سير وأعلام عرض كتاب

الفيصلان المباركان علمًا وأدبًا ونسبًا

قال الشيخ فيصل كلمة ما أعذبها لطالما سمعتها من والدي -رحمه الله-. لم يكن الوالد من طلبة الشيخ الجليل، ولكن مشاركته مع الجد والعم -رحمهما الله- في قوافل العقيلات، جعلت له صلة وإقامة بمنطقة الجوف، وبالتالي وجد في دروس الشيخ فيصل ما يشبع نهمته للعلم والمعرفة، وربما أنه مدّ بها حبال الصلة مع أيام جلوسه المبكر في حلقات الشيخ ابن سايح في عيون الجواء -رحمهم الله جميعًا-.

مما أذكره أن الوالد رجع من إحدى رحلاته التجارية، وذهب لأداء صلاة المغرب مع الشيخ فيصل، وبعد الصلاة مشى خلفه  دون أن يشعر الشيخ الذي توقف وهو يتأمل ثمّ تنهد وقال: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ”، وأردف هذا الحديث بقوله: “إي والله قد عاد!”، وحين سلّم الوالد عليه سأله الشيخ: أنت من أهل العشاء؟! فأجابه بالنفي وأنه أتى للسلام فقط. وكان الوالد يروي كثيرًا من أقوال الشيخ فيصل في التفسير، وآرائه الفقهية، وشروحاته لأشراط الساعة.

ذلكم هو الشيخ فيصل بن عبدالعزيز بن فيصل بن حمد آل مبارك (1313-1376=1895-1957م)، المولود في حريملاء شمال العاصمة الرياض، والمتوفى في سكاكا بالجوف شمال المملكة. ينتسب الشيخ لأسرة عريقة في العلم والفضل والإمارة من أهل حريملاء، ويرجع لقبيلة عنزة العربية الأصيلة، ولسابقيه من أسرته مشاركات محفوظة مع الدولة السعودية خاصة الثانية والثالثة، وربما أن اسم فيصل دخل على هذه الأسرة الكريمة من علاقتها بالأسرة الملكية خاصة مع الإمام تركي بن عبدالله والد الإمام فيصل بن تركي -رحمهما الله- وهما مؤسسا الدولة الثانية، بعد أن استرجعا الملك والحكم غير مرة.

وبعد وفاة والده في معركة البكيرية عام (1322=1904م) كفله عمه وأمير حريملاء الشيخ محمد بن فيصل بن مبارك -رحمه الله-، وبدأ حياة الطلب بحفظ القرآن الكريم، وقراءة الأصول، والرحلة لتحصيل العلم عند أكابر أشياخ عصره في أنحاء نجد والأحساء وقطر، ثمّ نوى السفر إلى الهند لولا أنه وجد بغيته لدى الشيخ محمد بن مانع. وقد ظفر الشيخ فيصل بتقدير أشياخه، وحسن تفرسهم به، ونال فيما بعد تزكيات من عارفيه وطلابه ومؤرخي الحركة العلمية في البلاد.

عُني الشيخ بالعلم طلبًا وتعليمًا ونشرًا حتى لو هجر دياره من أجل تحقيق هذه الغاية الشريفة، ولذلك صار له أبرز الأثر خاصة في منطقة الجوف. ومع العلم عمر دهره بالعبادة والتقرب لمولاه بغية النجاة يوم يلقاه، وأضاف لهما سعيه في الإحسان قدر وسعه، وقد مرّ بنا ما يفيد أنه يضع العشاء لمن شاء، وهو فوق ذلك كله زاهد بما في الدنيا، خرج منها بلا أموال ولا أملاك، بل تبرع بداره في حريملاء لتصبح المكتبة العامة فيها. كما كان منصرفًا عما في أيدي الناس، غير مقبل على الثناء ولا راغب فيه، ومن ذلك أنه حين قرأ ترجمته المكتوبة، بكى ثمّ كتب: “اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي مالايعلمون”.

ثم فتح الله على الشيخ بالتأليف في عدة فنون من علوم الشريعة واللغة، وهي مطبوعة ونال بعضها العناية والدرس من طلابه وأسباطه وغيرهم، وامتازت مقدمات بعض كتبه بشيء من خبر الشيخ مع العلم، وحبه للعلوم الشريفة خاصة ما تعلّق بالوحيين المقدسين. وله مجموع علمي فيه متون تفيد طلبة العلم، وربما أن مصنفه هذا هو الأول من نوعه، وبعده توالت المجاميع والمتون. ولم يمنعه من غزارة التأليف كثرة التنقل بين مدن المملكة سواء بمهام شرعية في القضاء والتعليم والإمامة، أو ضمن مشاركات عسكرية وسياسية بأمر من الملك عبدالعزيز، وهو الرجل البصير بمعادن الرجال وما يصلحون له من شأن أو شؤون.

