أجزم بتوافر معنى اسمه في شخصه ومسلكه ومسيرته، وبتوافق الاسم والمسمى لدرجة الاتساق. وربما أسماه والده على عمه الجد عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالرحمن بن عساف -رحم الله الجميع-، وهذا مجرد ظن غالب حسب الدارج في مجتمعنا.
تيتم العم مبكرًا؛ إذ توفي والده عام (1337=1919م)، والذي يبدو أن وفاة العم محمد كانت بسبب وباء الإنفلونزا الإسبانية المشهورة في تاريخ نجد بسنة الرحمة أو سنة الصخونة، وهي وفاة مبكرة، إذ ترجل عن دنياه تاركًا خلفه ولدين هما: ابنه عبدالعزيز، وابنته العمة حصة (1335-1415= 1917-1994م). للعم محمد أخ واحد هو العم عبدالرحمن السليمان الذي توفي بعد أخيه بمدة عن بنت واحدة هي العمة حصة التي توفيت عام (1370=1951م) تقريبًا، علمًا أن زوجة العم عبدالرحمن وأم كريمته الوحيدة هي نورة بنت محمد العبدالعزيز المنيع، رحم الله الجميع.
عاش العم أبو سليمان تحت كنف والدته نورة العثمان العقيل -رحمها الله-، التي توفيت إبان مشاركة نجلها الوحيد مع جيش الملك عبدالعزيز لإخماد تمرد ابن رفادة عام (1351=1932م). وبعد انتهاء المشاركة العسكرية قرر العم أن يضرب في الأرض متاجرًا مع قوافل العقيلات، كما صنع قبله الأعمام والأجداد وجمع كبير من أهل الجواء وبريدة وعنيزة وعامة بلدان القصيم، ولم يتراجع عن خوض التجربة لصغر سنّه آنذاك؛ وهذا ليس بمستغرب على من شارك في الحروب شابًا حين يطرق باب الأعمال بلا وجل وبقوة قلب. وقد طاف في بلاد الشام والعراق لتحقيق هذه الغاية، حتى تجمعت لديه خبرة تجارية جيدة، وسمعة تسبقه بالثناء العطر والطيب الفواح، وكسب شيئًا من المال جعله يسارع للاستقرار في بلاده، ويبدأ مشواره التجاري الثاني الذي به يكتفي ويزداد عزة واستقلالًا.
ولأن خطوط سير العقيلات تعبر من شمال المملكة، فقد عرف العم تلك الديار وأهلها وقبائلها، فاتخذ له منزلًا في الجوف أوائل السبعينات الهجرية مثل كثير من أبناء جماعته، ليكون مستقرًا ومنطلقًا تجاريًا له، لكنه مالبث أن انتقل إلى مدينة عرعر الناشئة حديثًا على خط الأنابيب. في هذا الانتقال السريع اغتنام ذكي لفرصة سانحة في العمل التجاري وهو ماكان، بيد أن العم الذي تجري التجارة في أمشاجه، لم يقنع بالتواصل مع الوسطاء المحليين فقط، وإنما أكثر الترداد على الكويت؛ لأنها الميناء التجاري الأهم حينذاك، وبنى له علاقات تجارية مع كبار تجارها، فأصبح يستورد منهم البضائع، ويبيعها بالجملة أو بالتجزئة.
اشتهر العم أثناء عمله التجاري الطويل بمزايا يعز اجتماعها خاصة في طائفة التجار، منها أن كلمته واضحة صادقة، وأن التزامه الشفهي يعدل الميثاق المكتوب بحبر لا يجف، حتى لو لم يشهد على كلمته أحد. ومن خصاله التجارية جرأته المدروسة حتى قيل عنه: لو كانت السبل ميسرة لسعى من أجل تجارته صوب أبواب الصين غير هيّاب، ولا غرو أن يفعل ذلك، فهو منغمس بالعمل، ويبلغ عنده المرتبة الأسمى، والشغف الذي لا يدانى، حتى أني سمعت والدي -رحمه الله- يقول: إن عمي يقدّم العمل على أي متعة أخرى حتى لو شرع فيها؛ فهو مستعد لتركها من أجل العمل.