لقد كان الشيخ فيصل رجل علم وزهد وقضاء، ورجل دولة وإدارة ورأي، وصاحب هم كبير في الدعوة والتربية واالإصلاح والحسبة، وله حكمة وبعد نظر في مسائل القضاء بعامة، ومسائل الأسرة على وجه الخصوص حتى أنه دلّ من طلّق زوجته إن هي خرجت من الباب بأن يسدّ ذلكم الباب ويفتح غيره كي ينتهي الإشكال. إن هذه السمات الجليلة هي التي جعلت منه رمزًا علميًا وقضائيًا ومجتمعيًا خاصة في تاريخ الجوف منذ بعثه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إليها قاضيًا وإمامًا وخطيبًا عام (1362=1942م) إلى وفاته بعد ذلك بخمسة عشر عامًا. وقد ألفت عن الشيخ كتب عدة من طلابه والباحثين، وجلّ ما ورد أعلاه منقول عن كتاب عنوانه: “معالم الوسطية والتيسير والاعتدال في سيرة الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك” لسبطه الشيخ محمد بن حسن بن عبدالله آل مبارك.

أما الفيصل المبارك الثاني فهو العالم الأديب فيصل بن محمد بن فيصل بن حمد المبارك (1319-1379=1902-1978م) المولود في حريملاء والمتوفى في جدة. وقد نشا الشيخ فيصل بن محمد نشأة صالحة، وتربى تربية علمية على يد والده الشيخ محمد بن فيصل أمير حريملاء حينذاك، وواصل التلقي على يد عدد من مشايخ نجد والحجاز، وعلى ابن عمِّه العلامة الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك. وقد امتاز الشيخ الأديب بالذكاء والبداهة والحافظة.

انتدبه الملك عبدالعزيز لأداء أعمال مالية وعلمية في شرق المملكة وجنوبها، وساعد والده في قضاء الشارقة، إلى أن أصبح قاضيًا لها، وأحد رموز الفتيا والإرشاد فيها. وعاد عقب ذلك إلى المملكة للعمل في الحسبة بالحرم، والتدريس بمدارس الفلاح، ثم أصبح مستشارًا بالمحكمة التجارية وهي من أقدم المحاكم في الدولة السعودية، وسماه الملك عبدالعزيز عضوًا في مجلس الشورى القديم بالحجاز، وهذا ماجعله يقيم في الحجاز نصف قرن تقريبًا.

وللشيخ الأديب أشعار وقصائد ومساجلات ومسامرات ومقالات وطلاب منهم وزراء ووجهاء، وله وقف بالشارقة، وقد جمع كل ذلك الشيخ محمد بن حسن آل مبارك في مقال طويل عنه أنقل. ومن رثاء الشيخ الأديب لابن عمه وشيخه الشيخ فيصل قوله:

على النفس الزكية يا رُبوعي *** أفيضي ما خبأتِ من الدموع
وبَكِّي ما أردتِ أن تبكِّي *** وزيدي في الأنين بلا هجوع
فقد خطف المنون كريمَ قومٍ *** يعزُّ لموتِه صبر الجميع

ومما وقعت عليه خلال تتبعي لسيرة د.عبدالرحمن الشبيلي، أنه انتدب من الشيخ محمد بن جبير -رحمهما الله- لكتابة رد هادئ رزين على مقال نشر ينتقد مجلس الشورى في أوائل تكوينه الجديد، ولما عرض الشبيلي مقاله على شيخه، تعجب الشيخ من الاسم القلمي الذي اختاره أبو طلال لمقاله -لأنه عضو في المجلس حينها وأراد تجنيب الرد أي صفة رسمية-، وهذا الاسم هو فيصل المبارك! فقال ابن جبير للشبيلي: وما أدراك أن فيصل المبارك من أوائل النجديين الأعضاء في مجلس الشورى القديم؟!

اللهم اغفر لوالدي ولجميع الراحلين المذكورين من زعماء وعلماء ووجهاء، وابق اللهم فينا العراقة والأصالة، التي تدفع المجتمع لحفظ مآثر أكابرها، ومعرفة فضلهم وخيريتهم وبركاتهم، وتحفز نبلاء الأسر للعمل على حفظ مفاخر أعلامها كما صنع الكرام من آل مبارك وغيرهم، وهو جهد قمين بأن يشكر ويثنى عليه ويؤازر، حتى يترك المؤرخون والكتّاب لمن يأتي بعدهم آثارًا من الفضل والعلم والعمل الطيب المبارك في حاله ومآله وثماره.

ahmalassaf@

الرياض- الاثنين 27 من شهرِ رجب عام 1446

27 من شهر يناير عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)