ومن مزاياه التجارية الضبط بالكتابة؛ فيعرف ماله وما عليه، ومع الضبط فهو متعاون في التعاطي التجاري، ويمهل من يطلب الإنظار أو الإرجاء لأمد وإن طالت المدة. كذلك من بصيرته الاستثمارية المسارعة لشراء عدد من العقارات؛ فكل تجارة -مهما كانت- ستخر خاشعة أمام سطوة العقار وثباته وقوته. ومن أجلّ ما سمعته نقلًا عن الوالد قوله: مع كثرة حضور عمي في الأسواق، وتوارد النساء أمامه بكثرة، إلّا أنه لا يتبع بصره لأي امرأة قط؛ وإن صنيعه الأشم هذا لمن التعفف وقمع النفوس عما زينه الله لها تزيينًا شرعيًا، وعمّا زينه الشيطان الرجيم لها بالهوى والميلان، وهو خلق عزيز نادر منذ القدم.
أما في الشأن الاجتماعي فللعم سمات رشد عظيمة، منها أنه يراعي علاقته الأصلية بأقاربه وأهل مودته، ولا تتأثر من أي طارئ قد ينغص هذه العلائق ولو كان بثقل وقع الطلاق. ومنها فرحه بميلاد الأجيال الجديدة؛ فقد حدثتني الوالدة -رحمها الله- أن أبي حين بشّر العم بميلاد شقيقي أ.د.عبدالله -حفظه الله-، اختلطت منه شهقة الفرح بعبارات الحمد والشكر لله. وأذكر أن حرص العم علينا -ونحن بمثابة أحفاده -كان علامة ظاهرة؛ فقد نظر إليّ مرة وخاطب والدي قائلًا: أحمد يحتاج إلى مستشفى!
هذا كله لايقاس بعظيم محبته للوالد، حتى أنزله من نفسه مكانًا ربما لم يبلغه أحد. وعندما أصيب الوالد بجلطة قلبية عام (1404=1984م) ظلّ يتواصل معنا يوميًا للإطمئنان، وأصر على مرافقته في المستشفى لولا رفضنا مراعاة لوضع العم الصحي الذي أصيب بالمرض منذ عام (1403=1983م) وبدأ ينسى أسماء الآخرين إلّا اسم والدي من ضمن قلة علقوا بذاكرته كما سكنوا في سويداء قلبه. ومن طريف مواقف العم التي تبين عن صرامته وحسن تصوره للأمور، أن أحد جلاسه قال له: عديلي أغلى من أخي! فنهره العم؛ إذ كيف يحل العديل -زوج أخت الزوجة- في موضع الأخ مهما كان عليه العديل من حال؟! وهذا الرأي يدل على توافر منطق لدى العم يعصمه من الزلل، ومن سوء التصور.
كما كان العم الذكي الزكي صاحب نظرة استشرافية متجاوزة للعرف السائد؛ إذ بادر لتعليم بناته دون تردد، وأصبحت بناته النبيلات من أوائل المتعلمات في جيلهن، وحجة العم في تصرفه الرشيد أن التعليم يمنح للمرأة علمًا ووعيًا تحتاجه في حياتها، وعند أداء رسالتها البيتية والمجتمعية المهمة، وأن التعليم ربما يصبح سببًا لاستغنائها عن الناس. وهذه اللفتات التربوية لم تقتصر على البنات، ولذلك أثمرت تربيته لأبنائه الستة وبناته السبع، عن ذرية طيبة زادها الله بركة وخيرية ونماء، إن ربي لسميع الدعاء. ومن خبر العم في ذوقه الرفيع، وخياراته الشخصية، شغفه بالسجاد، والتحف، وتعليق الجميل منها على جدران منازله، وكذلك عنايته بأن تكون سفرته الدائمة أفخر من المعتاد بما تحويه من أواني وغيرها.
وقد أصيب العم في أواخر عمره بمرض منهك، وبدأت صحته في الهبوط حتى وافاه الأجل يوم الأحد 10 من شهر ربيع الآخر عام 1406= 22 من شهر ديسمبر عام 1985م، و مضى إلى ربه راضيًا مرضيًا، عذب السيرة، طاهر الإزار، خفيف الحمل، وصلي عليه في جامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض، ودفن في مقبرة العود، وربما أنه آخر من دفن فيها قبل أن تغلق. وإن أنسى؛ فلن أنسى الحزن الذي حلّ في قلب أبي، وغمر نفسه، وظهر على محياه، حينما نعي إليه عمه، وكيف لا يغدو وقع النبأ كذلك، وهما اللذان تبادلا صافي الوداد، وخالص الحب، وعميق الوفاء، وبعدما ترحل عن عالمنا أسبقهما، أدام له صاحبه جميل الأحدوثة، وعبق الثناء، وصادق الدعاء.
الرياض- الخميس 20 من شهرِ رمضان المبارك عام 1446
20 من شهر مارس عام 2025م
21 Comments
الله يرحم و يغفر لجدّي عبدالعزيز و يسكنه فسيح جناته و نعم الرجل و السمعه الطيبه المشرِّفه ..🤍
جزاك الله خير على الكتابه الرائعه .
آمين ولكم الشكر.
غفر الله لجدي عبدالعزيز العساف و أسكنه فسيح جناته ووالديك ، مدونة جميلة جزاك الله خير أستاذ أحمد
اللهم آمين والله يرعاك ويحميك يا رغد.
رحم الله جدي و غفر له و اسكنه فسيح جناته
ونعم الرجل و السمعه الطيبه المشرفه
ترك اثر طيب اللهم اجمعنا به في جنات الفردوس الاعلى 🤍
جزاك الله خير على الكتابه الرائعه 🙏🏼.
اللهم آمين، والله يحفظك ويبارك فيك يا غادة وأنت معروفة بدون تعريف، رحم الله والدك، وحفظ أمك، ووفقك.
رحم الله الجد عبدالعزيز واسكنه فسيح جناته، لا يزال جدي عبدالعزيز مضرب لنا في شهامتة ومكارم أخلاقه، جمعنا الله وإياكم بوالدينا في جناته. جزاك الله خير على المدونة الرائعة أخي أبو مالك.
اللهم آمين والله يرعاك ويوفقك يا سلطان.
رحم الله جدي عبدالعزيز وغفر الله له ..ونعم الرجل ..سيرة عطره رجل مكافح مربي فاضل ..جزاك الله خير على هالكتابه الرائعه التي اشعلت مخيلتنا ونقلتنا لزمنه رحمه الله
رحم الله جدي عبدالعزيز وغفر الله له ..ونعم الرجل ..سيرة عطره رجل مكافح مربي فاضل ..جزاك الله خير على هالكتابه الرائعه التي اشعلت مخيلتنا ونقلتنا لزمنه رحمه الله
اللهم آمين، وشكرا لك يا أبرار، والله يحفظك.
رحم الله العم عبدالعزير واسكنه فسيح جناته؛ كان عف اللسان اليد والبصر، ورغم جديته إلا أنه كان مبتسماً، بشوشاً ، والأهم من هذا وذاك الحب الكبير المتبادل بينه وبين أبي رحمهم الله جميعا، والذي ورثناه ونشأنا عليه منذ نعومة أظفارنا.
حفظنا ذلك الود وترجمناه في صلتنا وحببنا بكل من يتصل بعمنا من ذريته واحفاده وزوجاته رحم الله الجميع.
العم عبدالعزيز اشتهر بحبه للتجارة وقتناص الفرص، فكان من أوائل من استورد بضائع من الصين عن طريق الكويت عندما لم تكن هناك علاقات دبلوماسية بين السعودية والصين أنذاك.
من الغريب في توارد الأفكار أنني قبل أيام قلائل كنت أفكر بوالدنا رحمه الله عندما تلقى نعي عمي وكيف تغير لونه وخيم عليه حزن لم اره من قبل.
أولئك أبائي رحمهم الله جميعا.
شكراً أخي العزيز أبامالك على استحضار ذاكرة التاريخ ليطلع عليها من لم يشهد ولم يعاصر كرام الرجال، ويتعلم من مآثرهم وعصاميتهم وخلقهم العظيم.
شكرا لك أخي العزيز أ.دعبدالله، والله يرعاكم.
رحمهم الله جميعاً وغفر لهم اجمعين
اللهم آمين
صحّ قلمك وزادك الله من فضله وأحسن إليك خالي الغالي أحمد، مقالك أثر بي جداً، فكأني عاشرت جدي طوال حياته رحمه الله وجمعنا به ووالدينا ووالديهم وذرياتهم بجنات النعيم.
الله يرعاكم يا عبدالرحمن ويوفقكم. كان العم عظيما ولو عاصرتموه لسعدتم به وسعد بكم.
رحم الله جدي حسن السيره والخلق
فهو دائما قدوتي من حديث والدتي وقصصها عنه رحمه الله ووالدينا ووالديك واسكنهم فسيح جناته
جزاك الله خير على المدونه الثريه والاكثر من رائعه.
اللهم آمين وشكرا لك يا عبدالعزيز، ونعم من به اقتديت رعاكم الله
رحم الله جدّي عبدالعزيز و غفر له ، مدوّنة رائعة مؤثرة و سمعة نفتخر بها ، جزاك الله خير 🙏🏻
اللهم آمين والله يحفظك يا شوق